الإبداع الروائي.. بين الكتابة بالقلم والكتابة الرقمية

عبد الباقي يوسف


ببساطةٍ شديدة يمكن القول بأن الفرق بين الكتابة باليد والكتابة الرقمية، هو كالفرق بين القراءة مِن كتابٍ ورقي والقراءة من كتابٍ رقمي. القراءة مِن الكِتاب الورقي تؤسّس لك علاقة خاصَّة مع الصفحات التي تقرأها وأنتَ تقلّبها بينَ يديك وتشمّ رائحتها، تضع أصابعك على السطور صفحةً صفحة. وتكون هذه الحميميَّة بالأخصّ مع قراءة الرواية، فتتيح لك هذه القراءة الورقية أن تتعرَّف على أجواء الرواية أكثر، وأن تبني علاقات خاصَّة مع شخصيّات الرواية، مع أمزجتها، أفكارها، ثيابها، العلامات الظاهرة التي تتميَّز بِها، أن تتعرف عليها بعمق، تراها تتحرَّك، تمشي، تنام، تمارس طقوسها الخاصَّة. ولا يمكن لك أن تنساها مهما مضت السنوات. وإذا صادف أن أعدتَ قراءة الرواية ولو بعد سنواتٍ طويلة، ينتابك شعور حميميّ بأنّك تلتقي بأصدقاء قدماء لك معرفة سابِقة بهم. كما أنَّكَ عندما تقرأ رواية جديدة، تشعر بأنَّك تتعرَّف على أصدقاء جدد بكل ما في الجديد من المعاني ولا تعرف شيئاً عنهم.

 

شخصيّات روائيّة لا تُنسى

لكل روائي عالمه الخاص والحافِل في تقديم شخصيّاته: شخصيّات دوستويفسكي تمتاز بعمقها التحليلي عَن شخصيّات تولستوي التي تمتاز بالحِكمة، وشخصيّات فرانز كافكا القَلِقة، تمتاز بقلقها وسوداويتها عَن شخصيّات ماركيز التي تنفتح على الحياة وتلتقط اللحظات الممتعة منها. وهكذا شخصيّات يون فوسه الباردة التي تُكرّر عباراتها ببرود حتى في المواقف الساخِنة، وشخصيّات أولغا توركاتشوك التي ترى بأن الإنسان يمكن له أن يُجدّد حياته من خلال السفر. وهكذا الشخصيّات التي تبقى مترسّخة في الذهن في: (الشيخ والبحر) لهمنغواي، (مزرعة الحيوانات) لجورج أورويل، (الخيميائي) لباولو كويلو، ثلاثية قصر الشوق وبين القصرين والسكرية لنجيب محفوظ، (قنديل أم هاشم) ليحيى حقّي، (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، (الخبز الحافي) لمحمد شكري.

 (ذهب مع الريح) لمارغريت ميتشل. (مرتفعات ويذرينج) لإيميلي برونتي، (الحارس في حقل الشوفان) لجي دي سالينجر. (الرجل الخفي) لرالف إليسون.

فيمكن لك أن ترى في الطريق امرأة متمرّدة تُذكّركَ بـ نادجا بطلة رواية أندريه بريتون، أو مدام بوفاري بطلة جوستاف فلوبير، أو رجلاً يّذكّركَ بـ مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، أوسي السيّد في ثلاثية نجيب محفوظ، أو الأخ الأكبر في رواية 1984، ودولوريس في رواية لوليتا.

هذه الشخصيّات التي ترسّخها القراءات الورقيَّة مع تقليب الصفحات، ثم وأنتَ تضع الرواية عند حافّة وسادتك عندما تنام. وهُنا يلعب النَظَر دوراً بارِزاً في عمليَّة التلقّي، كما يلعب وجود الكِتاب كشيءٍ ملموس بينَ يدَيك وأمام ناظرَيك هذا الدور المهم في عمليَّة التلقّي.

مزايا الكِتابة الورقيَّة

عندما تسحب صفحةً جديدة ناصعة البياض مِن ماعون الورَق، ينتابك شعورٌ بأنَّك لا بدّ أن تكتب شيئاً جديداً عليها، وتكتب عليها بتركيزٍ أكثر فيما لو فتحتَ صفحة إلكترونية وبدأتَ بالكِتابة من خلال الضغط على الأزرار، وقد تسهو وأنتَ في ذروة انسجامك مع الكتابة، مواضع الحروف، فتبحث عَن موضع حرفٍ ما وتوزّع نظراتك على لوحة الأزرار بعُجالةٍ ولا تجده في تلك اللحظات رغم وجوده على اللوحة، وهذا يمكن أن يسهم في قطع حبل أفكارك ريثما تنظر إلى الأزرار زراً زراً حتى تقع على موضع الحرف. وهذا يُشير بأن تركيزك في الكِتابة وبشكلٍ تلقائيٍّ لا يتركّز على الفكرة التي تكتبها، بل يتوزّع بشكلٍ تلقائيٍّ على بحثك عن أماكن الحروف على لوحة الأزرار.

ولكن في الكتابة على الورق، لا يمكن لك أن تنسى شكل الحرف الذي تكتبه، ويبقى التركيز كلّه للكتابة وللإشراقات الجديدة التي تأتي مع عمليَّة الكِتابة.

ولنفرض أن فرانز كافكا سينهض الآن ليكتب رواية المسخ مِن جديد بأزرار الحاسوب، فهل سيستطيع أن يكتب بكل تلك الدقّة العالية والتفاصيل المُذهلة عَن غريغوار سمسا وهو يتحوَّل إلى صرصور. أو حتى وهو يكتب بكل تلك العاطفة الجيّاشة رسائله إلى حبيبته ميلينا؟

الأمر سيختلف بنسبةٍ كبيرة، وستترك السرعة بصمتها على العَمَل بكل الأحوال، وحتى لو نجحت الرواية التي كُتِبَت بشكلٍ مُباشَرٍ على الحاسوب، فإنّ كتابتها ورقياً كان سيضيف لمساتٍ جماليّة أكثر، وكانت ستُكتَب بعمقٍ أكثر، وتلقى النجاح والاحتفاء أكثر. والأمر شيبه إلى حدٍّ كبيرٍ في إبداع اللوحة التي تُرسَم بالريشة الطبيعيَّة، واللوحة التي تُرسم بريشة رقميّة حتى لو تم تصوير اللوحة الرقميّة بدقّةٍ عاليةٍ ووضعها في معرض، فلا تترك الأثر الذي تتركه اللوحة المرسومة بألوانٍ طبيعيَّة.

يبقى الوَرَق هو الأصل كما أن القلم هو الأصل في الكتابة الإبداعية، والجملة التي يخطّها القلم على صفحة ورقيَّة تختلف تماماً عَن جملة تضعها أزرار الحاسوب على صفحة إلكترونية.

الكتابة الإبداعية هي عمليَّة تأريخ وتدوين للمشاعر الإنسانيَّة مهما كان المضمون الذي يتناوله الكاتب في عمله الإبداعي، وهو يعيش الكلمات التي يكتبها حرفاً حرفاً، فهي عمليَّة تفريغ لشحنة المشاعِر، ولذلك فإن الكاتب يشعر بسعادةٍ مذهلةٍ عندما يضع يده على جملةٍ تعبّر عَن قوَّة مشاعِره، ويشعر براحةٍ عندما ينجز كتابتها.

أهميَّة المسودة في العمل الإبداعي

أمرٌ بالغ الأهميَّة يكمن في الكِتابة على الورِق، وهو إمكانية نقل الكِتابة الأولى التي عادةً تكثر فيها التعديلات على الصفحات، إلى صفحاتٍ جديدة وبِنَفَسٍ جديدٍ، فتكون ولادة جديدة للنص الإبداعي، وتكون نسبة الأخطاء فيها أقل. ثم بعد ذلك يتم إدخال هذه المبيضَّة إلى الحاسوب، وإذا قام الكاتب نفسه بإدخالها، أيضاً سيضيف أشياءً جديدة، وسيحذف بعض الأشياء لأنَّه سوف ينقل الكلمات كلمةً كلمة وحرفاً حرفاً، ويكتب عَن شخصيّات بات يعرفها بشكل جيّد أكثر من الكِتابة الأولى والكتابة الثانية، ويكون عارِفاً بالأحداث، وكذلك متمكّناً بإدارة الزمَن الروائي أكثر.

وهذا ما لا تتيحه الكِتابة الإلكترونية، فالكاتب يمكن له في أحسن الأحوال أن يُعيد قراءة المسودَّة على الشاشة ويضيف ويحذف ويصحّح الأخطاء، ولكنَّه لا يُعيد كتابة النص الإبداعي مرَّة أُخرى كلمةً كلمة، وحرفاً حرفاً، لا في الإعادة الأولى ولا في الإعادة الثانية.

عندما يضع الكاتب قلمه على الورق، يشعر بأن القلم على تماسٍ مُباشرٍ مع قلبه، وأنَّه يستمدّ الحبر مِن نبضات قلبه، فتنبثق العبارات وتتحوَّل إلى نجومٍ أمام عينَيه، يشعر بأنَّه يضع جزءاً من لحمه ودمه على الورق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها