الأدب بوصفه حالة تعتمد على معايشة ذهنية ووجدانية، يقوم على مسألة الابتعاد واصطناع مسافة تريدها الذات الصانعة له في رؤيتها للعالم، وفي محاولتها تلمس موطأ قدم لها يعبر عن حضورها فيه، ويبقى القصد من هذا التعبير مرتبطاً بمدى رغبة هذا الصوت المعبر في الانتقال من مرحلة المعايشة الحية تأثيرًا وتأثرًا إلى مرحلة الرصد والتسجيل؛ وهو ما يعني انتقال هذا الصوت من حالة مضارعة إلى حالة أخرى يمكن نعتها بالمستقبَلة بفتح الباء، عندما يتحرك مع منجزه التعبيري هذا إلى زمن آت؛ فيصير به ومعه بمثابة مؤرخ مدون وشاهد -وفق معالجة خاصة- على هذه الرباعية التي لا تفتأ تغادر موقعها المهيمن في واقع الجماعة الإنسانية الحياتي برمته؛ ألا وهي: الزمان، والمكان، والحدث، والشخصيات؛ إن كل الأشكال التعبيرية تقريباً بما فيها الأدب تجعل من هذه الرباعية موضوعاً لها؛ بحيث يمكن القول: إن كل عملية تعبير باللغة وبغير اللغة يمكن إرجاعها إلى شكل الحكاية المؤسسة على هذه العناصر الأربعة.
الأدب: المفهوم والأداء والحالة
والأدب بحكم دلالته الأصيلة الأثيرة التي تسكن جذره اللغوي (أَدَبَ)، في انطلاقه من مسألة الدعوة إلى الطعام والشراب1 إلى ما هو فوقها، يدعو دومًا مستقبله إلى الالتحام ببنيته التعبيرية على اختلاف نوعيها من شعر ونثر بأثوابه المتعددة؛ بغية التأثر ببعديه الإمتاعي والنفعي، وبحصول هذا التأثر تكون المادة الأدبية قد حققت غايتها المنشودة التي تأسست على مسألة الدعوة سالفة الذكر، والأدب عمومًا في البناء الحضاري للجماعة الإنسانية يعد بمثابة القوة الناعمة التي تلجأ إليها الجماعة في أنشطتها الفعلية التي تسعى من خلالها إلى الوجود والبقاء والتمدد بشقيه المادي القائم على التوسع والاستحواذ، والمجازي الجمالي المعرفي المعتمد على فرض التأثير وتحقيق الهيمنة، وإشاعة جو من الولع والهيبة والإجلال لقيمها المعيشية في نفوس الآخرين المغايرين لها، ويمكن التعامل مع هذا المسلك في إطار معالجتنا لواقع الأدب والثقافة العربية عمومًا في العلاقة مع الآخر خلال المائتي سنة الأخيرة بدءًا من القرن التاسع عشر وصولاً إلى زمننا الحالي، وكيف كنا نصنف النخبة في بلداننا العربية والإسلامية وفق طرفين حازمين: محافظ، ومجدد، أو داع إلى الارتباط الشديد بالتراث، وبقيم الهوية المستقاة من اللغة والدين يخيم على مسعاه هذا خوف وحذر، وشك وريبة في الآتي من ثقافة الغرب وفي المنادي بمزيد من الاتصال به، في مقابل راغبٍ في الهرولة خلف قيم الآخر الغربي واقتفاء أثره، وما من شك في أن حركة البعثات والترجمة التي نشطت بشكل ملحوظ منذ القرن التاسع عشر، وعززتها بالتوازي معها حركة استعمارية استطاعت أن تفتن كثيرين في بلدان المشرق الإسلامي، لما رأوا في هذا المستعمر من قدرة على التوسع والاستحواذ وتحقيق الهيمنة قد ساعدت على ترسيخ وعي كهذا.
ويأخذنا هذا المدخل إلى ثنائية مهمة يمكن الوقوف عليها فيما يتعلق بمسألة القوة الناعمة المتصلة بأشكال الفكر والثقافة والمعرفة بصفة عامة التي تجعل منها الأمم مطايا للتأثير وللفاعلية في علاقات بعضها ببعض، هذه الثنائية تمثل في (الأدب والسلطة)؛ إن هذه السلطة في السياق الاجتماعي العربي –على سبيل المثال- تتخذ أثوابًا متنوعة تتدثر بها2؛ فلا تبدو تبعًا لذلك بهيئة واحدة؛ فإذا نظرنا إلى العرب منذ جاهليتهم نجدها تبدو في كيانات عدة، مثل:
♦ القبيلة: وأثرها الفاعل في سلوك أفرادها، وفي تنظيم حركته وضبط أدائه داخلياً وخارجياً. ولكل قبيلة شيخ أو كبير تتوافق عليه، وترضى به حكمًا ومرجعًا لها.
♦ السيد: في حضوره بالنسبة إلى مسوده أو مملوكه من عبيد وإماء.
♦ المكان: وخصائصه التي تترك أثرًا في وعي من يحيا فوقه.
♦ المعتقد: وموقعه الفاعل في النفوس.
♦ منزلة الأديب عمومًا والشاعر على وجه الخصوص: في الواقع الاجتماعي للأفراد.
♦ النظرة إلى الرجل: الوالد، الزوج، الأخ، الابن بالنسبة إلى المرأة، فالرجل في السياق الاجتماعي العربي يشكل سلطة لها حضورها بالنسبة إلى هذه الأنثى منذ القدم.
♢ قبل كل ما سبق أو بعده هناك سلطة غير ملموسة تبدو جلية في كل العناصر السابقة؛ ألا وهي سلطة النسق الثقافي المتحكم في حياة الفرد والمجموع والموجه لها الذي يصبغها بصبغة مخصوصة، تعد بمثابة ناتج، البحث في أسبابه يعني بحثًا في الفواعل المنتجة لهذا النسق، وهي عملية لا شك في أن النهوض بها يحيل إلى أبواب معرفية عدة.
الأدب: حالة ثقافية تاريخية
ويبقى النص الأدبي شاهدًا ودليلاً يمكن الاستعانة به في الوقوف على طبيعة هذه السلطة؛ إذ يمكن القول إن ما يسمى بالأغراض الشعرية، وفي مقدمتها المدح والفخر والرثاء تعد بمثابة استجابات جمالية تعكس حضور هذه السلطة وأثرها القوي في الوعي وفي السلوك، وما الأديب ومنجزه الفني إلا أمارة ودليل كاشف عن ذلك؛ إنه فرد في قومه، وصوت ناطق بما يموج به الضمير الجمعي من خواطر.
وفي إطار الاحتفاء بهذه السلطة تتبين عمليات التصنيف وإصدار الأحكام، وما يمكن تسميته الفرز الاجتماعي التي تكشف عنها مصطلحات وشرائج اجتماعية، مثل: أغربة العرب، العبيد والإماء، الصعاليك، ثم بعد ظهور الإسلام ظهر مصطلح (الصابئ) في إشارة إلى من خرج على دين قومه إلى دين جديد، وهذه المصطلحات جميعها تعد أمثلة شاهدة على من تلفظهم تلك السلطة أو تضعهم في مواضع الازدراء والاحتقار في ظل نظرة سلبية لهم3.
ويقود الطرح السابق هذا إلى مسير الجماعة العربية وتحولها من الجاهلية إلى الإسلام، وانتقالها بمفهوم السلطة من دائرة القبيلة وما يصاحبها من متعلقات إلى دائرة مغايرة، كان للإسلام دور رئيس في تكوينها؛ فمن القبيلة بدأت الشخصية العربية تنتقل إلى مفهوم الدولة في بعدها الجغرافي واتساع مساحتها، وفي بعدها الديموغرافي (طبيعة الشرائح الاجتماعية والفئات المكونة لها)؛ بفضل الانتقال من حيز العصبية القبلية ومساحته الضيقة إلى رحابة الأخوة التي تقوم على رابط راقٍ يمثله الدين الذي يذيب المسافات والفوارق بين الطبقات، ويبدد الحواجز التي أقيمت بفعل مفهوم القبيلة القاصر، ويتجاوز ويتعدى أهل اللغة الواحدة إلى غيرهم، جاعلاً معيار التقييم والحكم وبيان الأفضلية مؤسسًا على مفهوم التقوى الذي يُعول عليه في ترتيب الأولويات، وفي الاختيارات بالنظر –على سبيل المثال- إلى ثنائية السلطة ببعدها السياسي والرعية.
وبالوقوف عند هذا المحدد الأخير لثنائية (السلطة والمحكوم أو الرعية)، يمكن تتبع مسار الشخصية العربية فيما أعقب ظهور الإسلام وبيان ما مرت به من أطوار، تم التعويل عليها في تقسيم الأدب إلى عصور؛ إذ اتخذ مفهوم السلطة في جانبه السياسي أبعادًا فرضتها تفاعلات داخل الجماعة أعادت إلى الذهنية الجمعية في مرحلة زمنية محددة ما كان في الماضي من صراعات كانت القوة الخشنة المعتمدة على السلاح والعنف وسفك الدماء الملمح الرئيس لها؛ فأحداث الفتنة الكبرى التي قسمت الجماعة العربية في عمومها فرقًا ثلاثة رئيسة: مع علي بن أبي طالب وضد معاوية بن أبي سفيان، ومع هذا الأخير ضد الأول، وفريق ثالث آثر الحياد فيما اعتبره فتنة أعجزت القدرة على تبيان الحقيقة الناصعة التي يمكن الالتفاف حولها؛ فظهر مفهوم جديد كان للأدب نصيب وافر في الكشف عنه؛ ألا وهو مفهوم الحزبية، الذي بدأ يشيع ويتمدد في جسد الدولة العربية المسلمة، منذ مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فأضحى لكل حزب شعراؤه المنادون بمبادئه والمناوئون لخصومه، فكان عندنا الزبيريون نسبة إلى عبد الله بن الزبير، والعلويون نسبة إلى علي بن أبي طالب وآل بيت النبوة، والشيعة نسبة إلى أنصار علي بن أبي طالب الذين وقفوا إلى جواره في معركة صفين ضد معاوية بن أبي سفيان، وفي مقابل هؤلاء الخوارج الذين اعترضوا عليه وخاصموه وحاربوه وقاتلوا ضده بعد ذلك لقبوله التحكيم مع معاوية، وحزب الأمويين، وحزب العباسيين4، كل هذه الفرق يمكن مطالعة وجودها من خلال محددين رئيسين: القوة الناعمة التي تتمثل فيما كانت تنادي به من فكر يستقطب لها الأنصار والمؤيدين بوسائل عدة، يأتي الأدب شعره ونثره في المقدمة منها، والقوة الخشنة التي تتجلى في ممارستها أحيانًا للعنف القائم على إشهار السلاح في وجه الخصوم، والدخول في مواجهات دموية لفرض رؤيتها جبرًا.
إذًا؛ فإن التعامل مع الأدب بوصفه فنًا يقوم أولا على تناوله؛ بوصفه حالة ثقافية وتاريخية تشير إلى ملمح من ملامح الشخصية في شقها الفردي والجمعي في سياق زمني ومكاني محدد؛ فصياغته لا تعدو أن تكون نتيجة ومرآة عاكسة لطبيعة مرحلة؛ خصوصًا إذا ما تم الحديث عن الشعر في أغراضه الأربعة: المدح والفخر والهجاء والرثاء، وعن النثر في أحد أشكاله الأكثر ذيوعًا؛ ألا وهو الخطبة.
فإذا نظرنا إلى طبيعة البناء الاجتماعي في عصر بني أمية –على سبيل المثال– نجد أن تغير شكل السلطة السياسية وأسلوب ممارسة الحكم وفرض الوصاية على الرعية واختلافه من عهد إلى عهد قد ألقى بظلال على التركيبة الاجتماعية للشخصية في ذلك الوقت؛ إذ يمكن القول: إن طبقة الأدباء والشعراء تأتي تالية مباشرة لطبقة الخلفاء وأهل بيت الحكم والولاة، في إطار ما يمكن تسميته بـ(تبادل المنفعة)، فاحتكار بني أمية للسلطة على المستوى السياسي وما صاحبه من استخدام مفرط للقوة الخشنة في سبيل ذلك، دفع إلى ضرورة الاعتماد على القوة الناعمة التي يشكلها الأدب بشكل موازٍ؛ فالحاكم تتجمل صورته في عين الرعية، والأديب ينال مقابل دوره هذا المال والمنزلة بين الناس5.
الأدب بوصفه وسيلة إعلام
والحديث عن هذه الحالة الثقافية والتاريخية للأدب في عصر كهذا –على سبيل المثال– تأخذنا إلى وسائل الإعلام عمومًا قديمًا وحديثًا؛ بوصفها إحدى أدوات ممارسة الحكم وترسيخه؛ فإذا كان الأمر فيما مضى من عصور يتم من خلال الأدب الذي يمكن النظر إليه من وجهين: كونه أداة إعلامية يُبث من خلالها ما يحقق الرضا للراعي، وينسجم ومقاصده في بسط نفوذه وتوطيد دعائم حكمه، وكونه نتيجة هذا الدور ممثلاً لأحد أشكال القوة الناعمة التي يلجأ إليها الحاكم في سبيل إنفاذ هذه الغاية، ولعلنا نتذكر هذه المقولة الأثيرة لمعاوية بن أبي سفيان "لا أضع سيفي حيث يكفيني لساني"، وشعرته الرمزية التي تشير إلى ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الطرفين (الحاكم والمحكوم): "بيني وبين الناس شعرة لا أقطعها أبداً، إن أرخوها شددتها وإن شدوها أرخيتها"6؛ فإن الحال في عصرنا الحديث بالطبع قد تغير بما يلائم معطيات الزمن الراهن؛ إذ يمكن القول: إن احتكار الأدب لهذا الدور في الماضي لم يعد حاصلاً الآن؛ فإنجاز هذا الدور في الزمن الحالي يتم عبر قنوات اتصالية عدة ما بين مرئية ومسموعة وورقية، وعبر شبكة المعلومات الدولية، وبأدوات تتمتع بالمرونة وبالقدرة وبالفاعلية في الوصول إلى الأهداف المرجوة.
الأدب وحتمية تغيير النظرة إليه
إذن؛ يمكن قراءة أغراض المدح والفخر والهجاء والرثاء؛ بوصفها استجابات جمالية لسلطة سياق، هذه الاستجابات من شأنها إخراج النص الأدبي من قوقعة الصياغة اللفظية الظاهرة ومحدودية النظر إليه من خلال مفاهيم تقليدية كالتجربة الشعورية ومقومات الجمال وأنماط الصور... ليتم التعامل معه في إطار رؤية ذات طابع شمولي تسعى للوقوف على المكون الثقافي للشخصية في كليته عبر العناصر التي تتضافر وتتعاون لتقيم بنيانه في مرحلة زمنية بعينها، والأدب بفنونه المتنوعة جزء من ذلك، وليس بمعزل عنه أو يحظى بموقع مستقل بمنأى عن هذا الإدراك؛ إذ إن الاستغراق في معالجة الجزئيات والعناصر داخل الرسالة الأدبية ذاتها ومنحها الحيز الأكبر من الاهتمام يعني عدولاً عن الغاية الأسمى في مقاربة هذا اللون من الممارسة التعبيرية؛ ألا وهي ما تمثله هذه الرسالة من دور في الكشف عن الوجه الثقافي للشخصية الجمعية في ظل مرحلة محددة تكتسب خصائصها من طبيعة ما كان يقع فيها من أفعال، وما كان يسودها من فكر؛ لذا فإن مناهج ما يسمى بمرحلة الحداثة في نقد النصوص، وعلى رأسها البنيوية تبقى قاصرة وعاجزة وغير مؤهلة للقيام بهذا الدور، الذي يعيد لهذا النشاط الإنساني الراقي مكانته التي يجب أن تكون. وقد تأخذنا هذه النظرة إلى مناهج تمردت على طريقة البنيويين، أو لنقل سعت إلى تجاوزها كالبنيوية التكوينية عند لوسيان جولدمان، وكنظريات التلقي وعلم القراءة التي خرجت من رحم ما يسمى بالتفكيكية ورائدها جاك دريدا7.
لكن، تبقى كل هذه المناهج للأسف حبيسة نظرة قاصرة هي الأخرى؛ إنها تقترب من الأدب وتتعامل معه لكونه أدبًا فحسب، وليس لأنه جزء من سياق معرفي أكبر، ومثال على حالة ثقافية وعلى ما يمكن تسميته قناعات وصلت إليها جماعة بعينها في أثناء مسيرها عبر الزمن، في مرحلة زمنية محددة تستدعي الوقوف المتأمل.
إن هذه النظرة التي ترنو النضج وتسعى إلى توسيع دائرة اهتمامها قد لا تكون جهدًا فرديًا، ولكنها بمثابة مشروع بحثي جماعي يحتفي بتوزيع الأدوار وينفتح في معالجاته على أشكال الفكر الأخرى التي تساعد في تحصيل إجابات لهذه القضية التي تسعى للخروج بالعملية الأدبية من حالة حضور زائفة تم التعامل معها لأزمنة ممتدة، ترى أن للأدب استقلاليته وعزلته عن باقي أنماط الفعل الإنساني الأخرى لدرجة أضحى معها هذا السلوك بمثابة هامش أو موجود في الظل داخل الواقع الحياتي القائم، هي ولا شك نظرة أسهمت بشكل أو بآخر في الوصول إلى ما نراه الآن من حالٍ يمكن نعته بالمأساوي؛ إذ ليس لهذا النشاط –أي الأدب- مكانه الذي يُرجى له في دائرة الضوء وفي قائمة اهتمامات فضاء التداول. إن الخروج بالعملية النقدية من هذا الخندق الضيق وتخليص الكتابة النقدية من أكاديميتها الصارمة ومنهجيتها ذات الجمهور القليل المحدود ضرورة ملحة لتشكيل وعي جديد أكثر نضجًا يمتلك معايير تغاير بشكل جذري ما سبق، يرى في النص مستندًا يحمل معه أبعادًا تفوق جمالياته ودلالاته الظاهر منها والعميق؛ ليكون حلقة في سلسلة فيها غيره من حقول الفكر، من وسائل التعبير الأخرى، ولعل ما يسمى بالنقد الثقافي الذي طرأ على الساحة منذ زمن ليس ببعيد يعد خطوة على الطريق الصحيح في الارتقاء بقراءة الأدب، وتخليص النظرة إليه من شوائب تعزله وتضعه في هامش الحياة؛ على الرغم من أنه لا يزال إلى يومنا هذا مجرد مقولات لم تصل إلى درجة النظرية ذات المحددات المنهجية الواضحة.
تعقيب
الأدب إذًا؛ بوصفه أحد أشكال السلوك الإنساني الأكثر نضجاً يمثل أداة من أداوت القوة الناعمة التي يتم توظيفها في تكوين الوعي الجمعي، وتوجيهه بالطريقة التي يراها أرباب السلطة على مر العصور؛ وإذا أردنا أن نضرب مثلاً على ذلك بشعرنا العربي لوجدنا أنه في أزمنة متعاقبة كان يشكل أداة تعتمد عليها السلطة في التأثير الاجتماعي والسياسي؛ ففي زمن بني أمية على سبيل المثال رأينا كيف أن نمطًا شعريًا بعينه يتجلى فيما أطلق عليه شعر النقائض، كان بمثابة وسيلة من وسائل لفت النظر الجمعي عن الشأن السياسي.
ليس ذلك فحسب؛ بل إننا بتوسيع النظرة إلى شعرنا العربي وأغراضه، وفي مقدمتها المدح والهجاء والرثاء نستطيع أن نقول إن العلاقة الجامعة بين السلطة والأديب كانت تلتقي على ما يمكن تسميته تبادل المنفعة؛ فالأديب شاعرًا أو خطيبًا على سبيل المثال يتقدم بصنعته الأدبية إلى السلطة؛ ليحقق لنفسه ربحًا ماديا ومعنويا، والسلطة ترى في احتضانها لهذه الطائفة طائفة الأدباء وسيلة لتجميل الصورة وللنيل من الخصوم، إذا ما نظرنا إلى غرض الهجاء في الشعر على سبيل المثال، هذه الرؤية لو سافرنا بها بعيدًا في الزمن، حيث العصر الجاهلي نجد أن القبيلة كانت ترى في نبوغ شاعر فيها دفعة معنوية كبيرة، يمكنها من خلالها تدعيم وسائلها في مواجهة الخصوم؛ فالشاعر هو اللسان الناطق باسم القبيلة يفخر بمآثرها ويعلي قدرها في العيون، وفي الوقت ذاته يحط من أقدار خصومها بالهجاء؛ فالقوة إذًا ليست درعًا وسيفًا ورمحًا فحسب، لكنها تبدو في الكلمة وقدرتها على التأثير وعلى تحقيق غايات قد يكون الوصول إليها بالسيف عسيرًا، إذا ما قورن بالكلمة وما يمكنها فعله.
الإحالات: 1. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: أدب، ركن المعاجم، الموسوعة الشعرية الإلكترونية، المجمع الثقافي العربي، دولة الإمارات، إصدار 2003م.┊2. انظر: بؤتراند راسل، السلطة والفرد، ترجمة: د. لطفية عاشور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1994م، من ص: 19 إلى ص: 27.┊3. انظر: د.شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، دار المعارف، بالقاهرة، الطبعة الخامسة والعشرون، دون تاريخ، من ص: 34 إلى ص: 44.┊4. انظر: د. محمد حلمي محمد أحمد، الخلافة والدولة في العصر الأموي، مكتبة الشباب، القاهرة، دون تاريخ، من ص: 77 إلى ص: 82.┊5. انظر: د. صلاح الدين الهادي، اتجاهات الشعر في العصر الأموي، دار الثقافة العربية، القاهرة، دون تاريخ، من ص: 80 إلى ص: 87.┊6. انظر: د.محمد حلمي محمد أحمد، الخلافة والدولة في العصر الأموي، ص: 90، 91.┊7. يراجع تفصيلا: رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة: د. جابر عصفور، دار قباء للنشر والتوزيع، القاهرة، طبعة 1998م.