
في قلب الصحراء التي تتكلم
في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر، حيث تلتقي السماء الصافية بالأرض القاحلة، تقع واحدة من أعظم عجائب العالم الطبيعية والأثرية: طاسيلي ناجر. هذه الهضبة الشاسعة التي تغطي أكثر من 72,000 كيلومتر مربع، ليست مجرد تكوين جيولوجي مذهل، ولكنها أيضًا متحف مفتوح يحفظ بين صخوره قصة التغيرات المناخية وتطور الحياة البشرية على مدى آلاف السنين. هناك، حيث تتشكل الصخور بواسطة الرياح والمياه "غابات حجرية" تشبه المناظر القمرية، نجد واحدة من أهم مجموعات الفن الصخري قبل التاريخ في العالم.

هضبة العجائب الجيولوجية
طاسيلي ناجر، أو "هضبة الأنهار" بلغة الطوارق، هي عالم قائم بذاته. ترتفع الهضبة بأكثر من 2000 متر عن سطح البحر، ويبلغ طولها 800 كيلومتر وعرضها بين 50 و60 كيلومترًا. تتكون هذه الهضبة من الحجر الرملي الذي تشكل من الرواسب الرسوبية على مدى ملايين السنين، حيث تعود بعض التكوينات إلى العصر الأردوفيني والسيلوري (قبل حوالي 420 مليون سنة).

غابات الصخور ونحت الزمن
ما يجعل طاسيلي ناجر فريدة هو منظرها الجيولوجي الاستثنائي، حيث شكلت التعرية الناتجة عن الماء والرياح على مدى ملايين السنين "غابات صخرية" تبدو من بعيد كأنها أطلال مدن قديمة. هذه التكوينات الصخرية الغريبة، التي تشبه الخرائب والأطلال، تعرف باسم "الغابات الحجرية"، وهي نتاج ملايين السنين من التعرية التي نحتت الصخور بأشكال سريالية تثير الدهشة.
روائع ما قبل التاريخ
تحوي طاسيلي ناجر واحدة من أهم مجموعات الفن الصخري قبل التاريخ في العالم، أكثر من 15,000 رسم ونقش. هذه اللوحات الفنية الطبيعية تسجل التغيرات المناخية، وهجرات الحيوانات، وتطور الحياة البشرية على حافة الصحراء من 6000 عام قبل الميلاد حتى القرون الأولى من العصر الحالي.
واكتشفت هذه النقوش أول مرة من قبل الرحالة الفرنسي برينان في عام 1938، ثم تلت ذلك بعثات أخرى تلك التي قادها هنري لوت.

الحقب الفنية الأربع العظيمة
يمكن تقسيم الفن الصخري في طاسيلي إلى 4 حقب رئيسية، هم؛
1. حقبة الرؤوس المستديرة (قبل 5000 ق.م): تتميز برسومات بشرية ذات رؤوس مستديرة وعين واحدة، يصل طول بعضها إلى 3 أمتار. الباحثين فسروها ككائنات فضائية، بينما يرى آخرون أنها تمثل أقنعة طقوسية.
2. الحقبة البوفيدية (رعاة القطعان، 4500-2500 ق.م): توثق هذه الفترة انتقال الإنسان إلى تربية الماشية، رسومات ذات جمالية عالية باستخدام الألوان الصلصالية الحمراء والصبغات البيضاء.
3. حقبة الخيول (حوالي 1200 ق.م): تجسد استخدام الخيل والعربات في الحياة اليومية.
4. حقبة الجمال (1200 ق.م): توثيق الإنسان للصحراء المتغيرة باستخدام الجمل.
نباتات صامدة عبر آلاف السنين
على الرغم من القحولة السائدة، فإن طاسيلي ناجر تتمتع بغطاء نباتي نسبيًا من الصحراء المحيطة، وذلك بسبب ارتفاعها وخصائص الاحتفاظ بالمياه في باطن أرضها.
أشجارها النادرة: السرو الصحراوي المتوطن المهدد بالانقراض، ولم يبق منه سوى 230 شجرة محصية، عمر كل منها يتعدى 2000 سنة، بالإضافة إلى ميرتل الصحراء.

حيوانات نادرة في موطن محمي
صنفت منظمة اليونسكو طاسيلي ناجر كمحمية للإنسان والمحيط الحيوي في عام 1986. تعد المنطقة موطنًا لأنواع نادرة من الحيوانات مثل الأروية (الضأن البربري)، وأنواع عديدة من الغزال والفهود. كما تؤوي أنواعًا من الطيور مثل العقاب الذهبية وسقاوة طويلة الساقين.

سكان الطاسيلي: أبناء الصحراء الأوفياء
يسكن منطقة طاسيلي ناجر الطوارق (أبناء الأجر)، وهم الذين يعيشون في تناغم عميق مع بيئتهم الصحراوية القاسية. مدينتهم الرئيسية هي جانت، الواحة الصغيرة على الحافة الغربية للمنطقة. للطوارق دور حاسم في الحفاظ على هذا التراث، وهم من حفظ أسرار هذه الصحراء لآلاف السنين قبل أن "يكتشفها" المستكشفون الأوروبيون.
حكايات وأساطير ترويها النجوم
للنجوم في سماء طاسيلي دور هام، حيث يهتدي بها سكان المنطقة في ترحالهم. فنجمة "والت" تدلهم على اتجاه النيجر، بينما تدلهم نجمة "شطاب" على اتجاه القبلة والمسجد الحرام في مكة. كما تزخر الثقافة المحلية بالأساطير بالنباتات العلاجية، مثل نبتة "تبريم" لأوجاع الأمعاء، و"أفسور" لعلاج اليرقان، و"تاطايت" لآلام الكلى.
الماضي والحاضر يتعانقان
طاسيلي ناجر ليست مجرد موقع أثري أو منتزه طبيعي، ولكنها شاهد حي على قدرة الإنسان على التكيف والإبداع في أقسى الظروف. هي رحلة عبر الزمن، يمكنك أن ترى كيف كانت الصحراء حديقة خضراء تعج بالحياة، وكيف استطاع الإنسان أن يسجل رحلته مع الطبيعة على جدران الكهوف. كما قال أحد سكان الطوارق: "من دخل طاسيلي بسؤال، يخرج منها بعدد من الأسئلة"، ما تزال هذه الصحراء لغزًا كبيرًا لم يُحل، وكنزًا إنسانياً يجب أن نحافظ عليه للأجيال القادمة.
المصادر:
◅ هنري لوت – "اكتشاف لوحات طاسيلي".
◅ بحث أكاديمي بعنوان "مظاهر الحضارة النيوليتية بمنطقة الطاسيلي ناجر".
◅ تقرير اليونسكو التفصيلي عن القيمة العالمية الاستثنائية لطاسيلي ناجر.
◅ دراسات هنري برويل – "فنون ما قبل التاريخ في الصحراء الكبرى".