رجلُ سِنْجة.. هل هو بداية التاريخ البشري؟

د. محمد عبدالله الريّح

 

توصلت دراسة حديثة إلى أن جميع البشر تعود أصولهم المشتركة إلى أجداد عاشوا في جنوب الخرطوم في السودان، وبالقرب من نهر النيل. وتمكّن باحثون في معهد البيانات الكبيرة في جامعة أكسفورد من إنشاء أكبر شجرة عائلية بشرية على الإطلاق، مع خريطة متكاملة من الجينات، أعادت أصول البشرية المعروفة الآن إلى السودان، وكشفت أن هؤلاء الأجداد عاشوا منذ أكثر من مليون سنة. وتقع تقديرات بعض الباحثين للمنطقة التي انحدر منها أوائل البشر، وأصل مئات الأجيال المتعاقبة على مسافة 402 كم جنوب الخرطوم.

وتمكن الباحثون من إنشاء شبكة تضم ما يقرب من 27 مليوناً من أسلاف الشعوب، واستخدموا عينات ليست فقط من البشر المعاصرين، ولكن أيضًا من الأشخاص القدامى الذين عاشوا في جميع أنحاء العالم منذ ما بين الآلاف ومئات الآلاف من السنين.

واستخدم الباحثون أيضًا خوارزميات متطورة للنظر في أنماط التباين الجيني في البيانات، والتنبؤ بالمناطق التي تم العثور فيها على أسلاف مشتركة في شجرة العائلة. قال الدكتور آنثوني مونز لشبكة رويترز: إن الأسلاف يعودون بالزمن إلى موقع جغرافي في السودان الحديث. عاش هؤلاء الأسلاف منذ أكثر من مليون سنة وهو أقدم بكثير من التقديرات الحالية للإنسان العاقل منذ 250 إلى 300 ألف سنة. فقد ورثت هذه السلالات أجزاء من جينومات من أفراد لن نعترف بهم كبشر حديثين.

استخدم الباحثون 3609 كتسلسل فرديّ للجينوم من 215 مجموعة وعينة تراوحت من 1000 إلى 100000 عام باستخدام طريقة جديدة لتجميع البيانات، وتمكنت الخوارزميات من التنبؤ بمكان وجود الأجداد المشتركين في الأشجار التطويرية لشرح بعض أنماط التباين الجيني، فكانت النتيجة عبارة عن شبكة بين ما يقرب من 27 مليوناً سلفاً.
ومنذ أن أماط العالمان واطسون وكريك في عام 1952 اللثام عن التركيب الكيميائي لـ د إن ايه DNA تغير المشهد داخل الخلايا وداخل علم الوراثة كلياً، وأصبح الجين يطل على عالم يتحكم في معرفة على غاية من التعقيد والاحتمالات والدهشة. تعقيد فرضته طبيعة الحلزون المزدوج Double- Helix الذي تنتظم فيه البروتينات والمواد الكيميائية في تنظيم ملتو وانفتحت أبواب لانهائية في علوم شتى، كعلم الإحاثة أو البليونتولوجي بشقيه الإحاثة النباتية Palaeobotany والإحاثة الحيوانية Paleozoology، وقفز علم التصنيف من مكمنه الوصفي إلى آفاق جديدة من الاستقراء المعتمد على الخلايا والكيمياء والتركيب الجزيئي Molecular، وأطل فجر جديد ترسم ملامحه تلك الحواسيب بخوارزمياتها المتعددة، وأمكن تحليل مصفوفات ضخمة ليس في مقدور الجهد البشري أن يقوم بتحليلها، وأمكن رسم العلاقات بين الوحدات التصنيفية الفاعلة Operational Taxonomic Units OTUs
في دراسات تقيس معامل التشابه Coefficient ofsimilarity أو عدم التشابه
Coefficient of dissimilarity ورسم تخطيطات لها.

وللبحث عن الأصول الأحادية أو المشتركة لتلك الكائنات نشأ علم يستنبط العلاقات التي تربط الكائنات بمنابعها البيولوجية، وتوضيح ذلك من خلال شجرة الأنساب أو الكلاسيكية.
وسبقت الدراسات الجينومية دراسات تقوم بتفكيك الخلايا واستخلاص الجينات وفردها على طاولة البحث وفقاً لنوع الكائن، واستخلاص الكروموزوم YX الذي يصنف الكائن كذكر والكروموزوم XX الخاص بالأنثى.

مما لا شك فيه أن الطفرة الكبرى في علم الجينات والإحاثة أو المتحجرات وما أتاحته خريطة الجينوم البشري مكنت الوصول إلى نتائج مبهرة من ضمنها البحث الذي قامت به مجموعة أكسفورد الذي ذكرته في بداية مقالي هذا.

إن رجل سنجة Singa Man اكتشفه المستر دبليو بوند الحاكم البريطاني لمديرية الفونج عام 1924 بالقرب من مدينة سنجة على الضفة الغربية للنيل الأزرق في السودان. ويمثل الجمجمة العلوية لرجل دون العثور على الفك الأسفل. أرسلت الجمجمة للمتحف البريطاني فقام الدكتور آرثر سمث بفحصها فحدد عمرها بين 250 إلى 300 ألف سنة، ولكنه صنفها كأقدم إنسان حديث Homo sapiens. أين تصل بنا الأبحاث السابقة والحالية والمستقبلية عن حقيقة تاريخ الإنسان في أفريقيا؟

علم الإحاثة أو المتحجرات علم مثير لأنه يتعلق بالزمن الذي يمتد على نطاق امتداد ما تسفر عنه الحفريات وما يتوفر من وسائل استقصائية حديثة؛ إنها قضية الاستدلال على الغائب بالشاهد.. كل الحفريات تأتي بشهود من العظام والمخلفات الثقافية التي تقول إنهم جميعاً شهود على فاعل غائب. والحكم دائماً يصدر في غياب فاعل كان يشغل حيزاً زمنياً ومكانياً أو جغرافياً. ولنعد إلى فحص الحقائق التاريخية والمعرفية والعلمية والمختبرية ومضاهاة ذلك بالمعتقد الديني، الذي يمد المعرفة الإنسانية بأفق عقائدي يخبر عن يقين معرفي لا يصادم يقين الاستدلال على الغائب بالشاهد.

البداية:

الشمس في إفريقيا كل شيء... شهدت مولد القارة ولا زالت تشرق على صراعها الكبير مع الحياة. ومع ذلك فالشمس التي أشرقت في الأسبوع الثاني من يونيو عام 1919 على المنخفض الشرقي لبحيرة رودلف كشفت للباحثين أول خيوط حقيقية لتاريخهم الطبيعي، ولأصلهم المغروس في جوف الطبقات من الترسبات الجيرية الذي ظل هناك أكثر من اثنين مليون سنة ونصف.

في العام 1972 كنت أعمل في سكرتارية هيئة المتاحف الأفريقية (مجموعة ليفنقستون)، ومقرها لوساكا عاصمة جمهورية زامبيا، وقد كانت المجموعة برئاسة المحامي المرموق إدوارد شاموانا وعضوية المستر ريتشار ليكي من كينيا وباسكال ماكامبيلا من الكونغو برازافيل وشخصي، حيث كنت في ذلك الزمن أعمل مديراً لمتحف السودان للتاريخ الطبيعي الذي يتبع لجامعة الخرطوم.

تعرفت على المستر ريتشارد ليكي وهو ابن لويس ليكي الذي له باع طويل في علم الإحاثة في شرق أفريقيا ومن بعده خلفه ابنه ريتشارد، وقد حقق نجاحات باهرة في اكتشافاته التي قام بها في منطقة التركانا على ضفاف بحيرة فكتوريا. علاقتي امتدت بريتشارد ليكي لفترة طويلة، وكان يطلعني على بعض ما عثر عليه من مخلفات بشرية وحيوانية عند زياراتي له بالمتحف بتيروبي. وبما أني كنت مديراً لمتحف السودان للتاريخ الطبيعي فقد حفزتني مجهودات ريتشار ليكي للاهتمام بذلك الجانب من التاريخ الطبيعي حيث كنت أتلقى كثيراً من المخلفات الحيوانية المتحجرة من مناطق مختلفة من السودان، وخاصة مما عثر عليه عند الحفر لتشييد مستشفى الخرطوم الجديد من عظام حيوانية، كنا نرسل بعضها للمتحف البريطاني للتاريخ الطبيعي للتعرف عليها وتصنيفها، وتدربت في المتحف الملكي البريطاني في ادنبرا على الرسم العلمي للمتحجرات وتصنيفها مما ساعدني كثيراً على تدريس مادة الإحاثة الفقارية لطلاب كلية الآثار بجامعة الخرطوم.

فما هي إذاً قصة البحث عن الإنسان القديم في أفريقيا

عندما كان الدكتور رايمون دارت -بروفسير وأستاذ علم التشريح في جامعة ويتواترستاند بجنوب أفريقيا- يختبر بعض العينات من المتحجرات الحيوانية التي أحضرت له في صندوق خشبي، استرعت انتباهه جمجمة غريبة الشكل.. حجمها يساوي ثلاث مرات حجم جمجمة القرد العادي وأكبر من جمجمة الشمبانزي. لقد أحضرت تلك العينات من منجم للجير بالقرب من جوهانسبرج من محطة تاونج. هل يمكن أن تكون تلك الجمجمة هي الحلقة المفقودة في التاريخ الطبيعي للإنسان؟

ورويداً أخذت المعالم الرئيسة للجمجمة تظهر لها جبهة حقيقية، والفكُّ الأعلى لم يكن يشبه الفك الأعلى للقرود؛ إذ إنه كان متشكلاً للخلف وليس للأمام.. ومنحصراً تحت غطاء المخ. هل كان هذا قرداً أم إنساناً أم كليهما؟

يقول كتاب "التطور" الذي أصدرته سلسلة "لايف": إنه قبل سبعين مليون سنة عندما غطى الجليد معظم الأرض، ونهضت الجبال بالقرب من السواحل ظل إقليم جنوب أفريقيا هضبة كما هو الآن لم يتأثر بذلك الزحف الجليدي ولم تتغير معالمه كثيراً.

وظل الدكتور دارت يعمل في تلك الجمجمة حتى تمكن في اليوم الثالث والسبعين أن يتحصل على جمجمة طفل في عامه السادس، وتحمل معها على كل فك أسنان اللبن كاملة، وقد كانت الأضراس الأمامية واضحة وسطحها قد تآكل بينما ظهرت الأنياب صغيرة كما في الإنسان. وشكل الجمجمة يدل على أن الحيوان الذي كان يرتديها كان يسير على رجلين اثنين وليس على أربع.

جميع الاكتشافات السابقة كانت تسفر عن جماجم لأناس يشبهون القرود، بينما كانت الجمجمة التي اكتشفها دارت تحمل ملامح عكسية إذ إنها كانت لقرد له ملامح بشرية، ولهذا اختار لها الاسم العلمي "استرالوبيثيكاس افريكاناس" Australopithecus africanus

والتي تعني باللاتينية: قرد جنوب أفريقيا.

وقد كتب الدكتور دارت بحثاً لمجلة الطبيعةNature التي تصدر في لندن في الثالث من فبراير عام 1925 وفجر فيه قنبلته التي تقول:
)إن هذا البحث مهم جداً؛ لأنه يدل على وجود كائنات تقع بين القرود والسلالات الإنسانية ). وقد كانت هذه العبارة كافية لأن تمتنع مجلة الطبيعة من نشر ذلك البحث، فتولت جريدة (جوها نسبرج إستار) تفجير تلك القنبلة التي قابلها العلماء بالكثير من الجدل والصخب والمعارضة، وكان على رأس المعارضين سير آرثركيث والسير آرثر سميث وودورد، وقد علقت بعض الهيئات العلمية بقولها:
"إن طفل دارت ليس في الحقيقة إلا جمجمة مشوهة لشمبانزي"، غير أن هناك عالماً إسكتلندياً هو الدكتور روبرت بروم اختصاصي علم وظائف الأعضاء قد أظهر حماساً لذلك الكشف الهام، وقد كان الدكتور بروم نفسه مكتشفاً بارعاً، وقد أكمل باكتشافاته في المتحجرات كل السلسلة التي تربط بين الزواحف التي تبيض وأوائل الثديات التي تبيض مثل منقار البط والإكيدنا – أي الحيوانات من ذوي الثديات. ووصل الدكتور روبرت بروم إلى جنوب أفريقيا وأخذ يجري أبحاثه على (طفل دارت) على حد تعبير الأوساط العلمية المشككة، وأثبت في مقال له نشرته مجلة "الطبيعة" نفسها بأن ذلك الكشف يعد من أعظم الاكتشافات التي عرفها علم (المتحجرات)، وهي تدل على صلة وثيقة بين تلك السلالات الفرعية والسلالات الإنسانية السفلى.

وفي عام 1929 استطاع الدكتور بروم أن يفصل الفك الأعلى عن الفك الأسفل فظهرت الأسنان واضحة. وقد كان هم الدكتور بروم أن يتحصل على جمجمة كاملة لرجل ناضج لذلك (الإنسان القرد)، فتم تعيينه أميناً لقسم المتحجرات لمتحف الترانسفال في بريتوريا.

وفي مدة 18 شهراً استطاع بروم أن يكتشف عشرات العينات من الفئران المتحجرة والقرود والخنازير البرية.

وفي منجم للجير بالقرب من ستيركفونتاين كان المستر بروم يفحص العينات التي أتى بها مدير المنجم، ويتحصل على أول قطعة كاملة لرجل ناضج في أغسطس من عام 1936.

وفي يونيو من عام 1938 التقى الدكتور بروم بطفل من ضاحية كرومدراي وقد أخرج من جيبه أربعة أسنان آدمية وجدها في تلك الضاحية، الأمر الذي جعل الدكتور بروم يهرع إلى ذلك المكان ويتحصل على جمجمة مكتملة مختلفة تمام الاختلاف عن الجمجمة التي وجدت في تاونج، وعن الجمجمة التي وجدت في ستيركفونتاين. هل هذا إنسان آخر يضاف إلى تلك السلسلة من الاكتشافات في جنوب أفريقيا؟

لقد اقتنع الدكتور بروم بأن تلك الجمجمة هي لإنسان مختلف تمام الاختلاف عن طفل دارت وعن إنسان ستيركفونتاين، ولهذا جعل تصنيفه مختلفاً وأعطاه الاسم العلمي: "بارانثروبس روبستس"، ونادى بأن تلك الجمجمة قربت المسافة جداً بين الإنسان الحديث وأسلافه المنقرضين.

وثار العلماء وارتفعت أصوات كثيرة تستنكر هذا التصنيف العلمي ولكن الدكتور بروم يرد بقوله:
"عندما يكون الإنسان محاطاً بمثل هؤلاء الحاقدين؛ فإنه لا يكشف كل أوراقه ولا يوضح كل أسراره".

وهو يعني بذلك أن هناك أسراراً بعينها مرتبطة بالكشف الذي تحصل عليه لم يشأ أن يذكرها، وبالفعل فقد أوضح فيما بعد أنه قد تحصل على مجموعات كبيرة من عظام الحيوانات التي كان يستعملها ذلك الإنسان القرد في مرحلة من المراحل، وإن ذلك الإنسان القرد لا بد أن يكون قد استفاد من تلك الحيوانات بأي شكل من الأشكال.

واستأنف الدكتور بروم حفرياته بعد نهاية الحرب حول ستيركفونتاين وتحصل على أول جمجمة لامرأة ناضجة، وذلك بعد أن فجر كهفاً بالديناميت فتناثرت الحجارة وتركت تحتها الفك الأسفل مغروساً في طبقة جيرية. وقد تم جمع العظام التي تناثرت، وكان من بينها فك علوي لرجل وقطعة من عظام الحوض.

