بين عتبات الألم وأوجاع الماضي

دراسة في رواية "تمنيت" لعبد المجيد محمد خلف

جوان سلو


الحزن.. عتبات الألم وأوجاع الماضي

الحزن يفترش الوجوه، يغمر القلوب، ويطغى على الروح بظلاله المظلمة. إنه شعور لا يُنسى، يترك أثره العميق على كل من يعاني منه. الحزن ليس مجرد مشاعر فارغة، بل هو جزء من الحياة، ورفيق للإنسان في أوقات الضعف والتجربة. إنه شقيق الذكريات المؤلمة، فكلما عادت الذكريات المؤلمة ازدادت حدة الحزن وتعمقه، حيث تحمل الذكريات وعتبات الألم أوجاع الماضي وأشخاصه الذين عبروا كظلال مارة في حياتنا، ترسم الصور الباهتة في خيالنا لحظات مضت بألوانها وأصواتها. وفي كل مرة ننشد الماضي بشخصياته ووجوههم، نجد أنفسنا نغوص في بحر الذكريات ونعيش مع كل لحظة حكاية جديدة، فماضينا يبقى مصدر إلهام وعبراً لمستقبلنا. حيث يبقى الماضي مخزناً غنياً بالتجارب والدروس، وعلى الرغم من الألم الذي قد يحمله، إلا أنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من رحلتنا ويساعدنا في بناء هويتنا وتشكيل مستقبلنا.

"ما أتعسنا نحن البشر! هذه الحياة التي نعيشها لا معنى لها؛ لأننا نعتقد في لحظة ما أننا حققنا السعادة، أو عشناها أياماً محدودة، إلّا أن الأشياء تظهر لنا عكس ما توقعناه في تلك الفترة، فنبقى نجترّ آلامنا".

في رواية "تمنّيت" للكاتب السوري عبد المجيد محمد خلف، التي صدرت الطبعة الأولى منه عن دار نفرتيتي. مصر 2020، والطبعة الثانية عن دار شلير في سوريا. قامشلي 2023. جاءت في 126 صفحة من القطع المتوسط، يُسلّط الضوء على الذاكرة وقدرتها على تخزين الأحداث والمواقف وإحيائها في الذاكرة. تتناول الرواية قصة حب مؤلمة عاشها بطلها "هوزان"، والفتاة "أناهيتا"، حيث يتمثل الماضي كجزء لا يتجزأ من حياتهما، وقصة حب "دلشاد وهمرين"، ويسردها بطل الرواية على لسان المدرس "شيار" الذي يعود ليعيش تلك اللحظات مرة أخرى في ذاكرة الجميع، سواء كانت جميلة أو مؤلمة.

الرواية تستعرض معاناة الحب الذي يترك آثاراً عميقة في حياة الأفراد، وتسلط الضوء على عواقب العلاقات العاطفية غير الصحية. تظهر الشخصيات في الرواية كمجسدات لفئة من المجتمع تميل إلى العبثية في علاقاتهم، مما يؤدي إلى تحول الحب إلى عذاب وتعب وسهر وضياع.

ويُظهر الكاتب أيضاً بلغة أشبه ما تكون للبوح السردي والمنولوج ما بعد الحداثة كيف أنه يتناول الشخصيات من خلف الحدث، لغة مدركة بعذابات القلب ومبللة بدموع الحسرة، فنجده يناشد أكثر من مرة الزمن كي يعينه على تجاوز اللحظات التي سبقت الحادثة، أو أنه يتوسل الزمن كي يسمح له بقول الحقيقة لمرة واحدة لربما لم تكن الأحداث تصل إلى ما وصلت إليه من فراق وندم وتغيير للمجريات. لغة ناقدة للمجتمع الذي سمح بأن يضعف، ويهمش الفتيات، ويجبرهن على تحمل الآلام والعذاب نتيجة للعلاقات السامة. فتبرز قوة الرواية في استعراض القضايا الاجتماعية بشكل مؤثر وواقعي، وتحث على التفكير في مشاكل الحب والعلاقات العاطفية في المجتمع.

"كلّ ذلك بسبب الحبّ، فالحبّ عذاب، إنني أتعذّب بسببك كثيراً! نعم. لا يمرّ عليّ يوم إلا وتعيشين معي بكلّ تفاصيل حياتي، وكلّ لحظاتها، أرجوك كوني رحيمة بي، أدركي حجم مشاعري وآلامي! لماذا لا تفهميني؟ أو لا يفهمني أحد حتى"؟!

إنها لحظة مؤلمة عندما تصعد الذكريات إلى السطح مرة أخرى، فتعيد لنا ذلك تذكيراً بألم الماضي ومعاناة الفراق. ومع ذلك، يمكن أن تكون هذه اللحظات أيضاً فرصة للتأمل والنضج، حيث نستخلص الدروس من الخبرات السابقة، ونتعلم كيف نتعامل معها بشكل أفضل في المستقبل. الألم الذي يثيره صعود الذكريات يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق للشفاء والتطور الشخصي.

الشخوص الروائية ورمزية الأسماء:

في عالم الأدب، تتخذ الأسماء دوراً مهماً في تعزيز المعاني والمشاعر، وتعكس أسماء الشخصيات صورة مساراتهم في القصة. حيث تعتبر هذه الرمزية جزءاً أساسياً من تجربة القراءة، حيث تساهم في فهم القارئ للقصة وتعزز التأثير العام للرواية.

فلكلِّ شخصية في الرواية من اسمه نصيب من الألم والحزن والتحديات التي تشكلت عبر تجاربهم ومواقفهم في الحياة. كانت أسماؤهم مثل بقايا ذاكرة ممزقة، تحمل تاريخاً مؤلماً وقصةً مليئة بالصراعات والانكسارات. ومع ذلك، كانت هذه الشخصيات تتحدى مع الحياة بكل شجاعة وإصرار، محاولةً تجاوز الصعوبات والظروف القاسية التي واجهوها. إنها قصة عن البقاء والنضج والتحول، حيث يُظهر كل اسم بريقاً من الأمل والقوة داخل أحداث الحياة المتشابكة. هنا نلقي نظرة على كيفية استخدام الأسماء بشكل رمزي في رواية "تمنّيت" للكاتب السوري عبد المجيد محمد خلف.

دلشاد: يعني "السعيد" أو "المبتهج". يتألف من الكلمتين "دل" التي تعني "قلب" و"شاد" التي تعني "سعيد"، لذا فإن معنى الاسم يمكن أن يفسر بأنه "الشخص الذي يمتلك قلباً سعيداً".
همرين: وهي حبيبة دلشاد، إنه مشتق من الكلمة الكردية "همر" التي تعني "حبيب" أو "عزيز"، ويضاف لها لاحقة الجمع لتصبح "همرين"، مما يعني "الأحباء" أو "الأعزاء".
أفين: "ماء الحياة" أو "الحياة". قد يكون مشتقًا من كلمة "آوا" التي تعني "ماء" أو "حياة".
هوزان: يعني "الفنان" أو "الموسيقي". يُستخدم في الثقافة الكردية للإشارة إلى الشخص الذي يتمتع بالمهارات الفنية والموسيقية.
أناهيتا: اسم كردي يُرتبط بالآلهة القديمة، حيث كانت آناهيتا إلهة الماء والخصوبة. في الثقافة الكردية، يُستخدم هذا الاسم للدلالة على الجمال والأنوثة.
شيار: وهو الراوي والمدرس الذي يسرد قصص طلابه الذين عانوا الحب، ويعني اسمه "المبادر" أو "القائد". يتألف من الكلمتين "شی" التي تعني "شيء" أو "أمر" و"آر" التي تعني "علم" أو "معرفة"، لذا فإن معنى الاسم يمكن أن يفسر بأنه "الشخص الذي يمتلك المعرفة ويتحرك بناءً عليها".

من خلال هذه الرموز، يعزز الكاتب فهم القارئ للمواضيع الرئيسة والمعاني العميقة في الرواية. تساهم رمزية الأسماء في إضافة المزيد من العمق والتأثير إلى تجربة القراءة، وتعزز الرسالة العامة للرواية بشكل فعّال.

وجه الحب الآخر:

الندم هو الوجه الآخر للحب، فهو يظهر عندما يدرك الإنسان أنه أهمل أو فقد شيئاً ثميناً في حياته، سواء كانت علاقة أو فرصة. يترتب على الندم شعور بالأسف والحنين إلى ماضٍ كان يمثل الحب والسعادة. ومع ذلك، يمكن أن يكون الندم أيضاً فرصة للتعلم والنمو الشخصي، حيث يحث الإنسان على تقدير الأشياء والأشخاص في حياته بشكل أعمق وأكثر اهتماماً. حيث يدفع الندم الشخص إلى اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل والسعي لتحقيق السعادة والتوازن الداخلي. هنا تبدأ القلوب في العودة إلى وكناتها، تستعيد الحياة طعمها الحلو مرة أخرى، ويتجدد الأمل والتفاؤل في المستقبل. يبقى الزمن هو الشاهد الوحيد على كل ما مر به العاشق والعاشقة، ويعلم بأن كل شيء مؤقت وأن الحياة مستمرة بكل تغيراتها وتحولاتها.

"لا بد لكلّ إنسان أن يضع حدّاً للأشياء التي تعذّبه، ويتخلّص منها، يبحث عن سبل أخرى، أكثر راحة وهدوءاً، أن يعيش على الأقل أيامه القادمة، لا يشعر بالندم على ما حلّ به في أحد الأيام، ولكنني أصرّ -أنا وحدي- على ذلك، أرسم ملامح ذلك العمر الذي مضى، وأعيدها إلى مخيلتي من جديد، لأشعل قلبي بنارها التي يظهر أنها لن تخمد أبداً؛ طالما أنا على قيد الحياة".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها