إرث اللغة العربية في الولايات المُتحدّة الأمريكية

د. ربيع أحمد سيد أحمد


احتفلت جامعة لايدن في هولندا بمرور 400 عام على دراسة اللغة العربية بها؛ فقد كانت البدايات مطلع القرن 17م؛ وتساءلت روبرتا دوجيرتي أمينة مكتبة دراسات الشرق الأوسط في جامعة ييل، إذا كانت هذه هي مُدّة معرفة الجامعات الهولندية بالعربية؛ فما هو الحال هنا في جامعة ييل؟

 

إدوارد إي سالزبوري أستاذاً للغة العربية:

في عام 1841م؛ تمّ تعيين البروفيسور إدوارد إي سالزبوري كأول أستاذ لتدريس اللغة العربية، والسنسكريتية وآدابها، وهو أولّ تعيين بدوام كامل في أمريكا. وفي سبتمبر عام 2016م، تمّ عمل معرض، وسلسلة محاضرات استمرّت لمدة ستة أشهر، وذلك لإحياء الإرث القديم لأحد المُستشرقين الأمريكيين البارزين؛ وفتحت نافذة على تاريخ اللغة العربية في أمريكا، والتي سبقت سالزبوري بحوالي 200 عام.

وقد كشف معرض عام 2016م؛ والذي صادف الذكرى 175 لتعيين سالزبوري كأول أستاذ للغة العربية والسنسكريتية بجامعة ييل؛ وهو أولّ منصب من نوعهِ في الأمريكتين؛ وقد استكشف هذا المعرض تطورّه العلمي، ومسيرته المهنية في جامعة ييل؛ وقد شهد عهده نمو مجموعات المخطوطات الإسلامية؛ حيث كان سالزبوري واحدًا من هواة جمع المُقتنيات المُميّزة. وقد أنشأ سالزبوري مكتبته الخاصة بالمواد العربية والسنسكريتية من مزادات مكتبات المستشرقين الأوروبيين البارزين؛ وقد تبرّع بهذه المخطوطات لجامعة ييل عام 1870م؛ مما جعلها أكبر مكتبة أمريكية لدراسة هذه اللغات.


وفي العقود التالية استمر أمناء مكتبات جامعة ييل في بناء وتكوين مجموعة المخطوطات، والكتب المطبوعة المُتعلّقة بمجالات هذه الدراسة، وتمّ شراء مجموعة من المخطوطات العربية في مدرسة هارتفورد عام 2005م؛ مما جعل ييل ثالث أكبر مجموعة من المخطوطات الإسلامية في الولايات المُتحدّة الأمريكية. وكان سالزبوري أحد أعضاء الجمعية الشرقية الأمريكية (والتي تأسست عام 1842م)، ودعمت بقوة كلاً من المُنظمّة ومجلتها، ومن تلاميذه المشهورين ويليام دوايت ويتني اللُغوي البارز، والذي خلف أستاذه سالزبوري كأستاذ للغة السنسكريتية بعد استقالته من منصبه عام 1856م، وقد واصل سالزبوري المساهمة في جامعة ييل من خلال مُشاركته في كلٍ من لجنة المكتبة، والمجلس الاستشاري لمدرسة الفنون الجميلة.

وقد حفزّت حركة الإصلاح المسيحي في أوروبا في القرن 16م؛ البحث عن الكتاب المُقدّس، بما في ذلك دراسة اللغات القديمة العبرية، والآرامية، والكلدانية، والعربية، والسريانية، وذلك لفهم وتوضيح النصوص بشكلٍ أفضل؛ وكانت جامعة هارفارد أول من أدخل الدراسة اللاهوتية للغات السامية عام 1640م، وأضافت اللغة العربية، وجامعة ييل عام 1700م، وجامعة كولومبيا عام 1784م، وجامعة بنسلفانيا عام 1788م.

ويُوضح روجر ألين الأستاذ الفخري للغة العربية وآدابها في جامعة بنسلفانيا أنّ الدراسات السامية أصبحت تخصص له أهميته في الدراسات العليا في أوروبا، وقبلها في الولايات المتحدّة الأمريكية، ويُشير إلى أنّ الدراسات العُليا في أمريكا تأثرت بصرامة المنح الألمانية، واستندت إلى النموذج الألماني، والتي قادها بشكلٍ كبيرٍ هجرة العُلماء اللمان إلى الولايات المُتحدّة، وقد تمّت ترجمة جميع القواميس والمراجع العلمية من اللغات السُومرية والأكادية والعربية إلى اللغة الألمانية.