واستمرت الحفريات حتى أمكن عام 1949 من الحصول على عظام لعدد من الأشخاص في تلك الكهوف. وقد تولى الدكتور كلارك من جامعة اكسفورد دراسة تلك العظام دراسة محايدة وسط ضجة علمية شديدة وجدل عنيف وقد جاء تقريره موضحاً:
"إنه من الواضح أن تلك المخلوقات كانت تشبه القرود ولها أمخاخ صغيرة وفكوك هائلة".

واتجه البحث ناحية أخرى: فإذا كانت هذه المخلوقات هي قريبة الشبه من الإنسان فيجب أن تكون لها بعض المخلفات الثقافية، مثل الآلات التي كانت تستعملها والفرق بين الإنسان والقرد هو أن الإنسان يستعمل الآلة ويصنعها، ولكن القرد لا يستطيع أن يصنع الآلة أو حتى يستعملها استعمالا متقدماً.

وهذه المخلفات الثقافية مهمة جداً لتوضيح نوع المخلوقات التي كانت تسكن تلك الأودية.

وفي ربيع عام 1957 تم الحصول على كثير من الآلات الحجرية التي نحتت بعناية لتكون ذات أطراف حادة يستعملها ذلك المخلوق في شتى ضروب احتياجاته. وقد دل ذلك على أن تلك المخلوقات كانت تسير على رجلين اثنتين وبقامة معتدلة، وذلك واضح من المخلفات الثقافية التي توسدوها عندما داهمهم النوم الأخير الذي امتد إلى مليون ونصف سنة.

ومنذ عام 1931 كان الدكتور ليكى (والد المستر ريتشارد ليكى المدير السابق لمتاحف كينيا) يجد عينات من الآلات الحجرية حتى قبل أن توجد في جنوب أفريقيا – وقد كان يجدها في منطقة بتنزانيا. والممر عبارة عن أخدود متعرج يبلغ طوله 25 ميلاً وعمقه ثلاثمائة قدم. وقد ولد الدكتور ليكي بالقرب من كابينى في عام 1903، وكان والده من أوائل المبشرين في قبيلة الكيكويو، وبما أنه كان أول طفل أبيض يولد في وسط القبائل الأفريقية فقد عد نفسه منهم.

ودرس في إنجلترا وكتب رسالة الدكتوراة في (العصر الحجري في كينيا)، ولم يستطع الدكتور ليكي أن يجمع المال للتجهيز لتلك الرحلة حتى عام 1931 عندما قطع مسافة 500 ميل من نيروبي إلى ذلك الممر في سبعة أيام.

وقد أخذ الدكتور ليكى يتردد على ذلك المكان سنة بعد سنة غير أنه كان لا يستطيع أن يقضي أكثر من سبعة أسابيع كل عام هناك، فقد كانت الرحلة باهظة التكاليف، ودرجة الحرارة مرتفعة بصورة مزعجة، وكان عليهم أن يجلبوا الماء من ينبوع يقع على مسافة 35 ميلاً، وكان البحث عن تلك المتحجرات الحيوانية يتطلب منهم أن يزحفوا على أيديهم وأرجلهم ويجمعوا كل ما استطاعوا العثور عليه.

وعلى مدى 28 عاماً جمعوا كمية هائلة من العظام المتحجرة والآلات الحجرية، ولكنهم لم يعثروا على أي أثر لإنسان هناك، فهل معنى هذا أن الإنسان القديم كان يعيش في جنوب أفريقيا وأن الآلات الحجرية التي استعملها كانت موجودة في وسط أفريقيا؟ فكانت هذه معضلة المعضلات حتى كان صباح السابع عشر من يوليو 1959. ففي ذلك الصباح كان الدكتور ليكى يعاني من الحمى والصداع، وقد أصرت زوجته أن يبقى في المعسكر وأخذت معها كلبها وذهبت لمكان الحفر، وبينما كانت تبحث بدقة استرعت انتباهها بقايا جمجمة بشرية وأسنان واضحة، الأمر الذي جعلها تضع علامة على ذلك المكان وتهرع للمعسكر لتنقل النبأ لزوجها.

ويقول الدكتور ليكي بعد كل هذا الجهد والتعب الذي استمر 28 عاماً: استطعنا أخيراً أن نفوز بأول أثر لأقدم إنسان في تاريخ البشرية.

وقد كانت تلك الجمجمة غريبة في مظهرها الشيء الذي جذب الانتباه من جنوب أفريقيا إلى شرقها.. فهل شرق أفريقيا هو مهد الإنسان؟

وطارت أنباء ذلك الكشف إلى جميع أنحاء العالم – ومعه تقرير المتحف البريطاني الذي تولى قياس عمر تلك الجمجمة باستعمال أشعة جاما، وقياس عنصر الفلورين وقد كانت الأدلة مذهلة، فعمر تلك الجمجمة يصل إلى مليون وسبعمائة وخمسين سنة.

ومعنى هذا أن ذلك الكائن ذي القامة القصيرة والمخ الذي يزيد حجمه قليلا عن حجم مخ الغوريلا، والأضراس التي تبلغ في حجمها ضعف حجم الأضراس العادية، وقد عمر سنواته في شرق أفريقيا وترك بقاياه لتتحجر في مستنقعاتها.

وكتب الدكتور ليكى خلاصة أبحاثه تلك في ثلاث دراسات نشرتها مجلة "ناشونال جوقرافيك" عام 1960 و1963. ويبدو أن البحث عن تاريخ الإنسان القديم قد انحصر في أسرة ليكى، ففي عام 1967 اشترك ريتشارد ليكى الابن في بعثة إلى منطقة وادي أومو، وذلك للبحث عن الخيوط التي تقود إلى معرفة تاريخ الإنسان، ووادي أومو يقع في الإقليم الجنوبي الغربي لإثيوبيا. وكانت البعثة تضم مجموعة من الولايات المتحدة وفرنسا وريتشارد ليكى من كينيا.

وفي ذلك الصيف من عام 1967 تمكنت البعثة من وجود آثار لحيوانات عمرها أكثر من أربعة ملايين سنة، كانت متبعثرة في منخفض الوادي الذي يتدفق نحو بحيرة رودلف.

كما أن البعثة عثرت على جماجم بشرية يرجع تاريخها إلى مائة ألف سنة.

وطلب المستر ريتشارد ليكى من رئيس البعثة الأمريكية البروفسير كلارك هاول أن يسمح له باستعمال طائرته الهليكوبتر وذلك لرؤية نهاية الوادي الجنوبي، والذي تقع بحيرة رودلف في مصبه.. وما إن هبطت الطائرة على ذلك المكان حتى حصل المستر ريتشارد على فأس حجري مثل تلك الآلات التي وجدت على أخدود بتنزانيا– وقد شجع هذا على تنظيم رحلة علمية جديدة إلى بحيرة رودلف.

وبحيرة رودلف والتي تسمى أحياناً ببحر الأسماك– هي في الجزء الشمالي من كينيا في حدود السودان وإثيوبيا – في ذلك المنخفض العظيم، وتمتد مياهها الخضراء المعتمة إلى 155 ميلاً من الشمال إلى الجنوب 35 ميلاً في عرضها. وهي تمتلئ بالأسماك والتماسيح وتعيش حولها قطعان من الحيوانات الوحشية.

وأسفرت البعثات المتعددة التي قادها ريتشارد ليكي حول بحيرة رودلف ووادي أومو على العثور على جماجم متعددة بعضها يضاف إلى ما يسمى شبيه الإنسان (برانثروباس)-والإنسان المنتصب الذي يسير على رجلين (هومو اريكتاس)، والإنسان الفاعل (هومو هابيليس)، الذي يصنع السهام والفؤوس، ويضاف كل ذلك إلى العظام التي تم اكتشافها وتمت إلى الإنسان الحديث (هومو سابينس).

اعتمد علماء الإحاثة على استخدام عدة طرائق لتقديرات أعمار تلك الاكتشافات مثل الكربون 14 المشع وكمية الفلورين في المتحجرات أو قياس عمر الطبقات، وغيرها من الوسائل وذلك لوضع كل تلك الاكتشافات في تسلسل زمني يمكن أن تبنى عليه افتراضات علمية.

وبعد الأبحاث التي قام بها علماء جامعة أوكسفورد في مجال الجينوم البشري والاستقصاءات السكونسية في رسم جديد لأصول البشر، وتوصلهم إلى أن إنسان سنجة في السودان تتجمع عنده معظم أصول الجينات البشرية التي تفرعت وتقسمت فيما بعد للسلالات البشرية، التي غزت آسيا وأوروبا وتكونت عنها الصورة الحديثة لاختلافات الأجناس البشرية الحالية.

ثم ماذا بعد؟

خلاصة هذه الدراسة وكل تلك الحفريات أن تاريخ البحث عن الإنسان ولا نقول عن أصله أن هناك ثلاث مراحل:

مرحلة القرد الجنوبي Australopithecus الذي يعود إلى ثلاثة ملايين سنة في عمر المستحثات المكتشفة في جنوب ووسط أفريقيا، والاكتشاف الذي قام به العالم دونالد جوهانسون وآخرون عام 1974 هو الأبعد في تاريخ حفريات إنسان ما قبل التاريخ. إذ يقدر عمر تلك المستحثات إلى 3.2 مليون سنة، وقد صدر له كتاب بعنوان (من مرحلة لوسي إلى مرحلة اللغة) عن المجمع الثقافي بالإمارات عام 2005 ترجمة إياد ملحم، وقد تم الاكتشاف في منطقة عفار وعيسى بصحراء الأوقادين من إثيوبيا فسماه (أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس)، وأطلق على تلك الأنثى التي تم اكتشافها (لوسي). وهو لأنثى مكتملة الهيكل العظمي المتحجر، ويدل شكلها أن سلالتها تتمتع بأذرع قوية وأرجل تساعد على تسلق الأشجار مع القدرة على المشي المستقيم، وشبه الإنسان برانثروباس Paranthropus أو إنسان بحيرة رودلف الذي تم اكتشافه بواسطة ريتشارد ليكي وآخرون عام 1972، وجمجمة ما يسمى بالإنسان القادر على صنع آلات الصيد Homo habilis وجمجمة الإنسان المنتصب Homo erectus عام 1978، ويتميز بصغر حجم الرأس المنسحب إلى الخلف وفك أسفل غليظ يمتد إلى الأمام وعظام بارزة حول العينين.

ومن حين لآخر يتم العثور على جمجمة هنا وجمجمة هناك، ويحاول العلماء بربط كل ذلك بافتراض أن هذه السلالة انقرضت هنا وأن هناك سلالة افتراضية تجعل هذا النوع ينحدر من تلك السلالة، وكل تلك افتراضات لم يبرهن عليها.

وجاء الاكتشاف الأخير الذي استخدم ما تم الوصول إليه برسم الجينوم البشري واستخلاص المقاربات كما وضحنا في بداية هذا المقال، وأن (إنسان سنجة) هو أقدم كائن إنساني بكل ما يحمله من صفات مقارنة بالإنسان الحالي Homo sapiens من حيث حجم الجمجمة وقياساتها، حيث يبلغ حجم الإنسان الذكر 1260 سم مكعب والأنثى 1130 سم مكعب.

وقد قرروا أن عمر الجمجمة تلك يتراوح بين 250 إلى 300 ألف عام. فإذا أخذنا بهذا وطبقنا نظرية الاستدلال بالشاهد على الغائب؛ فإنه على ضوء الحقيقة الدينية التي تخبرنا بخلق الإنسان فكيف نختبر ما توصل إليه العلماء؟

أولاً؛ لنبدأ بالعمر الجيولوجي للإنسان الذي تم التوصل إليه من هذا الكشف عندما تم العثور على جمجمة إنسان سنجة عام 1924 كما ذكرنا من قبل.

الاختلاف بين ما توصل إليه علماء الإحاثة، وبين الحقيقة الدينية ليس له أصل مع ما أنزله الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله بل هو اختلاف مع جماعة المفسرين الذين نادوا بأن خلق آدم تم قبل عشرة آلف عام أو يزيد قليلاً. وقد جاءوا بهذا التفسير مما وضعه التوراتيون في كتبهم عن نشأة الإنسان. إذ ليس هناك آية في القرآن تشير إلى أن سيدنا آدم قد تم خلقه قبل عشرة آلف عام أو يزيد قليلاً، وعليه وضعوا ظهور الرسل والأنبياء بعد سيدنا آدم ونوح وإبراهيم والرسل من بعدهم إلى الوصول إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي مضى على ظهوره الآن أكثر من 1450 سنة.

وكل ما جاء عن خلق الإنسان ما جاء في سورة الإنسان: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1]. ومعنى ذلك أن هناك أشياء مذكورة لم يكن الإنسان من بينها. والوحدة الزمنية هنا لم يحددها الله وإن كنا نعتقد أنها في علمه.

والزمن عند الله تعالى يختلف عن زمننا وبالتالي (الحين) الزمني يختلف، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47].

ويقول سبحانه وتعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4].

ولذلك جاز لنا أن نعتقد أن (الحين) الزمني علمه عند الله ولم تصدر أية إشارة إلى أن الإنسان عندما أصبح شيئاً مذكوراً كان ذلك منذ عشرة آلف سنة.

والله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله بقوله: {ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} [النساء: 164].

والرسل الذين لم يقصصهم الله على رسوله فهم أيضاً أرسلهم بالحق {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25].

ولأنه يقول أيضاً: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15].

يحق لنا أن نعتقد أن هناك عدداً من الرسل لم يقصصهم الله على رسوله وإنهم جاءوا في الفترة التي كان الإنسان فيها شيئاً مذكوراً. ومتى كان الإنسان شيئاً مذكوراً؟

أصبح الإنسان شيئاً مذكوراً منذ أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71-72].

ونعتقد أن خلق البشر الذي هو من طين سابق لخلق الإنسان الذي لم يصبح إنساناً إلا بعد أن نفخ فيه الله من روحه وعندئذٍ عندما يسجد له الملائكة فإنهم لا يسجدون لذلك البشر الذي هو من طين؛ وإنما يسجدون لذلك الذي يحمل نفخة من روح الله وبالتالي يسجدون لتلك النفخة من روح الله.

كم الزمن الذي استغرقه تسوية البشر الذي هو من طين ونفخ الروح فيه؟ ذلك من علم الله.

ونعود إلى تصنيف علماء الإحاثة في أبحاثهم بعد أن صنفوا الكائنات التي عثروا عليها إلى قرود Pithicis وإلى شبه بشر Paranthropus وإلى كائنات إنسانية Homonids.

ونأتي لنتأمل ما قاله الله سبحانه وتعالى لملائكته: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].

ويحق لنا ونحن نتأمل هذه الآية الكريمة أن نعتقد أن الملائكة كانوا يعلمون أن هناك مخلوقات تفسد في الأرض وتسفك الدماء.. ويخافون أن يكون خليفة في الأرض من هؤلاء ولكن الله يطمئنهم أنه يعلم ما لا يعلمون.

ونعود لنعتقد أن تلك الكائنات التي تفسد في الأرض وتسفك الدماء هي تلك التي لم تكن فيها نفخة من روح الله وهي تنحصر في القردة العليا وأشباه البشر.

وبذا يستقيم فهمنا لأخذ ما كشف عنه علماء الإحاثة وهو وجود كائنات غير البشر ولا مجال لإنكارها وكائنات أشباه للبشر وكائنات إنسانية Homonids خلقها الله ونفخ فيها من روحه.

ولا نختلف على زمن ظهورها على ظهر الأرض لأنها تقع حسب رؤيتنا في الحين الزمني الذي كان الإنسان فيه شيئاً مذكوراً، ومتى تمت حفريات جديدة أتت بمخلوقات إنسانية تنطبق عليها صفات النوع الإنساني الحالي أياً كان عمرها؛ فإننا نعدها من تلك الكائنات التي كانت شيئاً مذكوراً التي نفخ فيها الله من روحه، وبهذا الفهم لا نجد تعارضاً بين حقيقة الشاهد والغائب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها