أنماطُ النقد عند ابن سلام الجمحي

د. جلال مصطفاوي


فكرة الطبقات مصطلح شائع، في النقد الأدبي عند العرب، قديماً وحديثاً. وتكتسي هذه الفكرة، من حيث بواعثها وآثارها، أهمية خاصة في تقدير الإبداع الشعري، وإنزال الشعراء المنزلة التي يستحقّونها، وفق معايير فنية، تتباين بتباين العصور. فهي تكشف النقاب عما ينطوي عليه النتاج الشعري من أسس وخصائص، كانت -بطريقة أو بأخرى- عاملاً له شأنه في إبراز جمالية الفن الشعري وبيان مستويات التفوق فيه.


وابن سلاّم الجمحي في تناوله للقضايا النقدية، حرص على الشمول والتنوع، بحيث لم يكتف ببحث القضية من جانب واحد، بل طال نقده القضية موضع البحث، على مستويات عدة، كالمستوى النحوي، والمستوى الدلالي للألفاظ، والمستوى الصوتي، فهو يهتم بالجانب اللغوي، والجانب الفني، والجانب التوثيقي الذي يحتل حيزاً كبيراً في كتابه.

 

النقد اللغوي:

تعدّ البصرة -بحق- من أهم مراكز الإشعاع الفكري في تاريخ الحضارة العربية، إذ كانت سباقة إلى العناية بعلوم العربية وتدوينها، ووضع قواعدها، ولم يكن لها منافس حقيقي في هذا المجال حتى ظهرت الكوفة، "وجاء أبو جعفر الرؤاسي، فكان أول من ألّف في النحو من الكوفيين، وأول من أسّس مدرسة الكوفة، ودعمها تلميذاه: الكسائي والفراء، وكانا نظيري سيبويه رئيس البصريين"1.

وقد نقل ابن سلام، في طبقاته، جملة من النماذج لما كان يدور في حاضرتَيِ البصرة والكوفة من نقد لغوي، طال عدة مستويات، كالمستوى النحوي، والمستوى اللغوي، والمستوى الصوتي، والمستوى الدلالي.

فهو يذكر، على المستوى النحوي، ما كان يجري بين علماء اللغة وبين الشعراء الذين لا يقيمون، في بعض أشعارهم، كبير وزن للنحو، فيقول: "أخبرني يونس أنّ أبا عمرو كان أشدّ تسليماً للعرب، وكان ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر يطعنان عليهم. كان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ... مِنَ الرُّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ

يقول: موضعها ناقعا"2.

ويذكر أيضاً، أنّ بعض أشعار الفرزدق كانت هدفاً لسهام ابن أبي إسحاق النقدية، يقول: "وأخبرني يونس أنّ ابن أبي إسحاق قال للفرزدق، في مديحه يزيد بن عبد الملك:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
عَلَى عَمَائِمِنَا يُلْقَى وَأَرْحُلِنَا ... زَوَاحِفَ تُزْجَى مُخُّهَا رِيرِ

قال ابن إسحاق: أسأت؛ إنما هي: رِيرُ. وكذلك قياس النحو في هذا الموضع، وقال يونس: والذي قال حسن جائز، فلما ألحّوا على الفرزدق، قال: [عَلَى زَوَاحِفَ نُجْزِيهَا مَحَاسِيرُ]، قال: ثم ترك الناس هذا، ورجعوا إلى القول الأول"3. كما انتقد الفرزدق في قوله:
وَعَضُّ زَمَانٍ يَابْنَ مَرْوَانَ ... لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتًا أَوْ مُجَرَّفُ

فقال: كان الواجب أن يقول: [مُجَرَّفًا] لأنّه معطوف على منصوب، والمعطوف تابع، له حكم المعطوف عليه في الإعراب. فكان ردّ فعل الفرزدق أن هجاه بقوله:
لَوْ كَانَ عَبْدُ اللّهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ ... وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا

فعابه في ذلك أيضاً، قائلا: كان الواجب أن يقول: [مَوْلَى مَوَالٍ]"4.

فابن سلام يطلعنا، في هذه النصوص، على طبيعة النقد اللغوي الذي كان متداولا بين علماء عصره، ويشير إلى أنّ من هؤلاء العلماء من كان متمسكاً بالقديم، ولا يتحرج من مؤاخذة الشعراء وانتقادهم، بصرف النظر عن مكانتهم وشهرتهم. كما يرسم لنا صورة للصراع الذي كان قائماً بين علماء اللغة، وبين الشعراء، حيث بدأ علماء اللغة -بحكم تخصصهم- "ينقدون الشعر على نمطهم وأسلوبهم، بدأوا نوعاً جديداً من النقد، هو أنّ الشاعر أخطأ نحوياً، ولم يجر في شعره، على منحى العرب في الإعراب"5.

ويصرّون على أن يخضع الشعراء في أشعارهم، للقياس، في حين لا يهم الشعراء سوى التعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم وأفكارهم، ولا يضيرهم كثيراً، مخالفة القياس بين الحين والآخر.

النقد الفني:

وهو النقد الذي يتعامل مع الأثر الأدبي وفق التأثر الذاتي للناقد في المقام الأول، دون إغفال العناصر الموضوعية، والأصول الفنية اللازمة لهذا الأثر. فهو "منهج ذاتي موضوعي، وهو أقرب المناهج إلى طبيعة الأدب، وطبيعة الفنون على وجه العموم"6.

ولم يفت ابن سلام أن يولي عنايته بهذا النوع من النقد، ولعل ذلك يبدو جلياً في صنيعه بالشعراء المخضرمين؛ إذ لم يفردهم بطبقة مستقلة، وإنما ألحقهم، إما بنظرائهم من الجاهليين، فصنف كعب بن زهير والحطيئة في الطبقة الثانية7، والنابغة الجعدي، وأبا ذؤيب الهذلي، والشماخ بن ضرار، ولبيد بن ربيعة في الطبقة الثالثة8، والنمر بن تولب في الطبقة الثامنة9، وضابئ بن الحارث، وسحيم عبد بني الحسحاس في الطبقة التاسعة10، وأمية بن حرثان، وحريث بن محفظ، وعمرو بن شأس في الطبقة العاشرة11. وإمّا بنظرائهم الإسلاميين، فوضع كعب بن جعيل، وعمرو بن أحمر الباهلي، وسحيم بن وثيل الرياحي في الطبقة الثالثة12، وحميد بن ثور الهلالي في الطبقة الرابعة13، وأبا زيد الطائي في الطبقة الخامسة14.

علماً بأنّه صرح في مقدمة كتابه، بأنه سيقسم الشعراء إلى جاهليين وإسلاميين ومخضرمين، وفق التقسيم الزمني.

فما الذي حمل ابن سلام على التصريح مقدماً، بأنه سيتناول الشعراء الجاهليين والإسلاميين والمخضرمين، فإذا به لا يخص المخضرمين بطبقة مستقلة؟ وما الذي حمله على عدم اعتماد الزمن أساساً للتقسيم الطبقي بالنسبة إلى الشعراء المخضرمين تحديداً؟

يبدو أنّ ابن سلام انطلق من التسليم مبدئياً، بما درج عليه العرب من تقسيم ثلاثي وفق الزمن، لكنه عند الفحص والنظر اهتدى إلى أنّ تحكيم عامل الزمن، بالنسبة إلى المخضرمين تحديداً، غير مجد في إنزالهم المنزلة التي يستحقونها، لأنهم في مرحلة انتقال من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، ومن ثم فشعرهم لم تكتمل خصائصه وملامحه التي تميزه بوضوح عن الشعر الجاهلي.

فابن سلام محق، والحالة هذه، في العدول عن اعتماد الزمن أساساً لتقسيم الشعراء المخضرمين، بحكم أنّ هذا لا يفي بالغرض المطلوب.

ولم يكتف بهذا، بل جاء بالبديل المناسب، فحكم الجانب الفني في هذه المسألة، إيماناً منه بأن الجانب الفني كفيل بتحقيق الغرض المطلوب، وهو إنزال الشعراء المخضرمين المنزلة التي يستحقونها، بناء على الفحص والنظر في الخصائص الفنية لشعرهم.

واحتكام ابن سلام إلى الجانب الفني- وإن كان في الشعراء المخضرمين أظهر- إلا أنه لا يقصره على المخضرمين، أو يحصره في الشكل؛ وإنما يستحضره في نقد سائر الشعراء الذين اختارهم عيّنة لبحثه، ويعتمده في مضامين الشعر أيضاً: فزهير عنده، "أحصف الشعراء شعراً، وأبعدهم من سخف"15. وهو إلى جانب ذلك، "لا يمدح الرجل إلاّ بما فيه"16.

النقد التوثيقي:

لا شكّ أنّ قضية انتحال الشعر ووضعه ليست وليدة اليوم، وليست وقفاً على أشعار شعراء العرب في الجاهلية؛ وإنما هي ظاهرة معروفة في الآداب العالمية قديمها وحديثها: فعند الإغريق القدامى -على سبيل المثال- أثيرت قضية من أعسر القضايا النقدية حول الشاعر الإغريقي (هوميروس)، صاحب الإلياذة والأوديسا وهو من هو تأثيراً في الشعر والشعراء، إذ ظل منهل كل من جاء بعده، من كبار النقاد والأدباء في الأدب الإغريقي والروماني، ثم الأدب الأوربي والعالمي17. فملاحم (هوميروس)، هي أقدم ما انتقل إلينا، عن طريق الرواية المسموعة، مثلها كمثل الشعر القديم لدى سائر الشعوب والأمم ومن ثم، بدأت بذور الشك تتسرب إلى هذه الأشعار، فكتب العلامة الألماني ف. أ. فولف ( F.A. Wolf) كتاباً سمّاه: "مدخل إلى هوميروس"، نشر سنة 1795م.

ومؤدّى ما ذهب إليه، في هذا الكتاب، أنّ ملاحم هوميروس لم تدوّن في عصر نشأتها؛ لأنّ فنّ تدوين الأدب وغيره، لم يكن معروفاً آنذاك، فضلاً عن أنّ طول النفس الشعري في ملحمتي هوميروس فوق طاقة الذاكرة البشرية، فيستحيل حفظ هذه الأشعار، ونقلها عبر العصور المتعاقبة من جيل إلى آخر.

ومن ثم، خلص إلى القول بأنه ربما كان هناك شاعران بهذا الاسم: أحدهما نظم الإلياذة، والآخر هو مؤلّف الأوديسا18.

أما في الأدب العربي، فلا يخلو عصر من العصور الأدبية المتعاقبة من هذه الظاهرة على تفاوت في استفحالها بين عصر وآخر.

ولم تكن هذه الظاهرة مقصورة على الشعر وحده، بل لقد شملت كل ما يمت إلى الأدب العام بصلة: كالنسب والأخبار، منذ الجاهلية نفسها.

وخلاصة القول فيها؛ أنّ ما بين أيدينا من شعر الجاهلية، وكذلك صدر الإسلام، لا يصح التسليم بصحته كله، كما لا يصح الحكم ببطلانه كله.

وإنّما منه ما هو صحيح، لا غبار عليه، ومنه ما هو فاسد مصنوع، أو مفتعل منسوب لغير قائله الحقيقي. والعمدة في معرفة ذلك كله، إنما هي جهود أثبات العلماء والرواة، الذين فحصوا ومحّصوا، واهتدوا إلى أنّ الشعر الجاهلي كان عرضة، منذ الجاهلية وصدر الإسلام، للوضع والانتحال والتصحيف.

ولعل الأصمعي أكثرهم نصيباً من رواية الأخبار في هذه القضية، وهو القائل: "أقمت بالمدينة زماناً، ما رأيت بها قصيدة صحيحة إلاّ مصحفة أو مصنوعة"19. وقد أولى ابن سلام هذه القضية عناية فائقة، فعرض لها، بصورة مطولة، مشيراً، في مقدمة كتابه، إلى أنّ الشعر العربي، منه ما هو صحيح، يجب قبوله والأخذ به، ومنه ما هو مصنوع مفتعل، خال من كل القيم التاريخية والفنية، يجب تركه والاحتراس منه.. والجدير بالذكر أن ابن سلام الجمحي لم يدّع أنّه كان رائداً في بحث قضية الوضع والانتحال، ولم يأت فيها بجديد، اللهم المنهج الذي اعتمده في بحثها، حيث تناولها بطريقة أكثر تفصيلاً وتنظيماً، ولم يكتف بالوقوف عندها بل تجاوز ذلك إلى البحث بإسهاب، في مختلف الأسباب والدوافع التي أدّت إليها.

 صفوة القول: إنّ قضية الوضع والانتحال في الشعر، قضية قديمة في النقد الأدبيّ، وهي ليست وقفاً على الأدب العربي، وإنّما هي معروفة في الآداب العالميّة أيضاً. ولا يرجع فضل ابن سلاّم في هذه القضية، إلى أنّه كان رائداً في إثارتها، إذ سبقه إلى الخوض فيها العديد من العلماء وإنّما يرجع إليه الفضل، في هذه القضية تحديداً، في طريقة التناول، حيث كان أكثر تنظيماً وتفصيلاً في منهجه العلمي المتميز في بحث هذه المسألة من جميع جوانبها، فتعقب مواضعها، وتقصّى أسبابها، ودحض الشعر المصنوع بأدلّة نقلية وعقلية، فانتهى إلى نتائج مؤدّاها أنّ الشعر العربي، في الجاهلية وصدر الإسلام، لا يصحّ بحال من الأحوال، أن نسلّم بصحته كلّه.

وبالمقابل، لا يصحّ أن ننظر إليه على أنّه كله موضوع أو منتحل. ويؤيّد هذه النتيجة العديد من ثقات العلماء، المشهود لهم بطول الباع في مجال اللغة والأدب والنقد، الذين عمدوا إلى فحص الأشعار وتمحيصها، وردّوا موضوعها وشهدوا بصحة صحيحها.

ولا عبرة بقول بعض المستشرقين، ومن تبعهم من الباحثين العرب: إنّ الشعر العربيّ في الجاهليّة لا يمثل حياة الجاهليين، وهو كلّه موضوع بعد الإسلام، لأنّ في هذا الرأي ما فيه من الشطط، ويحمل في ثناياه خلفيات، أقلّ ما توصف به، أنها بعيدة عن البحث العلمي النزيه. ومن ثمّ، فهو موضع رفض تام من قبل الباحثين المنصفين، من عرب ومستشرقين.

 


الهوامش: 1. ضحى الإسلام: أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط 10. ج2 / ص: 285. 2. طبقات فحول الشعراء: محمد بن سلام الجمحي، قرأه وشرحه أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة.ج 1 / ص: 16. 3. المصدر نفسه، ج 1 / ص: 17. 4. المصدر نفسه، ص: 21. 5. النقد الأدبي: أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، ط4 -1967م.ج2 / ص: 468. 6. النقد الأدبي (أصوله ومناهجه): سيد قطب، دار الشروق، ط 6 - 1990 م، ص: 132. 7. ينظر طبقات فحول الشعراء: ابن سلام، 1 / 97. 8. ينظر طبقات فحول الشعراء: ابن سلام، 1 / 123. 9. المصدر نفسه، ص: 159. 10. المصدر نفسه، ص: 171. 11. المصدر نفسه، ص: 189. 12. المصدر نفسه، ص: 571. 13. المصدر نفسه، ص: 583. 14. المصدر نفسه، ص: 593. 15. طبقات فحول الشعراء: ابن سلا م،1 / 64. 16. المصدر نفسه، ص: 63. 17. ينظر الشعر الإغريقي تراثا إنسانيا وعالميا: د. أحمد عثمان، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، العدد 77، مايو 1984 م، ص: 13. 18. ينظر المرجع نفسه، ص: 13. 19. المزهر في علوم اللغة وأنواعها: العلامة عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، شرحه وضبطه محمد أحمد جاد المولى بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، دار التراث- القاهرة، ط 3.ج2 / 413.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها