حتى تفهمَ أدبًا بعينه، يتحتم عليك حينها أن تَعيشه بصميمك، أن تنزلقَ في عَالمه، وأن تسمح له بأن يُدون وجودكَ كدورٍ مهم في صياغة اكتماله، أو في تعددية صوره التي يظهر بها. ألا يتوقف إدراكُك على القراءة، أن تتجاوز ذلك، وتخاطر إلى الحد الذي تشعر فيه أنك –وعلى غرار ما قام به جورج– أمام منعطف لبناء عالم يخصك وحدك.

لو أن "أشياء" جورج بيريك بقيت كما هي، مدونةٌ في ذاكرة 1965 حين كتبها، ومدونة الآن أمام مرأى قارئ مجهول... كوب النسكافيه الفارغ يُفرغ بقايا رائحته المُرة في الجو، أسطوانات الموسيقى –التي في أية آونةٍ فجائية– ستصدح بأحد أغاني فرقة "ذا بلاترز" الستينية: "أنت وحدك من يستطيع أن يجعل هذا العالم يبدو صحيحًا"، الظِلالُ التي ستتمدد من زاوية ما في غرفتك، ونداءاتُ بائعي الحليب التي ستتفقد وجودها حالماً تتناهى إلى مسمعك؛ ربما من الشارع المجاور، أو أسفل شرفتك، أو حين يقع بصرك على هذه الكلمات، مشغولًا بالنظر في الورقة، ومنكبًا في أحرفها:
"السقف الذي تُعيد اكتشافهُ في كلِ لحظةٍ"
(جورج بيريك، رواية النائم)
سترفع ببطء ذقنك، وستُعلق ناظريك بتلك المساحة في الأعلى، في الشيء الذي لطالما كان موجودًا، فارغًا، وهامشيًا، وستتساءل حينها: أيهما يجب أن أختار، الشعور بأن الأشياء قد أثرت بي، أم أنها لم تعد تملك قابلية التأثير فيّ بعد الآن؟
قاوم جورج شيخوخة الساعة، والرخاوة المتبلدة التي تبدّت من عادية الأيام، في عالم كان يتقدم حينها بأسرع مما يجب، وبأقل مما يمكن الشعور به، لكنه أنعشها، وجرّها من عديمة الاحتمالات، من تلك القوة الزمنية التي تحول كل شيء إلى نقيضه، عبر تفحص أدق الأشياء، عبرَ تدوينها، ورسمها مجددًا بالكلماتِ. هذا الفعلُ الكتابي الذي يتبدى من خلالِ حالةٍ فنية تصوغُ في وجودها حالة متناسقة منها؛ الخلود، وعبر التكرار، فالأشياء المكررةُ المتوالية تشبه –في صنيع الفنان– عملياتِ محاكاتهِ، وفي الصميمِ وحده، فإنها تبزغُ كمحاولات لمجاراةِ العالمِ، عبر خلق عالمٍ آخر أكثر وضوحًا للصورةِ النفسية التي ترقد في أعماق الأديب. هذا ما فعلهُ إدوارد مانيه حين قام برسم الكاتدرائيةِ ذاتها في أوقاتٍ مغايرة من اليوم؛ فجرًا، ظهرًا، ليلًا. لقد أظهرها من صورتها الفيزيائيةِ المجمدة، إلى حالاتٍ أقرب للأثيرِ المتحرك. سيقال بأنه عمل مجنون، مُصاغٌ من آلاف الأشياء المُهمشةِ والثمينة، لكن انتظر، لنتطلع إلى هذه الصورة التي يستلقي فيها جورج بيريك أرضًا، إنها تمامًا إحدى محاولاته الموثقة التي أعاد فيها كل اكتشافاته للأشياء، وصياغاتهِ للمعنى المألوف.
فمن الغرفةِ الصغيرةِ آنذاكَ، والتي مثلت دائرته الحامية، كالليلِ الذي قلّما يجد المرء فيه، إذا ما اندسَ في جوفهِ؛ أي عارضٍ للخطر، ومع ذلكَ، كانت الغرفة عالمًا مصورًا من الأشياءِ: لون السجادة، الإنارة المائلة للصفورة، لفافاتُ التبغ، آلة الكتابة، الأصص القديمة، الملابس، الكتابُ المفتوح على صفحة ما، ورائحةُ الرطوبة، كُلٌّ يتدفقُ في تفاعلٍ غير منتهٍ، وحيّ، كُلٌّ ينبضُ في دورٍ ما، كُلها شخوصٌ في مسرحٍ يعجُ بأكداس الأشياءِ الأخرى، التي –بروحٍ أو دونها– تشكل حالات نفسية متفرقة، وتُعيدُ لجورج إحساساتهِ بالزمنِ.
غير أن هناك سمةً أخرى ذاتَ طابعٍ وجودي، سؤالٌ آخر، مُحير، نمعن رغبتنا من خلاله في توجيهه إلى جورج ذاته: هل كنت تحاول اكتشاف وجود الأشياء، أم وجودك؟ لا شكَّ أن إحساساتِ جورج بالأشياء من حولهِ قد أيقظت وعيهُ على الزمن، فلم يعد الأمرُ، كما يمكن أن يُلاحظ، مجردَ إسقاطاتِ ضوئية يُعلن فيها جورج عن وجودية الأشياء التي لم تعد مُهمة في محسوبيةِ زمنٍ متغير، فالأشياءُ صباحاً لا تكونُ نفسها في المساء، وما تمسهُ الشمسُ تطالهُ أيضاً الظِلال، إنها محاكاةُ لتغيرِ العالمِ والأَضداد التي تشكلهُ، ففي تلكمُ الغرفة ذات العتمةِ الخفية، ووسطَ سطوة العزلة التي تفرضُ في معناها لُعبةَ اختفاء الأشياءِ رغم وجودها، ينمو عالمُ متحرك، مخترقاً حدودَ الوحدة الضيقة، عالمٌ كامل بأشياءٍ حية، عالمٌ ناقصٌ بأشياء كاملة.