خلع الحذاء.. ووضعه برفق فوق كرسيه.. تأمّله لحظة.. وبدأ يرسمه بحرارة وانفعال كما يفعل دائماً مع هؤلاء الذين يحبهم.. انتهى من الرسم.. وضع إلى جوار الحذاء شمعة.. وألقى عليه نظرة الوداع الأخيرة.. تناول مسدسه.. وخرج إلى حقول القمح، ودوّت طلقة صفعت السكون، وترددت صيحة. لقد قتل (فان غوخ) نفسه! أنهى الفنان العبقري رحلة بحثه المضنية.. وراء الفن والحب والحقيقة.. في يوم الأحد 27 يوليو.. بعد 37 عاماً من الشقاء والصبر.. ومعاندة الحياة.. برصاصة ثمنها 90 سنتاً.. ورث بها لقب (المجنون).
اشتهر فان غوخ في العالم كله بعد 180عاماً أو أكثر من وفاته، وتخاطفت لوحاته المتاحف.. وهو الذي باع لوحة واحدة في حياته اشترتها (آني بوش)، امرأة طيبة كانت بحاجة للوحة رخيصة تضعها فوق المدفأة!
خطاباته لأخيه (ثيو) بيعت بـ 40 ألف فرنك..
واغتنى الورثة من بيع ألوانه وفرشه..
تبقى الحذاء العجوز.. نسيه الجميع على الرغم من أن اللوحة التي رسمها (فان غوخ) له يطلبها طلبة الفنون الجميلة في باريس وموسكو ومدريد...
من يتقدم ليرث الحذاء؟ ويحاول أن يكمل لـ(فان غوخ) رحلته في الطريق الطويل مع الفن والحب والحقيقة؟
عزيزي فان غوخ بعدما يقارب القرنين على رحيلك أُحاول أن أضع قدمي في حذائك العجوز، الذي تجمدت عليه الأوحال، أُحاول أن أكمل لك رحلتك في الحياة.. بين البشر والمعاني والألوان لعلّني أستطيع في النهاية أن أقول لك.. من أكثر صدقاً ومن أكثر جنوناً.
(الحذاء المجنون هاجر معك من هولندا إلى باريس)، تركت وراء ظهرك (جروت زاندرت) مسقط رأسك، وأبوك (تيودور) الراعي الطيب. تركت كل الذين لقبوك (بالشاب الصامت)؛ لأنهم لم يفهموا أن في صمتك حواراً دائماً بينك وبين نفسك.. وأسئلة كثيرة تبحث عن إجابات.. أرادوا لك أن تصبح راعياً للكنيسة. وأردت أن تصبح ابن الإنسانية الضال.. فخلعت ساعتك وقفازك ووضعتهما مع كل ما تملك في طبق الفقراء متحدياً الأغنياء الذين يديرون وجوههم خشية النظر في عينيك.. وذهبت إلى المناجم وتلوثت بالفحم.. علمت الأطفال.. وركعت إلى جوار المرضى.. وشك فيك الرهبان.. وأرسلوا في أثرك من كتب فيك تقريراً قال فيه: (إن الراهب الشاب ينقصه اتزان الراعي الصالح).
إن حذاء الراهب يجب أن يظل نظيفاً وحذاؤك تلوث بالفحم..
إن ثمن الصدق باهظ..
في (مونمارتر) وسان جرمان.. اليوم يُعرض الفن الرخيص المزيف.. بلا أعماق وبلا نبض، يقلدون كل شيء حتى أنفسهم.. كالبهلوانات.. يصبغون بكل ما يخطف العين التي تنقصها الخبرة..
الفنان اليوم يقدم للجمهور شيئاً ويقدم لنفسه شيئاً آخر، وعندما تسأله عن سر هذا التناقض، يقول لك في لحظات الصدق أو بعد الكأس الرابعة: (إننا نبيع الآكاذيب من أجل طعامنا) والحذاء العجوز، ما زال يذكر أنك في ذلك الشهر البعيد من أكتوبر عشت ثلاثة أيام كاملة على ثلاثة وعشرين فنجاناً من القهوة.. لأنك اشتريت بثمن الطعام ألواناً للرسم، واستضفت صديقك الفنان (غو غان) بالباقي.
والحذاء العجوز، يذكر الأميال الطويلة التي كنت تمشيها.. وتضنيه، لتوفر ثمن المواصلات؛ أو لأنك لا تملكها على الأطلاق. لم تزيف نفسك.. لذلك استطاع فنك أن ينقل الطبيعة لداخل البيوت.. لم تكن تحب اللون الأسود ولم تضعه في لوحاتك ولم تحاصر به ألوانك..
كنت تحبها حرة.. تتعانق وتتزاوج داخل العين.. فالخط الأصفر يرقد إلى جانب الأحمر، وفي داخل العين من المزيج تولد أشعة الشمس التي كنت تطاردها وتطاردك.
أنت اليوم لم تُشاهد (الكمبيوتر) عندما يخلط الألوان بضغطة زر ليهبك لوحة تجريدية، تستطيع أن توقعها بإمضائك طالما أنك ضغطت الزر..
عاشقان.. فرنسية وشاب إنكليزي يقفان أمام صورتك، يهمس لها بأنك قطعت أذنك.. تطلق ضحكة عالية ثم تقبله.. ويتعانقان. هو الحب، بلا معنى، ليس ذاك الحب في الكتب القديمة؛ لأن ما يمارس اليوم شيء آخر تماماً اسمه الجنس.
رياح الخريف تفتح على أوراقك بعض ما كتبت (أحياناً رغم حيرتي.. أحس أنني أعرف تماماً ما أُريد، فأنا ذقت العذاب، وأحب أن تحمل لوحاتي كلمة عزاء لهؤلاء الذين يعانون الألم)
وجدوا أخيراً في العدد القديم المتآكل من عام 1881 من مجلة (الريفوم) ما حدث لك.. عندما كان الحب عاطفة مصدرها القلب. (يوم الأحد الماضي في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء.. توجه رجل يدعى (فانسنت فان غوخ)، وهو رسام من أصل هولندي إلى البيت السري رقم (1)، وطلب مقابلة امرأة تدعى راشيل.. وأعطاها لفة قائلاً لها أن تحتفظ بها.. ثم اختفى. وعندما فتحت المرأة اللفة وجدت فيها أذناً دامية.. كانت أذن الفنان نفسه. وأسرع رجال الشرطة في اليوم التالي إلى هذا الشخص الغريب.. ووجدوه بين الحياة والموت..).
لم يحاولوا أن يسألوك بعدها ما الذي دفعك أن تبحث عن قلب امرأة لا تعرف سوى الجسد.. كنتَ ساعتها ستصمت كالعادة..
لكن الدكتور (جاشيه) كان يستطيع أن يقول الكثير.. واللوحة الصامتة التي يحتفظ بها متحف (الجودويوم) بباريس تقول: من خلال نظرات الأسى والوجوم على وجه المفكر وأنت ترسمه، كم كان قلقاً من أجلك، لقد زاملك طوال حياتك.
كان جاشيه يستطيع أن يفسر أنك تبحث داخل جسد المرأة عن القلب.. وكانت راشيل امرأة طريق.. التقطتها من الرصيف، ومسحت عن وجهها الأمطار والدموع وغسلت جسدها من الطين، وحميت جنينها الذي لم تعرف له أباً، وعندما عاداك الناس لم تخف على سمعتك.
أعطيتها فراشك، بل أعطيتها قلبك لتعيد إلى قلبها إيمانه بالحياة.. ولم تصدق راشيل.. لم تصدق حبك.. طلبت إثباتاً لعواطفك، وعادت إلى البيت الذي تعودت أن تدفن جسدها فيه كل مساء بين السيقان الغريبة.
صحت فيها ساعتها في يأس:
- ما الذي تطلبينه برهاناً لحبي؟
قالت.. وكلماتها تصفعك:
- أذنك الكبيرة..
وقطعت أذنك.. تشتري ثقتها، ولم تخف ساعتها. كنت تريد أن تستبقيها لنفسك، وصاحت وهي تسقط على الأرض، وترى أذنك الدامية: مجنون.. مجنون!
خطاباتك تقول: (إن راشيل لم تكن أبداً البداية؛ وإنما النهاية لعواطفك)، كانت هزيمتك الأولى في خيالك الذي رسمت من خلاله الحب، كما قلت وقتها مراراً مع ديكنز:
(مائة جنيه كل شهر.. وامرأة رقيقة.. ونصف دستة أطفال.. ومائدة دافئة محاطة بالأصدقاء.. نافذتها تطل على حديقة صغيرة.. وحياة مفتوحة على الريف الإنكليزي)
الحذاء العجوز يقدر له مرة أخرى أن يلمس نفس الأرض، رغم التناقض الشديد بين اليوم الذي خلعته فيه وهذا الخريف الذي لم تدركه بعد أكثر من 190 عاماً ها هو يلتقي ببشر يحملون نفس ملامح ذهنك، والناس ينظرون إليهم نفس النظرة التي تكتم الضحكة الساخرة التي سمعتها في آخر حياتك، ومعها الكلمة التي رددها الجميع ما عدا الدكتور جاشيه.
لقد آثرت يومها أن تترك لهم عقولهم وتنجو بجنونك، وذهبت بنفسك إلى مصحة الدكتور جاشيه. لم تأخذ سوى فرشك وألوانك.. والحذاء الوحيد الذي كنت تتعامل معه دائماً كرفيق طريق!
لقد تعبت أنا أيضاً من رحلتي معك.. ورحلتي وراءك.. وتعب الحذاء العجوز من رحلتي.. أكثر مما تعب في رحلتك.. وأخلعه الآن لأضعه برفق في مكانه ليستريح فوق الكرسي العجوز، وأسفل الشمعة التي انطفأت إلى جواره.
أحس مثلك بالإرهاق..
من الصعب أن تحدث الناس بلغتك..
تقول لهم: إن النور داخل الإنسان، وسنبلة القمح أغلى من الذهب، والحب تضحية، والفنان لا يموت لأن كلمته الخط، واللون.. كلمة العين وليست الأذن. من الصعب أن تخرج للحياة بالفحم على جبينك، والألوان على أصابعك، والصدق على لسانك؛ ولأنك قلت لهم ذلك؛ ولأنك لم تخدعهم.. قالوا عنك إنك مجنون.. ولأنك لا تستطيع أن تقتلهم.. ولا تملك سوى رصاصة واحدة فقد قتلت نفسك.
لقد اختلف العصر.. وانكمشت حقول الحنطة.. وبات البحر الذي أحببته مختنقاً بالعمارات وأكوام القمامة.
عباد الشمس وحده هو الذي لم يكفّ عن رحلته مع مطلع كل صباح.. وراء الشمس، ليبحث مثلك عن النور..