لقد مرت على وجود البشر حقب زمنية كثيرة، لكن هل توازي اكتشافاتهم مقدار ما عاشوه وما تتيحه الطبيعة من إمكانات؟ بالكاد لقد استطاع البشر التنقل من مرحلة وعي إلى أخرى خلال قدر مهم من الزمن، بحيث تحولوا بالتدرج من حياة الحيوان إلى حياة الإنسان، ثم استطاعوا الانفكاك من أسر الأسطورة وعانقوا عصر العلم والتجرِبة، وتحولوا من مجتمعات زراعية إلى أخرى صناعية فتكنولوجية وهكذا...
وكل ما تحقق خلال القرون الماضية لا يضاهي حجم التطلعات التي يشرئب إليها الإنسان، ولا تكاد تحيط بعشر ألغاز هذا العالم، الذي يبدو غارقاً في تعَقُّده وفي هول أزمته، بما يسمح بالقول بأن العلم به في حد ذاته هو ضرب من الجهل. وقد يأتي على الناس زمن يثبت فيه العلم أنه ليس علماً، وأن ما تلقفته العقول ردحاً من الزمن على أنه مبرهن عليه لا يعدو أن يكون ادعاءً فارغاً، بما يجر على العلم عار رعونته، ويستغلق الفهم عليه فلا يكاد يبين في وصف نفسه.
العلم نور.. العلم جهل
هذه قاعدة تبدو مستشكلة ظاهرياً بحكم أن العلم كما يقال نور، وأنه يفتح الفهم ويبدد الظلام، لكن ليس هذا هو الذي يراد من هذه المقولة العجيبة، وهي نظرية حديثة أثبتها البحث العلمي، وجاءت نقيضاً للرأي الذي يقول بأنه كلما اتسعت مساحة العلم ضاقت بالمقابل مساحة الجهل.
لكن التمعن في طبيعة العلم وفي محدوديته ونسبيته وتثاقل نتائجه، كلها عوامل تفيد في معرفة قدر الضباب الذي يحيط بنا اتجاه الموجودات واتجاه أنفسنا، فما ندعي معرفته هو جزء من جهلنا الذي يتسع مع إمعاننا في النظر وتأملنا في دقائق الأمور، بحسبان أن العلم في الأصل كاشف عن حجم الغفلة، وليس كاشفاً عن شيء معروف بالبداهة.
هذا بحكم أن تاريخ العلم هو بشكل ما هو نتاج عمليات الإزاحة والإضافة المتزايدة في نظرياته ومرتكزاته، ومن هنا تحدث العالم توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" عن "مفهوم التطور عن طريق التراكم".
لقد أبدع هذا الباحث الأمريكي إطاراً مرجعياً، من خلاله حاول فهم طبيعة تحول الأفكار العلمية، والتحول الذي تجري فيه ضمن سياقات متعددة. وتكمن فكرة توماس كون في إسهامه في ابتكار نظرية "النموذج الإرشادي"، الذي يعني جملة الأفكار والنظريات المعتمدة لدى فريق علمي في عصر ما لحل المشكلات البحثية وفهم الواقع؛ إذ في كل حقبة تاريخية تكون السيادة لنموذج إرشادي ما، كما تكون داخل العلم الواحد نماذج إرشادية متعددة ومتباينة، فهي بهذا ليست ذات طبيعة قياسية كما أن حقائقها نسبية.
خلال العام الماضي، ومع استهلال هذا العام ظهر في العالم عجزه الذي عرّى عن جهله ومقدار عدم علمه بجهله، وباتت صغار الأحجام من الفيروسات وسلالاتها تهدد مستقبل العالم وتكاد تعيده إلى حقب فتك فيها مرض الطاعون بأجيال من البشر، وغيّر كثيراً من محاسن العمران وبددها، واليوم يوشك وباء كورونا كوفيد 19 أن يعيد مساره إلى حالة الشلل العام والتام، الذي أصاب قروناً خلت، فيما عبّر عنه ابن خلدون بالانقباض والخمول.
ألم تسقط كل مقولات التقدم والازدهار والتنمية في مجالات الاقتصاد والتربية والإدارة، أما المنظومة الصحية فقد خرّت إلى الأرض صرعى من ثقل ما لحق بها من ضغط، أمام ما أبانت عنه هذه الجائحة الجارحة من ذكاء وتملص فريد، لم تستطع أن تدرك كنهه التكنولوجيا الطبية الحديثة، ولا المختبرات العلمية والمراصد الوبائية.
وأثناء هذه الحالة الرهيبة دخل العالم في سبات غريب؛ وكأنه مدينة مهجورة أو حي مغلق، وهو ينتظر ما يستنتجه العلم من نظريات تبدد النقم وتعيد النعم، وترفع عن العالم مؤونة الدهشة المحيرة، التي أعقبت رسوخ الوباء في أركانه وإثخانه في جراحه.
وإذا كان الخلق كلهم في حديث عن علم الأمراض والأوبئة وما تسفر عنه البرتوكولات الصحية في العلاج، إلا أن ما غاب عن الأذهان هو "مرض العلم" نفسه؛ لأنه كما تمرض الأبدان فإنه تمرض الأفكار، وقد ظهر حينئذ حاجة الناس إلى من يجدد لهم علمهم من خلال تصالحهم مع جهلهم الذي يتمدد مع كل نقرة علم، وأن السماء المفتوحة ما هي إلا تعبير عن سعة التأويل وقِلّة اليقين.
وقديماً سئل عالِم (ولعله الإمام الشافعي) "أين العِلم كلُّه فقال في العالَم كلِّه"، وهكذا من الغرور أن يوصف زمان محدد بأنه عصر علم وآخر بأنه عصر جهل، فما وجد من علم فقد تفرق في الزمان والمكان، وما وجد منه ما هو إلا قبس من مشكاته، أو هو انعكاس لما لم يتقرر بعد في الوجود تقريراً كاملاً، وتاريخ النظرية العلمية كفيل بالاستدلال على هذه الحقيقة.
فالعلم تراكم وتوافد كما هو تزاحم وتراحم، فقد يأتي اللاحق بما لم يتحصل عليه السابق، وقد يعجز هذا اللاحق عن مجاوزة سابقه، وبالإجمال فالمسألة تعود إلى الموافقات والمعارضات، وتجري قاعدة النسبية في الكل مجرى الدم في الجسم؛ لأن الحقائق دقائق وهي منثورة في الوجود من القدم إلى الأزل.
العلم أطوار وإثمار
ومما يقال في شأن التحقيب الزمني للعلم بأن القرن التاسع عشر كان يعتبر عصر العقل واليقين، بينما أضحى القرن العشرون قرن الشك والاحتمال، ومرد ذلك إلى سطوة النظريات العلمية الواحدية، واستقلال المذاهب الفكرية خلال القرن التاسع عشر، في مقابل بروز الثورة على التنميط العلمي، والتمرد على الواحدية الفكرية التي لا تراعي التعددية إبان القرن العشرين.
وكان من إفرازات هذه المباينة العلمية، أن برزت الثقة في الاستقرار وانتصار الإنسان، وظهور الذات الجوهر الفاعلة والمتعالية على السياق والتاريخ إبان القرن التاسع عشر، فيما اختفت هذه المرجعيات وتضعضعت بفعل الصدمات والأزمات المتصاعدة خلال القرن العشرين، والتي أفرزت الذات/ الموضوع في شكل بنية ملتحمة هي رهينة السياق ووليدة التاريخ.
وهكذا حينما كان الإنسان يتلمس الحقيقة بكيمياء زائد من الثقة في عصر الأنوار والمقولات العلمية والفلسفية الجاهزة، سرعان ما زحفت على فكر الإنسان شكوك وجعلت العقل يثور على نفسه، فتغيرت معايير التفكير وعادت الخيبات لتقرع ثقة العلم في حقيقته.
وإذا كانت العلوم صنفين: علوم صلبة أو العلوم الحقة كالطبيعيات والفيزياء وما إليهما، ثم علوم مرنة أو العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ فإنه لم يعد يفيد هذا التقسيم في ظل الريبة التي استحكمت في القرن العشرين، حيث اضطربت العلوم التي عادة يقال إنها علوم قارّة ولها قواعد ثابتة، أما العلوم الأخرى فهي أصلاً مبنية على التحول والقابلية للعكس.
وفي هذا الصدد ظهرت في حقل الفيزياء نظريات جديدة، ثائرة على الموروث العلمي السائد خلال القرن التاسع عشر وما قبله، بدخول قاعدة النسبية إلى مجال الفيزياء الجديدة وفككت طبيعة الفيزياء الكلاسيكية، مما أحدث ثورة في مفهوم الزمن والخصائص الهندسية للمكان وغير من صورة الكون بالتَّبع، وقس على ذلك ما جرى في مجال الطبيعيات من قفزات قطعت مع ما كان سائداً.
والحاصل من ذلك كله؛ هو الحاجة إلى إعادة التفكير في الأنظمة الفكرية، ومحاولة فهم طبيعة تحول العلم ومنطق التطور العلمي، من أجل ضبط حركة العلم ومعرفة ميكانيزمات إنتاجه، لوضعه في إطار عملية تاريخية ممتدة، وفي إطار قوة اجتماعية فاعلة.
فقد ظهرت طفرات علمية وحصلت في ميدان البحث نظريات جديدة، وهي فتوحات أعطت حافزاً جديداً في إعادة تقويم منجزات العلم وفي نقد الحصيلة المعرفية في المناهج والمفاهيم، ولذلك نعود إلى تأكيد مقولتنا الأساس التي تقرر بأنه "كلما اتسعت رقعة جزيرة العلم طالت شواطئ الحيرة والتساؤل".