تَغْرِيدُ الْحَسُّونِ

محمد السيد عبد العال


حبست في قفصٍ منذ دقيقتين.. قفص صنعه حدادٌ ماهر، قضبانه متعامدة، لا تسمح بخروج أدق الأجسام. له باب صغير ربما يسمح بمرور قليل من الحبات، أو كوب صغير به بعض رشفات الماء التي تكفي لساعتين أو ساعة واحدة، إذا كانت الحرارة متوهجة كهذا النهار. أمي.. لا أتوقف عن التفكير فيها. لا بد أنها قلقة مضطربة لغيابي، أذكر يوم أن غاب أخي الأكبر حينما غدا في سرب مع أقرانه صوب النهر، لا زلت أذكر عينيها وهي تقطر دمعاً بللت قطراته عشنا الصغير. كما لا أنسى أبداً رفرفة جناحيها اللذين كادا ينخلعان عن قلبها الصغير.

فرحةً بعودته، بعد أن راحت عيناها تغمره بفرحة البكاء. لم يمنعني محبسي أن أرى أسراب الطيور وهي تحلق في السماء، فأنا أرى أمي في كل الأسراب تغدو وتروح تبحث عني في كل مكان. صرختُ لأخبرها بمكاني، ولكن خدعني صوتي وتعلل وهو صادق باتساع الفضاء. أعلم أن أخي سينسل في الظلام وسينفلت من سربه عامداً كي يبحث عني، ولربما سيغدو ناحية البحر العميق، وسيحوم محلقاً فوق شجرة التوت، التي طالما شهدت سباقنا معاً كما شهدت عدْونا لامتصاص رحيق الأزهار، ولكنه لن يجدني وسيسير عامداً إلى بيت النحل، وسيقترب ويقترب حتى تلدغه إحداهن؛ حتى يعود إلى عشنا يخفي دموع وجده عليَّ في قرصة النحل، كي لا تضطرب أمي أمام دمعه الغزير.

ماذا عن أبي!؟ لقد وهنت صحته ولن تنهض عافيته للبحث عني لكنه لن يصمت؛ فالآباء دائماً لا تجهر بما تفعل، فلن يركن إن كفاه أخي مؤنة البحث بالتحليق والطيران صباحًا مساءً بحثاً عني، لن يمنعه ذلك الجرح الغائر الذي يظهر أثره على جناحه الأيمن الذي يروي تفاصيل تلك الحادثة القديمة، يوم انقض على عشنا ذلك النسر الجارح؛ ليلتهمني أنا وأخي ونحن في بيض أمي لم نخرج بعد للنور. أراه سيلهج بتسابيحه التي تعلمها عن جده الأعلى هدهد سليمان، ثم ينزوي في العش يخفي حزنه، لكنه لن يمكث طويلًا وسيذهب إلى أي مكان؛ أي مكان لا يرى فيه عيني أمي. أما عن وليفتي ليليان لقد وعدتها يوماً أن أبني لها عشاً في صخور الوديان جارة النهر، يومها سمعتني أمي وضحكت وقالت لي: آه لو سمعك سليمان الحكيم، نعم أعترف كنت أبالغ ولكن أين يضع العاشق حلمه المستحيل، إن لم يهمس به في آذان من يعشقها. إن أولى الناس بكلمات الهيام هي التي معها وبها ولها أوحيت ونسجت حروف الكلمات. أذكر أول يوم التقينا كانت تعبث بمنقارها الصغير وتداعب بعض ثمار الفاكهة في الحقول. يومها أخذتني ألوان ريش جناحيها الزاهي الذي يخطف الأبصار.. كانت تتعثر في الوقوف على الأغصان محاولة امتصاص رحيقه، تقف ثم تقع ثم تنهض وتحاول مرات ومرات. يومها اقتربت منها وفردت جناحيّ في الهواء ثم بسطهما لكي أقرب لها الأغصان المرتفعة؛ لتستطيع ارتشاف عصارة الرحيق اللذيذ. كم حلمنا معاً أن تجمعنا الأسراب المهاجرة فنرتفق معا المسير، فنشهد سوياً دفء الشتاء ولا نفترق للقيا شمس المغيب.. إني أعلم أنها هناك الآن.. لا، فأنا أراها بالفعل تمد بصرها جهة أشجار الصنوبر الباسقة شاهقة الارتفاع تنتظرني على وجل، تعلم أني لن آتي من تكرار الترقب والانتظار، لكنها أبداً لن تتوقف ولن تمل الانتظار، وهل سمي الحبس بهذا الاسم الكريه إلا لأنه يحبسني عنك، أتساءل هل من أمل أن أحقق غيب ترقب مشهدي يوماً من الأيام.. هل من أمل حينما تغمضين عينيك في كل مرة تشهق فيها لمشهدي الغائب.

مغرور أنت أيها الإنسان! ميزك الله بعقل؛ لتكون سيد الكائنات، فألنْتَ الحديد وصنعت منه محبساً لي.. ألم تنظر يوماً إلى جناحَيّ!؟ أتراهما خُلقا لأمشي بهما خطوات قصيرة في قفصك الصغير؟ ألم ترَ يوماً أسْراب الطيور غادية تضرب بهما الرياح، فتطوي فضاءً بعد فضاءٍ

أو لم ترنا يوماً ونحن نميل بهما صوب النهر لنحمل قطرات المياه من سفوح الأنهار؟

ماذا ستقول لأزهار الحقول بعد أن غيبتنا عنها إذ كنا رسل رياحها اللواقح المثمرات؟

ماذ تقول لذلك الفلاح بعد أن يتمت بلابلنا فما غدت تشدو له؟ مع طلعة الفجر الصادق كل صباح.. أتعلم أطفالك أن قيدي سعادة! سينكسر قيدي يوماً، وسيعلمون وقتها أني كنت أضحك لهم لا أضحك معهم.. تُرى كم سيتألمون؟

إن الصياد الذي يرميني ببندقيته ليقتلني، وكذلك الذي يأسرني في قفص من حديد كلاهما قاتل

فالأول يقتل قلبي ويوقفه عن النبض.

والثاني يبتر جناحي ويوقفني عن التحليق والطيران!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها