ليلة طعن الشاعر!

حمود ناجي


كانت ليلة حالكة الظلام في حارة العرب (بلاجو) القابعة في الطرف الشمالي لمدينة مقديشو، وعلى بعد مسافة قصيرة من شواطئ المحيط الهندي. كانت الأجواء خانقة برطوبتها بعد هطول أمطار الموسم، فيما كانت اليعاسيب، الشبيهة بطائرات الهليكوبتر، تحوم كعادتها حول بعض المصابيح العمومية القليلة. كان رجال الحارة منكبين على الراديو للاستماع إلى نشرة الأخبار باللغة العربية لإذاعة بي بي سي من لندن في التاسعة مساء. وكعادتهم كل مساء كانوا يجتمعون بعد صلاة العشاء في إحدى دكك الحارة بمحاذاة بيت بن مسيمار أو دكان صالح باقي أو بيت التركي. استعصى عليهم، ذلك المساء، ضبط مؤشر المحطة على الراديو الترانزستور بسبب كثافة الغيم الذي عطل الموجات القصيرة. كانت إذاعة بي بي سي لندن بالنسبة لهم مصدر الخبر اليقين، بعد أن نبذوا إذاعة صوت العرب من القاهرة منذ حرب الستة أيام عام 67، عندما أعلن المذيع المشهور حينذاك أحمد سعيد بأن القوات العربية أصبحت على مشارف القدس، فهلّلوا وكبّروا، ثم صُدموا في اليوم السادس عندما تيقنوا من هزيمة القوات العربية واحتلال إسرائيل لأراض عربية جديدة.

وفجأة، في خضم محاولات رجال الحارة لضبط مؤشر الراديو، سمعوا منادياً يصرخ: "طعنوا الشاعر! طعنوا الكندي! طعنوا الشاعر الكندي"! وقع الخبر على آذانهم كصاعقة مفاجئة، ووقفوا في حالة من الذهول والشك، يتبادلون النظرات التي حملت في طياتها مزيجاً من الخوف وعدم التصديق. وعندما وصل المنادي إليهم، يلهث ويتلعثم من شدة الركض من حي المعاصر، جنوب حارة بلاجه حيث يسكن الكندي، قال: "الكندي طُعن بسكين، وأُسعف إلى المستشفى. لكننا لا نعرف الجاني".

نسي الجمع إذاعة بي بي سي وبدأت التساؤلات تتدفق. من تجرأ على طعن الشاعر؟ فالكل كان يحبه ويقدره، وقد قال في إحدى قصائده: "عشت سالياً وسأموت سالياً، لا نريد عيشة البهدلة".

كان الجعيدي أحد الحضور، شرطياً ماهراً صعد مراتب الشرطية في وقت قياسي، بعد أن كان رأس الحربة في كشف النقاب عن قضايا السرقة والقتل وتزوير العملات في العاصمة مقديشو. وفي بداية مشواره كتشف عن عصابة كانت تسرق الأغنام في حارة العرب. اعتاد أهالي الحارة ترك الاغنام تسرح خارج البيوت في النهار، ثم تُجمع في المساء قطيعاً كبيراً في منطقة السوق أمام دكاني صالح كرنتا أو علي بن علي لتعلف من بقايا الخضروات والفواكه. كانت الأغنام من النوع العربي، ويقال إن أحد المهاجرين اليمنيين جلبها من اليمن فتكاثرت في حي العرب، ومنذ ذلك الحين سُميت بالأغنام "العربية". كانت هذه الأغنام كثيفة الوبر، مدرارة للحليب، وتشكل رأس مالٍ لا يستهان به لأهالي الحارة، خاصة الفقراء منهم.

اشتد اللغط حينها حول هذه القضية مما أعطى لذوي الطوية السيئة الفرصة للتطاول على أسماء محترمة في الحارة ممن كانوا يعملون في تجارة الجلود كالكُربي وباوافد، فقال أحدهم إن موسم انتعاش تجارتهم هو موسم الأعياد فلا ضرر من أن يستفيدوا أيام الركود من هذه القطعان السائبة.

كان الجعيدي يستقي معلوماته في التحقيق من أي مصدر ممكن، ولم يستثن حتى الأطفال أو مهابيل الحارة ناهيك عن فتيان الحارة. فاستعان بهم ليكتشف في الآخر أن العصابة مجموعة من الجزارين في السوق.

في تلك الليلة، لم يقتصر الظلام على الحارة، بل زادته الخفافيش التي غزت السماء، متسابقة على التهام اليعاسيب والحشرات الحائمة حول الإضاءة العامة في الشوارع الرئيسية. لم يفق الرجال المتجمعون حول الراديو من هول الصدمة إلا عندما قال لحمان، صاحب المطحنة: "كنت أعلم أن شيئًا سيحدث الليلة". رد عليه الجعيدي بلهجة ناهرة: "دعك من هذا الهراء، فالرسول نهى عن التطيّر". كان الجعيدي، بعقلية الشرطي، يعتمد على الملموس من القرائن والبراهين والدوافع. لم تكن هناك معامل جنائية متطورة في مركز شرطة الحارة في ذلك الوقت، ولا اعتماد على نتائج الحمض النووي، وكانت البصمات أكثر ما توصل إليه الطب الشرعي. لذا كان الأمر كله يعتمد على المحقق وحدسه الرفيع إضافة إلى الشهود.

قال لحمان: "ربما يكون الجاني أحد شباب الحارة الجانحين". فرد عليه الجعيدي بلهجة العارف: "انت لا تعرفهم. لن يقوم أحد منهم بهذه الحماقة". استعان الجعيدي مرات عدة بفتيان الحارة. كانوا أشقياء جانحين لكنهم لم يكونوا مجرمين أو قتلة، وكان من عادتهم مواجهة خصومهم دون غدر. وكانوا ملتزمين دوماً بميثاق شرف غير مكتوب بألا يتعرضوا للحارة وأهلها، تبعاً للمثل القائل: حيّة البيت لا تؤذي ساكنيه

في صباح اليوم التالي، زار الجعيدي للمرة الثانية مكان الحادث في حي المعاصر للبحث عن شهود، فإذا بأحدهم يقول: "الكندي يستحق". سأله الشرطي: "لماذا"؟ فأجاب: "لقد صورني وأنا في المرحاض". سأله الجعيدي مستغرباً: "هل لديك الصورة"؟ إذ لم يكن في الحارة إلا مصور واحد لكل المناسبات، هو عمر وِيرشو (أي الأعور من الإيطالية guercio)، وكان يحوم في الحارة بكاميرته من نوع ياشيكا كل يوم وقت العصر. أجاب الآخر: "صورني في بيت شعر داخل مجلس، فأضحك عليّ الحضور"

سجل الجعيدي المعلومة وغادر المكان وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة. التقى في طريقه أحد فتيان الحي قائلاً له: "لماذا لا تذهب إلى المسجد فقد تحصل على بغيتك". سأله الجعيدي: ماذا تعرف؟ فأجاب: "لا شيء بالتحديد، لكن من باب الاجتهاد فقط". فقال الجعيدي: "اجتهاد الفاسقين مفسدة". لكنه توجه بالفعل إلى المسجد مع صلاة العصر. الكل كان يعرف من هو وأنه لم يأت للصلاة فقط وإنما جاء للتحري. فقد كان يمكنه أن يصلي في المسجد المجاور لبيته. بعد الصلاة تجمع المصلون حوله فأخبرهم بأن حالة الكندي مستقرة وقد تجاوز الخطر. فبرز أحدهم ليقول: "الكندي يستحق ما حدث له، لأنه أصبح زنديقاً، وفي إحدى قصائده التي غناها فيصل علوي يوصي الكندي أهله وإخوانه بأن يضعوا في قبره، وعلى يمناه ربابه وعوده، عسى في القيامة مَغانٍ. فهل بعد هذه زندقة"؟

في جولات الجعيدي الاستقصائية في اليوم الثاني، صادفته غنيمة في الطريق، وقالت له: "رأيت المجنون يتجول في الحارة ليلة الجريمة، ربما يكون هو الجاني". غنيمة، وهي حضرمية من أصول أفريقية، كانت تعرف كل ما يجري في الحارة. جسورة وسليطة اللسان، يُقال إنها إذا عيّرت أحدًا، يُصاب بالعقم أو العنة. ولا ندري ما الذي سيقوله فرويد عن هذه العلاقة بين القدح والعقم، فهو الذي أعاد كل عوامل النفس البشرية إلى الجنس. كان المجنون الذي تحدثت عنه غنيمة فتى مختلًا عقليًا، تتستر عليه أسرته ولا يخرج من البيت أبدًا، وقد خرج من البيت خلسة تلك الليلة.

تاه الجعيدي في هذه القضية. لم يحصل على مشتبه فعلي؛ فهناك مختل عقليًا، واثنان أظهرا كراهيتهما للكندي علنًا دون أن تكون لديهما دوافع قوية. تأكد للجعيدي أنه فشل في حل هذه القضية، ولأول مرة في حياته ذاق مرارة هذا الطعم المهني المهين. كانت هذه أول قضية يعجز عن فك طلاسمها، ويُقيّد الجاني فيها ضد مجهول.

خرج الكندي من المستشفى بعد بضعة أيام، لأن الجرح لم يكن عميقًا. جاءت الطعنة على الكمر الذي كان يحتزمه فوق المعوز، فخفف من خطورتها.

أما الجعيدي، فقد ظل يتردد في رأسه سؤالٌ واحد: "كيف يمكن أن يُطعن شاعر الحارة المحبوب دون أن يعرف أحد السبب أو الجاني"؟ كان هذا السؤال يطارده كل ليلة، ومع ذلك لم يستطع الوصول إلى إجابة شافية. بدت الحارة وكأنها تتآمر على إخفاء الحقيقة، أو ربما كان الجميع يعلم، ولكنهم فضلوا الصمت.

مع مرور الأيام، بدأت الحارة تعود إلى طبيعتها، لكن الجعيدي لم ينسَ تلك الليلة. ظل يتساءل في أعماقه عما إذا كانت العدالة قد أُنجزت أم أن الحارة ببساطة اختارت الطريق الأسهل... طريق النسيان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها