
تأتي المجموعة القصصية (رحى لا تكفّ عن الدوران! للكاتب عبد الجليل الشافعي، الصادرة عن دار أكورا 2022) لتعزّز قلقل الهامش الذي ينظم القصص، ويمثّل عصبها، وفي حدّ العمل امتدادٌ للمجموعة الأولى (المرأة التي في الأعلى، الصّادرة عن دار القرويين 2020)، مما يزكّي انشغاله بأسئلة المنسيين الذين يعيشون خارج المركز الاجتماعي والثقافي، ولقد جعل الكاتب المجموعة القصصية جسرا لتكوين جملة من التّصورات والتمثيلات ذات الصّلة بهموم الأمة التي تنتمي إلى الفضاء المهمّش، كون القصة ذات وظيفة انتقائيّة تسترق من الزمن تلك اللحظات الوجدانية، وتتيح بخصوصيتها التأمل في مواضيع وقضايا عينية كانت عصية على الفهم، ليُعاد تشكيلها والتفكير فيها وفي هامشيّتها عبر الذات المحمّلة بالقسوة والشّقاء، لاسيما في تشخيص الكاتب للواقع المادي والإنساني والاجتماعي للأفراد من زوايا متعددة ومختلفة، ولفت الانتباه لواقع الهامش أو العالم السفلي بتعبير إدريس الخضراوي.
أما الإيغال في مضامين هذا العالم السفلي وشخصياته بأصواتها وسلوكاتها، فيعد رهاناً تحمله هاته الكتابة، ونبحث من جهتنا لهاته الأسئلة عن موطئ قدم.
أولاً: الفضاء الهامشي
يجعل القاص من الهامش الجغرافي/ الرّيفي موئلاً سردياً في الحكي، وحتى إن لم تتحرك جميع الأحداث فيه، أي الرّيف، بيد أنه يغدو منطلقاً لها ومبتدأ، ولعل الفضاء القصصي يتخذ شكله الخاص باعتباره موقعاً معزولا معبأ بأشكال القهر والنسيان والألم، وهو شكل مرتبط بالوضعية المجالية وسيكولوجيا الإنسان المقهور، ويمكن النظر إلى الفضاء:
1. باعتباره وجوداً وضعياً:
يقترن هذا الجانب بالفضاء المكاني والمادي للقرية كونها موقعاً وجودياً ووضعياً ينظم تفاصيل المجموعة القصصية، ونطرح السؤال، هل يستقيم الحديث عن وجود الهامش في غياب وجود المركز؟ إن جدلية البحث في الهامشية يتطلب قدراً هاماً من القدرة على استيعاب المركز/ المركزية، خصوصاً "أن فهم الهامش والهامشية يظل مشروطاً بفهم المركز والمركزية"1. ومن هنا تحديداً، يقتبس الكاتب صفات المسميات، ويأتي الاعتداد بها بشكل مضاد للوجود داخل المركز، وإذ نبحث في وجود الهامش داخل المجموعة القصصية فإننا نجد: "دواره البعيد" (الشافعي، رحى لا تكفّ عن الدوران، ص: 18)، وبالتالي، نطرح سؤال البعد عن ماذا؟ إنه البعد عن المركز، وبالتالي يتعزز هذا الوجود في علاقته المركز، وفي سياق الاستطراد الذي أقدم عليه السارد في موقع آخر من السرد، يقول: "في قرية بعيدة، بعيدة بشكل غريب عن أقرب مدينة. غرابة بعد القرية مردّه الطريق المتربة، والوحيدة، التي يمكن أن يمشي عليها الراجل حتى يصل للمدينة. الطريق ملتوية كما لو أنها مسرب أفعى ضخمة" (الشافعي، رحى لا تكفّ عن الدوران، ص: 47)، لتكون المدينة مركزاً والقرية هامشاً، والغرابة المقترنة بالمألوف، وتنطوي فصول الغرابة بما ينزاح مبدئياً عن المتداول.
وفي موضع آخر: "انسلوا من فجاج القرية المختلفة" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 95)، ولعلّ هذا الشكل الممتد يظهر بجلاء غياب عنصر المطابقة، المطابقة التي تجعل في الخلد وجود طرف آخر كامل الصفات، مع طرف آخر ناقص ومحدود، ولعل هذا الاختلاف غير متصل بالهيئات بقدر ما هو ينهل من التباينات الجغرافية والمادية والوجودية وتنامي التشظيات في العلاقات الجدلية، في غياب الشروط الدنيا لممارسة الحياة العامة والعادية في الوجود الوضعي للفضاء، وهذا ما يفسره أساساً الغياب الفعلي للمؤسسات والمرافق التي من شأنها تجسير العلاقات بين المطالب والخدمات، ومن هنا، تمسي القرية كيانا مختلفاً غير مطابق لشروط المدينة التي تلتحم دائماً بالحضارة وغيرها من المستويات المعبرة عن التقدم في حقول ومجالات متعددة.
2. باعتباره ملمحاً وهيئةً:
ننظر دائماً إلى الإنسان ومن خلال الفراسة يتجسد انتماؤه بإمعان النظر إلى الظروف المجالية والتأثيرات المناخية على المورفولوجية، وعلى تقاسيم الوجه التي بمقدورها تحديد انتسابه، وما دام الإنسان ابن بيئته؛ فإن البيئة بدورها تلصق للإنسان سمات ظاهرة بما تفرضه الظروف المحيطة به، والمجال العاري بالنسبة للقرية مقارنة بالمدينة يترك أثره على الهيئة والملمح، فالمواقع المظللة تتنافى مبدئيا مع الأماكن الوامضة بالهجيرة، والفضاءات الصحراوية القاحلة تتنافى مع المواقع الرطبة، وبالتالي تكون للمناخ تأثيرات مباشرة على هيئة الإنسان وملمحه، وبالوقوف عند الخلطة السحرية بين التربة والشمس في الهامش، فالسارد يرصد مجموعة من الصفات التي تعرّف بالقرية من زاوية الملمح، وفي إطار الوصف الذي خص به السارد «الميلودي» في الأضمومة القصصية يقول: "غدت علامات التشوير الطرقية تعرف سنحته القمحية كمومياءات فرعونية" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 23).
وهو انعكاس فعلي للحالة الجسدية المرتبطة بالملمح لذي يسود في الهامش، لاسيما أن المناخ والظروف الطبيعية للمجال البيئي في الهامش يلصق للإنسان هاته الصفات التي لا بد منها، ما دامت نتاجاً لعامل طبيعي مباشر يصيب الإنسان، ونفس الأمر يمكن رصده في قصة «الرجل المهشم»، حينما يقترب السارد أكثر من العامل الطبيعي الذي ينتج الملمح الريفي والقروي، وهو يقول: "تركتني كفلاح بلا أرض، كبدوي بلا ولد" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 29)، ومن هنا، يمكن تعيين التمثلات والأفكار الذهنية التي تتصل بمنطق الهامشي وممارساته التي يستدل بها كمعجم للتمثيل، وبالتالي، تكون هيئة الهامشي حتى في وضعية وجدانية مقترنة بوظائفه أولا، وبالمعجم الهامشي الذي يغلب على نمط تفكيره ثانيا، باعتباره فلاحاً متعلقاً بالأرض، وبدوياً لا يرى في سلطته وبنيته الأبوية حياة إلا في وجود الذكر.
3. باعتباره هشاشةً وفقراً:
هذا الامتداد المقترن بالقرية يعزى إلى القلق الذي يطبع المكان من خلال الوضعيات الاجتماعية، وإلى القسوة ذات الأبعاد الإنسانية والمادية، لاسيما أن الطبقات المسحوقة تتقاسم الهشاشة والفقر، وقلّ ما ينظر أو ينعدم النظر إلى الهامش بحضور الطرف الموازي للبروليتاريا؛ أي البرجوازية، وممّا يبين هذا التوجه قول القاص: "تغير الحسين في كل شيء، لكن الفقر ظل جاثماً على خيمتهم، على أغلب سكان القرية" (رحى لا تكف عن الدوران، ص: 68)، ومن هذه الزاوية فالعبارة تظهر منحى البقاء في الوضعية المادية الملازمة للقرية التي تكون رهينة بالتواجد فيها بالرغم من التحولات، بالتالي، التنصيص على اقتران الهامش بالهشاشة المادية، خصوصاً أنّ الوضع المادي هو الذي يخول للإنسان بناء جزء من كينونته الوجودية. وبقدر ما يحضر الجانب المادي في الحياة، بقدر ما تصير الحياة ممكنة، ونستطيع حيال ذلك مقاومة الحاجة وتحقيق الرغبات.
ثانيا: كتابة الهامش الاجتماعي والتفاعل النصي الديني
يعد استحضار الكتابة في وضعية التّضام بين ما يستثمره الكاتب انطلاقاً من تخييلاته في الكتابة، وبين موضعة الكتابة في سياق الفضاء الذي تنتمي إليه، وبالتالي، استحضار الواقع الاجتماعي الذي ينهل منه لممارسة قدر من الإيهام في الأضمومة القصصية، ويتعلّق النّص وفق ذلك بالبنية السوسيونصيّة، باعتبار البنية السوسيونصيّة إنتاجاً في إطار البنية الاجتماعية وملامحها المرجعيّة، ونسجل في هذا السياق توارد مجموعة من الخطابات ذات المنطق التفكيري بين ما يضمنه الكاتب في الكتابة عبر تواجد الشَّخصية كفاعل ورقي متحرك؛ خصوصاً أن الكتابة ممارسة ينسجُها الكاتب عبر آليّات وجماليّات، وعبرَها يخلُق مجموعة من الفواعل وينحث من خلالهم مجموعة من الأفعال وفق وظائف متعدّدة، وبقدر ما يستثمر بشكل تجريبيّ صيغاً جديدة في السرد من قبيل: القراءة العكسيّة للقصة/ استثمار التّكرار بمعاني تورية/ التّقطيع العمودي/ التّرتيب المنفصل-المتّصل/ التّرتيب والتّمطيط الأفقي/ الفراغات؛ بقدر ما يتفاعل مع النّصوص الخارجيّة والمرجعيّة التي تصبّ في جدوى الموضوع.
نتغيا من قولنا: حضور التناصّات والميتانص. ونسجل التناص (intertextuality) في "إطار بُعدٍ علائقي تعايشي بين نصين متفاعلين يظهر أحدهما في اقتباسات الآخر، ويصل حدّ الانتحال"2، ونشير إلى قول السارد دون التنصيص على المصدر، (يس، والقرآن الكريم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم) [ص: 98]، ونجد بنية مرجعية دينية سابقة في قوله تعالى: {يسٓ (1) وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ (3)عَلَى صِراط مُّسْتَقِيمٍ(4)} (سورة يس، الآيات 1-3)، وبالتالي لا تعدو أن تكون هاته التقنية في التفاعل قصدية الغاية من الكاتب، ولا تتمّ بشكل اعتباطيٍّ، لاسيما أنّ الكاتب يصطنع الفواعل وفق أفعالها ومرجعية صوتها؛ أما الميتانص (metatextuality) باعتباره شكلاً وظيفياً آخر في التفاعل وعبرَهُ "يرتبط ويتعلق نصّ بنصٍّ آخر دون استدعائه"3، فيأتي في الكتابة محوَّلا، وإذْ نجدُ في موضع من الأضمومة القصصيَّة قول السّارد: "إنّي أراني أعصر سحاب السنوات" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 13)، فإنّه يحضر في الأذهان قوله تعالى: {ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} (يوسف، الآية: 36). ومن هنا، تتجسد بنية سابقة والتي تتمثل في القرآن الكريم، وتأتي بنية لاحقة يتفَاعَل معها، لكن بمنطق التّحويل الذي يدرسه سعيد يقطين في عمله (الرّواية والتّراث السّردي)، والغاية من الآية رهين بتفسير الرؤيا، لاسيما التي تخرج عن مدارات العبادة وتخوض في المحرّم، أما البنية النصية فتستثمر في سياق جماليّةِ هذا التناسخ المحوّل، وتنطوي في عمقها على سخرية من العمر الذي يتقدم دون هوادة.
ومن خلال نماذج التفاعلات النصية المرصودة من أخرى كثيرة في المجموعة القصصية، تتجلّى الجماليّات يسعى الكاتب إلى تضمينها داخل الإنتاج القصصي، وهي توظف الأبعاد الاستعاريّة بأبعادها المعرفيّة، وخلق بنية من شأنها إثراء النّص، مما يجعله أكثر تلاؤما مع فضائه، وتوافقاً مع صيغ التفكير المحافظ المسنود بالمرجعية الدينية.
ثالثا: ثقافة الجذبة وفعل الانزياح
لعل الثقافة الشعبية تنهل من مستويات مختلفة ما دامت ذات صلة بمجموعة من الممارسات التي تخرج عن السياق الرسمي، "بما تمتلكه من قوة تكلمية محل (الثقافة المكرسة) أو المعترف بها"4، والثقافة الشعبية يمكن أن تنزاح من موقعها كما الجذب الذي يخرج عن الإطار الروحي، ويصير صوتا لتفريغ المكبوت من واجهة سيكولوجية، ما يتجسد مع الشخصية «يزة» الهامشية، كونها رمزاً للانهيار والفشل المجتمعي في إشباع احتياجات الأفراد، لاسيما وهي تمارس الجذبة بطقوسها الشعبية (كشرب الماء المغلي)، مرفوقة بالإيقاعات الروحانية وبسلوكات تعيش معها عذابات الألم، لكن المثير للانتباه هو الفهم العصي على السارد في موقعة السلوك وهو يقول: "لم يعرف الناس سبب هياجها، وظلت علامات الاستفهام الكبيرة معلقة كفزاعات الحقول" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 40)، وبالتالي إعادة طرح سؤال الانزياح، ما دام الفعل الشعبي الروحي (الجذبة) خارج التصنيف، وإذ كانت «يزة» حالة متفردة تمثل الاستثناء في طقسها؛ فإننا لا نلغي انخراط جماعة القرية في (الجذبة)، وفي سياق العودة لمفتتح القصة، يقول السارد إبان قرع الطبل: "ترى الناس تصرخ والأنفس تهيج والأجساد تتهادى في حركة سَرْنَميَّةٍ" (الشافعي، رحى لا تكف عن الدوران، ص: 39)، ولعلّها وضعية سيكولوجية مقترنة بالفراغ، ومعادلة لشعور الفرد بالكبت والحبسة كترجمة وجيهة للإحباط الجماعي الذي تتقاسمه شرائح الهامش، والذي يتخذ من طقوس الثقافة الشعبية مطية لتفريغ الكمون الداخلي الذي لا يمكن أن يكون خارج الفقر، وكلّما طفح العجز الفردي في سياق تحقيق الرّغبات الذاتية والجماعية، وكذا غياب القدرة على التخلص من ضغوطات الحياة، كلّما كان الجذب بالطرق الجنونية في عيد المولد النبوي ذريعة لإعادة التوازن إلى الذات وهي تنتدب سلوكات المغايرة في الطرق السليمة لتخليد الذكرى، وعبرها يتم تفريغ الشحن السلبية، خصوصاً أن الإنسان المقهور يتوسل "أساليب عدة للسيطرة الخرافية على حاضره، وإدخال شيء من الطمأنينة إلى نفسه، والتوازن إلى حياته"5، وبالتالي، الخروج من دائرة الثقافة الشعبية كعرف إلى الرد بالسلوك عن مبلغ الضغط الذي يعيشه الهامشي، إلى جانب استغلال الوضع الروحي والخروج منه ومن صوفياته إلى أشكال مبتدعة بحثاً عن صفاء محتمل، داخل واقع معتلٍّ.
***
يشكل الهامش الاجتماعي فعلا تنجذب إليه الكتابات التخييلية باعتباره موضوعاً يفجر الكثير من التساؤلات والقضايا الإنسانية، ويغري بفهم هموم الإنسان المنسي انطلاقاً من التمثيل وتصوير الواقع واصطناع فكرة على عالم يظل مجهولا في حاجة دائماً إلى تحريك الساكن فيه، وإذا كانت ثقافة المركز معلومة الأثر، فإن الهامش يحتاج إلى تفكيك البنية العقلية والفردية التي تتحكم فيه استناداً على مجموعة من المركبات الاجتماعية والثقافية؛ مما يجعل من الهامش الاجتماعي مرجعاً غنياً للكتابة، وقارة تحتاج إلى الاكتشاف والتدبر والفهم.
الهوامش
1. محمد منيب البوريمي "فضاء الهامش المكان ونسقية السرد في روايات محمد زفزاف"، مجلة ضفاف،1 يناير 2002، ص: 48.
2. Gérard Genette, Palimpsests literature in the second degree, channa newman and claude (translated) (London: University of Eraska press, 1997), P2
3. Ibid, p6
4. إدريس الخضراوي، سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، ط1، (المغرب: أفريقيا الشرق، 2017)، ص: 255.
5. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، ط9 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، ص: 142.