ومن بين العلماء الألمان المعروفين للغات السامية كان يُوهان كريستوف كونز، والذي فشلت دوراته في اللغة العبرية والسريانية والآرامية والعربية في جامعة كولومبيا، بدءاً من عام 1784م في جذب أي من الطلاب، ومع ذلك تمّ تقديم اللغة العربية في كل من كلية دارتموث، ومدرسة أندوفر اللاهوتية في عام 1807م، ومدرسة برينستون اللاهوتية عام 1822م، وجامعة نيويورك عام 1833م، وفي عام 1841م؛ ولم تُقدّم جامعة ييل الدورات التدريبية فحسب؛ بل حدّدت أيضًا تعيينها التاريخي لسالزبوري كأول أستاذ في هذا المجال.

ومن أقوال البروفيسور سالزبوري الشهيرة في جامعة ييل عام 1848م "إنّ خصوصية مصيرنا القومي، من وجهة نظر أخلاقية؛ تدعونا ليس فقط أنّ نتخلّف عن الركب، بل أن نكون في المقام الأول على معرفةٍ وثيقةٍ باللغات والمُؤسسات الشرقية، إن دول الغرب بما في ذلك بلادنا مدينة إلى حدٍ كبيرٍ للشرق بسبب ثقافتها المُتنوعة، وقد حان وقت سداد هذا الديّن".

وفي عام 1833م وجد بول هاويت عالم الآشوريات الألماني من جامعة غوتينجن؛ وجد نجاحًا أكبر، حيث أصبح برنامجه في الفقه المُقارن للغة السامية نموذجًا للجامعات الأمريكية، في الوقت الذي أصبح فيه الإهتمام باللغة العربية يتحولّ من أساس في اللاهوت إلى اللغة نفسها، وذلك من أجل التعرّف على التاريخ، والثقافة، والدين، والمُجتمع قبل الحداثة؛ حسب قول البروفيسور ألين.

وبحلول منتصف القرن التاسع عشر الميلادي إلى أوائل القرن العشرين الميلادي بدأت العديد من الجامعات والمعاهد اللاهوتية تدريس اللغة العربية بشكلٍ واسعٍ؛ ففي عام 1900م، واصل البروفيسور تشارلز كاتلر توري في جامعة ييل ما توقفّ عنده البروفيسور سالزبوري في جامعة ييل، وأعاد تنشيط اللغة العربية، والاهتمام بدراستها؛ وأسّس أول مركز أمريكي للبحوث الشرقية في القدس، والذي يستمر حتى يومنا هذا، كما أدّى الاهتمام المُتزايد بعلم الآثار إلى مزيد من الاهتمام بتعليم اللغة العربية المكتوبة والمنطوقة، ولهجاتها. وبحلول عام 1937م كانت عشر جامعات في الولايات المُتحدّة الأمريكية تُقدّم اللغة العربية؛ على مستوى برامج الدراسات العليا.

وقد عجلت تداعيات الحرب العالمية الثانية بتحولٍ جديدٍ وعاجل، حيث دعا ظهور الولايات المُتحدة المريكية كواحدة من قوتين عُظمتين إلى مهرات دولية جديدة؛ يقول ألين: "كان من الواضح أن أمريكا كانت تُعاني من نقصٍ شديدٍ في فترة ما بعد الإمبراطورية العُثمانية".

وفي عام 1957م أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي "سبوتنيك"؛ وكان تركيز النظام التعليمي السوفيتي على العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية على أنه العامل الرائد في مجال تكنولوجيا الفضاء. وقد تمّ تدعيم دراسة هذه الموضوعات في المدارس منذ عام 1958م؛ وقد تمّ تحديد خمس لُغات ذات أولوية للتمويل وهي الروسية، والصينية، والهندوستانية، والعربية.
 


 

منح تدريس اللغة العربية:   

قدمت منحة مُؤسسة فورد لعام 1957م من القطاع الخاص منحاً بقيمة 176.500 دولار أمريكي؛ وذلك لتمويل برنامج صيفي مُشترك بين الجامعات بلغات الشرق الأدنى؛ مُشتركة بين كولومبيا، وهارفارد، وكليّة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المُتقدّمة وميتشيغان، وبرينستون، حيث تقوم كل جامعة بتدريس اللغة العربية بالتناوب خلال فترة الصيف في الفترة من 1957-1961م؛ وتمّ تمديد المنحة من عام 1962-1968م؛ ثم تمت إضافة جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس؛ وجامعة جورج تاون، وجامعة تكساس في أوستن؛ وقد أدّت هذه المنح لانتشار البرامج الصيفية المُكثفّة للغة العربية، كما أدّت لتدريس طُرق جديدة. ويقول ويليلم جرانار مُدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد "كانت هذه حقًا البدايات لوجوب تدريس اللغة العربية؛ ليس فقط بلغتها الكلاسيكية، وإنما أيضًا بلغتها المُعاصرة".

وفي عام 1963م تشكلّت الجمعية الأمريكية لمُدرِّسي اللغة العربية، وبدأت في إضفاء الطابع الاحترافي على تدريس اللغة العربية؛ وتمّ عقد سلسلة ورش عمل للمُعلِّمين في الفترة من 1965-1967م؛ وتمّ نشر كتاب اللغة العربية الفُصحى الابتدائية الحديثة؛ وفي عام 1968م أسس اتحاد مُكون من 8 جامعات أمريكية مركز دراسات اللغة العربية في الخارج.

وتمّ عقد أول ورشة عمل في إتقان أساليب اللغة العربية في جامعة ولاية أوهايو عام 1986م؛ وقد قام البروفيسور مُنذر يُونس من جامعة كورنيل بنيويورك بصياغة كتاب مدرسي عربي مُعاصر؛ يدمج بشكلٍ كاملٍ اللغة العربية الفُصحى الرسمية المكتوبة مع اللهجات المصرية والشامية المنطوقة (العامية)؛ ويقول "هذا هو أفضل ما يخدم الجيل الحديث من الطلاب".

ومن مُؤلفات الدكتور مُنذر يونس الحديثة؛ والتي نُشرت عام 2020م كتابه بعنوان "Kalila Wa Dimna : For Students of Arabic" " كليلة ودمنة لطلاب اللغة العربية.

وتُعدّ اللغة العربية الآن الأسرع نموًا؛ والتي تُدرس في الكليات والجامعات الأمريكية. وقد تمّ تسجيل أكثر من 35 ألف طالب في الدورات؛ وهو رقم زاد بنسبة 126% من عام 2002 إلى عام 2006م؛ وأصبحت اللغة العربية الآن هي اللغة الثامنة الأكثر دراسة في الولايات المُتحدّة الأمريكية، واعتبارًا من عام 2013م أصبح هناك حوالي 84 مدرسة ابتدائية وثانوية، تُقدّم دروسًا للغة العربية في جميع أنحاء البلاد.

وتعترف ليز هنتيلي المُحاضرة في كورنيل؛ والمُديرة السابقة للأكاديمية الصيفية للغة العربية في مدرسة تشارلز تاون تقول: "لم أكن أبدًا على دراية بتاريخ تعليم اللغة العربية في الولايات المُتحدّة الأمريكية"، وتقول عندما كانت هي ومُدير البرنامج ستيفن بيربيكو فقد شاهدوا في حرم جامعة هارفارد الدروس الأولى للغة العربية؛ "وكيف كان الطلاب يصطفون بشكل أكثر استقامة عند بدء دروس اللغة العربية؛ وبدا جليًا أنهم كانوا يفخرون بهذا التاريخ".

 


ثبت المصادر والمراجع؛ ومواقع الانترنت:
Eman Jasem: Arab America: Preserving the Arabic language and culture, the arab American news, 2019
Jeff Bale, Arabic as a Heritage Language in the United States.
ERNEST N. McCARUS, THE STUDY OF ARABIC IN THE UNITED STATES: A History of its Development, Al-'Arabiyya, Vol. 20, No. 1/2 (1987), pp. 13-27
https://arabicsummeracademy.org
https://salisbury175.yale.edu/news/yale-marks-175th-anniversary-arabic-and-islamic-studies-exhibit-public-events
https://www.aramcoworld.com/Articles/January-2018/The-Legacy-of-Arabic-in-America
https://www.lizhuntley.com/the-story
https://neareasternstudies.cornell.edu/munther-younes

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها