الحريف.. مدينة التائهين وسيمفونية المقهورين

د. محمد فاتي



بهذه الصرخة السينمائية، والمسؤولية الفنية بتصوير ما يقع بواقعية صادقة لأحداث الشارع، استهل محمد خان مقدمة فيلمه المميز "الحريف". وهو فيلم دراما مصري من إنتاج سنة 1983، ألفه وأخرجه محمد خان، سيناريو بشير الديك، إنتاج محمد البهي، بطولة: عادل إمام، فردوس عبد الحميد، عبد الله فرغلي، زيزي مصطفي، نجاح الموجي، فاروق يوسف، صبري عبد المنعم، حمدي الوزير. استلهم بشير الديك ومحمد خان قصة الفيلم من قصة سعيد الحافي، لاعب الكرة (الشراب) الشهير في منطقة القلعة وإمبابة والذي كان يلعب حافي القدمين، ويكسب 10 جنيهات في المباراة الواحدة في حي امبابة وشبرا.

في البداية قام مخرج العمل محمد خان بترشيح الفنان الراحل أحمد زكي لبطولة الفيلم، وسجل أحمد زكي بالفعل مقدمة الفيلم بصوته، لكنه اختلف بعد ذلك مع محمد خان على قصة الشعر المطلوبة للشخصية وانسحب، وأسند الدور إلى عادل إمام، ليلعب الزعيم بطولة هذا الفيلم.

يحكي الفيلم عن شخصية فارس (عادل إمام)، الشاب المصري الذي يعمل بمصنع أحذية، ويقيم بغرفةٍ على سطح أحد المنازل، بعد أن انفصل عن زوجته بسبب اعتدائه عليها مرارًا بالضرب. يعشق فارس ممارسة كرة القدم (الشراب) في الشوارع والساحات الشعبية مقابل المراهنات، مما يعرضه للفصل من عمله لإهماله الشديد. يحاول فارس العودة لزوجته لكنها ترفض ذلك، وفي نفس الوقت يعرض عليه صديقٌ قديمٌ، يمتلك معرضًا للسيارات العمل، فيوافق فارس ويعود لزوجته دلال ويواصلان حياتهما معًا لتربية ابنهما.

لقد تفنن المخرج محمد خان في التعبير عن واقع مصري يضم أجيالاً من المهمشين في عالم لا يكف عن إضعافهم وتقويضهم. وذلك واضح جدًا من المستوى المعيشي لشخصيات الفيلم التي تنتمي إلى طبقة العمال "البروليتاريا"، وهي طبقة لا تملك سوى عملا بسيطاً تكسب بها قوت يومها ولقمة عيشها. ففارس يعمل في ورشة أحذية، وطليقته في مشغل ألبسة، ووالده صانع أقفاص.. لذلك كان الفيلم مناسبًا جدًا للتعبير عن الفئة المهضومة التي تُسحق بلا ثمن أو تعويض، في سوق رأسمالي جشع، يشيء البشر ويسلع القيم ويكدس الأرباح. حيث يغدو العامل آلة مطيعة في يد أربابه، ووسيلة خاضعة لأسياده، يقسون عليه كما شاؤوا، ويفتكون بطاقته كما أرادوا، ويقيدون حريته كيفما قرروا. تقاس قيمته بإنتاجه، مصدره هو جهده البدني وتعبه العضلي، مكانته تتشكل من خلال قدرته على العمل وتسويق السلع وجذب المستهلك والكسب المادي.

يطلق اسم الفارس قديمًا على البطل ذو المكانة، الذي يقود الحروب ويحقق الأمجاد والانتصارات. أما "فارس" بطل فيلم خان فهو شخص لا يحلم بأكثر من حياة. طوال أحداث الفيلم نسمع لهاثه المستمر، فارس الذي لا يتوقف عن الركض، عن مطاردة الحياة، فيفاجأ أنها هي التي تطارده، وأنها تمتنع عن الخضوع إليه. ففي أحد المشاهد نصادف فارساً في مصعد العمارة برفقة فتاة جميلة، ورجلا غنياً (كبير في السن)، يحاول لفت انتباه الفتاة إليه مع امتناعها ورفضها لمطاوعته في النظرات. بينما في مشهد آخر يفاجأ فارس وهو نازل بالأسانسير، فاراً من رجل أمن بلا سبب أو علة، بالفتاة وهي تتسلل خفية إلى شقة العجوز الثري وعلى محياها ابتسامة، سخرية من واقع فارس، من أحلام فارس، من هواجس فارس، من فقر فارس ومقارعته لطواحين الهواء بدون جدوى.

ونشاهد هذا المشهد عن طريق كادر هابط يساير إيقاع المصعد النازل، الذي يوحي بسيادة القيم الهابطة، والسلوكات اللاأخلاقية، وهيمنة الهاجس المادي، وتأثير الأموال التي تشتري كل شيء، في مجتمع مصري عرف تناقضات صارخة إبان فترة الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات. وهي تناقضات وسعت من مساحة التفاوت الطبقي بين أغنياء يملكون كل شيء، وفقراء مسحوقين ومحطمين لا يستطيعون حتى توفير لقمة عيشهم.

لا يستطيع البطل تحقيق التوازن بين عمله، بين علاقته بسعاد، بين علاقته بوالده، بين علاقته بابنه، بين علاقته بطليقته، وبين عشقه الأول والأخير الكرة. يبحث فارس عن الراحة النفسية بلا فلاح، لذلك يجد نفسه مشتتًا بين إخلاصه لأبيه رغم مرارة عيشه، بين عشقه لطليقته رغم قساوته معها، بين سعادته بولده رغم تهربه من مسؤوليته، بين علاقته الجنسية مع سعاد رغم انعدام الحب بينهما، ومثابرته في الشغل رغم احتقاره ونفوره من مديره. ويجد نفسه مهضوم الحقوق في حياة لا ترحم المستضعفين والمقهورين، فيصرخ بحرقة عندما يصادف جاره عبد الله محاولا رمي نفسه من سطح العمارة، عقب تورطه في جريمة قتل بسبب ضيقه المالي: "ملعون أبو الفقر".

أخيرًا؛ يفارق البطل حياة الكدح والمعاناة، ويتخلى عن عمله بعد أن ابتلي بلعب الكرة، وقصر في وظيفته واستهان بمسؤوليته، ثم يترك لعبته المفضلة كذلك بعد أن أغرته حياة البورجوازيين وأموال الطبقات الغنية، حينما شجعه صديقه على مشاركته في بيع السيارات الفارهة، حتى يجني من ورائها الثروة الكبيرة. يترك بطلنا السعادة في مقابل النقود، يترك عشق الحياة (لعب الكرة) في مقابل الرفاهية، يترك إبداع القدم وسحر الموهبة من أجل أن يمتلك سيارة ويتاجر في العربيات.

هكذا يخضع فارس لتأثير العالم الاستهلاكي الأعمى ولمغريات السوق الرأسمالي الحديث التي يفرضها العصر، هكذا يمتثل بطلنا إلى قواعد الليبرالية الحديثة التي حكمت واقع البلد بعد سنوات من الكفاح، ويتحول من ضحية إلى منتفع من الانفتاح الاقتصادي الذي عرفته مصر. ليلقى نفسه مهرباً للسيارات بمساعدة أحد أصدقائه الذين انتبهوا مبكراً لوضعية الواقع وتخلوا عن الكرة ملتجئين إلى العمل الحر. في نفس الوقت، تقيم سعاد علاقة مع محسن الوافد الريفي الجديد قريب فارس، وحينما يلمحها فارس، يبتسم ابتسامة تخفي الأسى والألم الذي يحس به في دواخله، نتيجة هذه الأوضاع.

وفي نهاية الفيلم، يلعب البطل مقابلة الفراق مع حيه بميدان عبد المنعم رياض، محاولا هزم اللاعب الشاب" المختار" الذي يهدد مكانته كحريف للكرة في هذا الميدان، بتحريض وتحفيز من السمسار السابق لفارس "المعلم رزق". هذا الأخير سئم من عناد فارس الرافض لكل مظاهر الاستغلال والمتاجرة في موهبته ومهارته الكروية، فقرر تعويضه بلاعب شاب آخر (المختار)، محاولا جذبه لسوق المراهنات والسمسرة الكروية، حتى يربح المزيد من المال من مواهب الشباب.

يرفض فارس الاستسلام أمام هذا الأمر، ويقرر الدخول في جو المقابلة الختامية، لمساعدة الفريق الخاسر، ومقارعة النجم الجديد في الميدان. وبالفعل تكلل مجهودات فارس بالنجاح فور دخوله للملعب، ويحول الخسارة الثقيلة إلى فوز بشق الأنفس في اللحظات الأخيرة، تحت إيقاع لهاث البطل الذي يتكرر صداه في كل فترات المقابلة. فينهار السمسار رزق، ويصاب بخيبة أمل وإحباط شديد بعد هذه الطعنة التي جاءت من رفيق الأمس.

وفي نهاية المقابلة يحتضن فارس ابنه أخيرًا، فيسأله هذا الأخير: "مش هتلعب تاني يابه"! لينطق البطل بالعبارات الأخيرة في الفيلم: "مـا خــلاص يابـنـي، زمـن اللـعـب راح". وهي عبارات توحي بزوال زمن الأنس والفرح والتآزر الاجتماعي، وهيمنة عصر المال والاستغلال المادي والتملك الرأسمالي. هي كلمات تنذر بمزيد من المعاناة والتهميش والقهر للفئات المسحوقة، بمزيد من التفاوتات الطبقية الشاسعة بين أغنياء يستولون على كل شيء، وفقراء فقدوا كل شيء، حتى كرامتهم وشرفهم وانتماءهم.

وحينما زار صديق فارس حيه القديم بسيارته الفارهة، وجد الأطفال يلعبون الكرة في الحواري الشعبية والدروب الضيقة فقال لهم بنوع من السخرية والاستهزاء: "انتو لسا بتلعبو اللعبة الهبلة دي". وكلامه هذا يكشف عن تحول منظومة القيم لدى المواطن المصري، وطغيان التأثير الرأسمالي/المادي الذي غير الفكر والرؤى والعادات، وقضى على معالم الحارات الشعبية وتقاليد سكانها وأعراف أهلها. فلما رافق البطل (عادل إمام) صديقه في السيارة الجديدة -أمام أعين الملأ في حيهم الشعبي، متذكرين لحظات الطفولة واللعب بالكرة في هذه المواقع- طلب منه ترك الكرة ومشاركته في حرفته الجديدة (بيع السيارات).

وفجأة تتوقف السيارة بغتة في حارتهم الشعبية، دون وجود سبب أو مبرر للوقوف، ويرد فارس على صديقه بالجملة الآتية: "حفكر يا شعبان"... وهذا التوقف المؤقت، والتأمل المشتت من البطل له دلالات وأبعاد عميقة، وكأنه يستعد لانطلاقة جديدة في الحياة، أو يعلن انتقاله من حالته القديمة إلى طريقه الجديد وتطلعه إلى واقع مغاير: جذاب ومغر ومثير للمغامرة، أو يعلم بانفصاله عن الماضي وأمله في المستقبل وانفصامه عن شخصيته القديمة: البئيسة والمحطمة والعبثية، وتقمصه هيئة الشخص الليبرالي: المتفائل والحالم والراغب في الربح والمال والثروة.

يلمح الفيلم إذا إلى تلك الطبقة المسحوقة التي تعيش على هامش المجتمع المصري، في ضفة أخرى غير ضفة المستفيدين من الانفتاح الاقتصادي، ضفة منسية مهمشة تضم فئات تقاوم تحديات الحياة بالصبر والكد والمشقة. ضفة مجالية تتواجد في أحياء عشوائية، أو في دور عتيقة، أو في منازل عشوائية، أو في قعر أو سطح العمارات. وهنا نشاهد مسكن فارس البئيس الواقع بسطح العمارة، يصعده يومياً بالأسانسور، حيث يتقابل مع فئات طبقية متنوعة تقطن هذه الفيلا (أثرياء، عمال، فتيات الليل، فقارء، طبقات متوسطة..إلخ). منزله الصغير موجود في هامش العمارة، في أسطحها وأعاليها، حيث يقابل مسكن البؤساء المقهورين أمثاله (بيت فتاة الليل بجانبه، وبيت صديقه الفقير عبد الله).

وفي هذا الجانب نلتقي بمقطع حواري بليغ دار بين فارس وأحد أصدقائه عن الحادثة التي وقعت في العمارة، حيث سأل الصديق البطل (فارس) عن مكان تواجده في وقت الحادثة، فأجابه فارس بأنه من سكان هذه العمارة فرد عليه صديقه: "أنت من سكان السطوح.. من سكان العمارة بالاسم فقط".

وهنا نستحضر مقارنة متباعدة المنابع، لكنها قريبة من حيث الرؤى والمقاصد الفنية. فإذا كان المخرج محمد خان قد عبر عن هذه الهوة الطبقية بين فئات متفاوتة اجتماعياً عبر فضاء العمارة، فإن مخرجاً غربياً آخر في زمننا الراهن عبر عن نفس الفكرة، وإن بطريقة مختلفة ومغايرة. إنه المخرج الكوري الشهير بونغ جون هو في فيلمه الشهير parasite (طفيلي) الحائز على الأوسكار وسعفة مهرجان كان، والمهيمن على أفخم الجوائز السينمائية العالمية لسنة 2020. حيث يعبر المخرج الكوري عن فكرة الطبقية الاجتماعية وموضوع الرأسمالية الاستغلالية عبر فضاء العمارة، من خلال عائلة كورية فقيرة تعيش في قبو صغير في طبقة أسفل الأرض بالفيلا، تقوم بالنصب والاحتيال على عائلة ثرية تعيش الرفاهية في كوريا التناقضات الاجتماعية. فإنْ كان محمد خان قد اختار فضاء السطوح وطبقاته العليا لفئاته المقهورة، فإنّ "بونغ جون هو" قد فضل قبو العمارة أو طبقاتها السفلية لموضعة أبطال فيلمه من المعدمين والمستضعفين.

وينبني فيلم الحريف على سلسلة من مظاهر الاستغلال والقهر والاستعباد التي يتعرض لها المواطن المصري، أمام آلة اقتصادية تهشم كل من وقف أمام نهمها في الإنتاج والربح والكسب المادي. وقد حاول محمد خان رصد بعض أنواع الاستغلال عبر توجيه عدسة الكاميرا إلى أنماط معينة في المجتمع المصري، تقاسي وتكابد وتصابر في مواجهة هذه الموجة الرأسمالية الشرسة التي تفتك بالمهمشين والمستضعفين. ويمكن حصر بعض هذه الأنواع فيما يلي:

الاستغلال في الشغل: فكما نعلم، كان فارس يعمل في مصنع للأحذية، يشقى ويتعب كثيراً في سبيل تحصيل لقمة العيش بأجر زهيد، يجنيه بحسب مقدار الإنتاج لا بحسب الراتب الشهري الثابت. وهذا ما دفعه للبحث عن نشاط معيل آخر (لعب الكرة بالمقابل) يساعده على تجاوز عراقيل وأزمات عديدة تواجه الشاب المصري البسيط: أزمة السكن، الصحة، التعليم، الزواج، تكوين أسرة، إعالة الأبناء...إننا أمام منظومة اقتصادية مختلة، ناتجة عن الانفتاح الاقتصادي الذي زاد من ثروة الملاك والأغنياء وأصحاب المصانع والشركات والمقاولات، في حين ضاعف من معاناة الطبقات المتوسطة والفقيرة التي وجدت نفسها أمام مطرقة القمع السياسي وسندان الإجحاف الاقتصادي.

الاستغلال في لعب الكرة: حتى كرة القدم لم تسلم من مظاهر الاستغلال والسمسرة والمراهنات. فبطلنا فارس يهوى لعب الكرة في الشوارع والميادين، كان مبهراً في أدائه ومميزاً في مهاراته وفعالا في مشاركاته. لكنه لم يكن يلعب الكرة من أجل اللعب فقط، بل جعل منها مصدراً إضافياً لدخله البسيط، تساعده في سد لقمة عيشه وأداء أجر شقته والإنفاق على ابنه. لهذا كان فارس يوظف مهاراته الكروية مقابل أموال يجنيها من مدربه المعلم رزق، هذا الأخير كان مراهناً بارزاً وسمساراً رياضياً يستغل المواهب الكروية لفائدته، من أجل كسب النقوذ عن طريق المراهنة عليهم بالفوز في المباريات والانتصار في المواجهات. ولما اكتشف بطلنا الرياضي بأن مدربه ما هو إلا شخص استغلالي يستولي على النسبة الكبرى في الأرباح، ثار عليه وانسحب من فريقه، والأكثر من ذلك لعب مباراته الختامية ضده وانتصر على فريقه المدعم بالنجم (المختار)، مودعاً عالم الكرة في الميادين، ومتطلعاً لعالم التجارة مع المشبوهين.

استغلال المسحوقين: المتمثل في استغلال رئيس مجلس الإدارة، القاطن بالعمارة للفتاة الفقيرة، الساكنة بجانب فارس في السطوح. إنه استعباد من نوع آخر، سلب لكرامة البسطاء وتلويث لشرف الأبرياء، عن طريق استغلال المكانة والقيمة والنفوذ، وبجذب وترغيب بواسطة المال. المال الذي يحول المرأة المحتاجة إلى كائن ضعيف يخضع لسلطته وإغرائه، المال الذي يشتري لحوم البئيسات والمهمشات، المال الذي يدفع المطحونات للتنازل عن عرضهم وعزتهم.

فيلم الحريف، إذاً، يلقي الضوء على قاع المدينة وحواريها المنسية وشخصياتها العاجزة وفئاتها المغلوبة على أمرها. فكل شخصية تعبر عن وضع بشع لهذه البيئة المختلة، عبر سيناريو محكم الحبكة، بمشاهد سريعة الإيقاع، تؤدي وظيفة درامية بارزة تساهم في شحن المشاهد للتعاطف مع هذه النماذج البشرية والتفاعل مع قضاياها الاجتماعية والنفسية والفكرية. ففي أحد المشاهد البليغة، يتموضع فارس على سطح الفيلا في لقطة منخفضة، وخلفه ملصق إشهاري ضخم يومض وينزوي مخلفاً طيفه على البطل، وكأنه قزم ضئيل الحجم أمام هذه المدينة العملاقة التي تبتلع المقهورين وتهضم المستضعفين، ولا تهادنهم أو تستلطفهم قبل سداد دينهم. ليتحقق هذا السداد في ختام الفيلم، حيث يقرر فارس مواجهة المختار في مقابلته الختامية، ليؤدي ما عليه من دين اتجاه هذا العالم الذي سيفارقه ويتخلى عنه، مفضلا تصويب وجهته إلى مجال آخر (تجارة السيارات)، وواقع آخر (مدينة جديدة) مع أسرته التي جمعتهم الظروف مرة أخرى، مخلفين وراءهم خلافات الماضي وصراعات الأمس.

وهنا نستمع مرة أخرى لأنفاس البطل، أنفاس المسافة الأخيرة قبل تغيير مجرى الحياة والبحث عن أحلام أخرى في هذا العالم. لينتهي الفيلم والبطل يحمل ولده داخل شباك المرمى، وكأنه سجل هدف الانتصار على واقع الظلم والبؤس، ومجتمع التناقض والتفاوت، وأعراف التسلط والتعسف. وفي حديث لمحمد خان عن عمله هذا، قال: "انظر إلى الحريف، كان يلهث مخنوقاً من ضغط فوضى السلبية. الضغط بهذه الشخصيات يخرج النقاء والحب خالصين. فأنا أومن بإيجابية المتفرج، وعندما أقدم عملا سلبياً لا أدعو إلى تكريس السلبية والعجز، ولكن أدعو المتفرج إلى أن يستنكر الموقف".

وختاماً؛ يعتبر "الحريف" واحداً من أفضل الأعمال السينمائية التي عرضت في ثمانينيات القرن العشرين، بل وفي مسيرة كل من "محمد خان"، و"عادل إمام" في فترة تميزت بانتشار الأفلام التجارية المبتذلة. حيث قدم لنا محمد خان لوحة بديعة زخرفها معه المبدع "بشير الديك" في السيناريو، وجسدها الزعيم "عادل إمام" في التشخيص، وزادها رونقاً الموسيقار هاني شنودة بألحان شجية تعبر عن السياق الدرامي والنفسي للفيلم. ليقدم لنا المخرج شريطاً متكاملاً يرصد معاناة الطبقات المسحوقة في المجتمع المصري، عبر شخصيات بسيطة تصارع الواقع وتخوض بحماس مختلف الوقائع.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها