قيمة الانسحاب في المجموعة القصصية

24 ساعة مسخرة للأديب منير عتيبة

د. حنان الشرنوبي



يبدو لنا من عنوان المجموعة أنها تنتمي للأدب الساخر؛ إذ يكشف لنا المعجم العربي عن المسخرة ومشتقاتها.. فهي كل ما يدعو إلى السخريةِ أو ما يثيرها ويجلبها، وتُجمع على مسْخراتٍ أو مساخر.. والمُتمسخِر هو الذي يثير سخرية الآخرين. والأدب الساخر -إجمالا- هو تعريض فيه مواربة لكشف مثالب المجتمع ومعايبه. و -تفصيلا كما ذكر دكتور نبيل راغب- فإنه أدب يحتوي على توليفة درامية توظف السخرية وما فيها من تهكم ونقد ودُعابة لتعميق الاتجاهات الفكرية والمجتمعية والفنية؛ فتلقي الضوء على شخص أو مبدأ أو فكرة؛ لتعريتها وكشف أوجه القصور والضعف فيها. ويقوم هذا الأدب على تقنية المفارقة مثل: الكاريكاتير.



وفي قصص المجموعة نجد السارد يستعمل التّناص واستجلاب بعض الشخصيات مثل: السندباد البحري أو العبارات مثل: مقولة تشيخوف "لو وجدت مسمارًا في أول القصة، لتوقعت أن يشنق به البطل نفسه في نهايتها"؛ أو الأشياء مثل: سفينة تيتانيك.. التي استلهم ونسج عبرها سخريتَه من الواقع المعيش.

فها هو سندباد بغداد يأتي في هيئته الألفينية مرتدياً (السموكن والبابيون) وينثر حوله عطوره الفرنسية؛ ليجد في انتظاره العبيد متراصين يبحثون عن حُلم الغد، وينطقون بحماس بما يمليه عليهم من عبارات رنّانة لم يسمعوا بها من قبل مثل: فانز، حرية، استبداد، ديمقراطية، النظام.. إلخ. في حين أن لفظة (العسس) لم تتجدد لفظاً أو هيئة على مرّ العصور.

وفي قصة "تيتانيك في خورشيد" نجد أن السارد يذهب في سينما درجة ثالثة، وهي نفس الدرجة التي ذهب فيها جاك في السفينة بادئاً بجملة: ولو على حساب حياتي، وهي ما حدث لبطل الفيلم؛ فيكتشف أنه تحت سيطرة جاك بطل الفيلم الذي عاد ليسترد حياته؛ وإلا ستغرق خورشيد بمن فيها، حتى تومض الشاشة بالبطل المخلّص "خالد بن الوليد" الذي يمثل حضارتَنا ثم يختفي لتعود لحظة الظلام؛ إذ يسيطر عصر تيتانيك وعصر العالم الافتراضي الذي جعل الترند (سماح هرم) ترتدي ملابس قدماء المصريين، وترقص بها في أغاني المهرجانات فيتصارع على الزواج منها شابان، كل منهما "يوتيوبر" فتوافق على من سيمنحها مهرًا أكثر من اللايكات والمشاركات، حتى تتركهما لتتزوج بداعية يرمز للإعلام الذي يفوز بالملايين.

ولعل هذا الداعية المتحرر -الذي يتزوج من "سماح" التي تغطي من جسدِها أقل قدر ممكن - يمثل مفارقة مع الشيخ شعبان الذي يحرم استعمال ماكينة الحلاقة الحديثة؛ لأنها بدعة ومع هذا فإنه يستعملها في الخفاء مثل كل شيء غير معلن.

كما حدث للمتحرش الذي حاول في الخفاء التحرش بفتاة ثم امرأة.. فالأولى نجحت في هزيمته بقوة شخصيتها وضربها له فكتم صرخته حتى لا ينكشف أمره، أما المرأة فكانت نظرتها المستعطفة ترجوه بألا يفعل.. فلم يرحمها؛ فكظمت آلامها خوفاً من المجتمع.. وفي رأيي أن هذه المرأة كانت يوماً تلك الفتاة القوية ولكن قهرها المجتمع، فاستسلمت بعد أن أدركت الواقع المرير.

فالمرأة تبحث عن حماية نفسِها، قد تهدد لكنها لا تؤذِي، فعندما استعملت بطلة قصة (تحت التهديد) البنج ليشل حركة زوجِها الذي يخونها ويضربها، أرادت أن تشعره بضعفه، حتى عندما ألقت الكرسيّ إلى جواره عمدت ألا يصبه مكروه.. رغم أن هذا الكرسيّ قد تحطم فوقها من قبل.. فحالُها كحالِ "سعاد" تلك الفتاة الجميلة الخلوقة، التي إذا تحدثت إليها لا بد أن تكون المسافة بينك وبينها (خمسة متر) نظرًا لرائحتها الكريهة التي لا ذنب لها فيها.. فلم يرحمها المجتمع من التنمر.

وإذا نظرنا إلى هذا المجتمع فقد لخصه السارد في قوله: "الأب لا يصلب طوله من الحشيش يصفع ابنه صفعة توقعه على الأرض، فاشل ابن كلب ملعون أبوك. كانت عندي أحلام كبيرة يا أبي. كشكش أحلامك وعش على قدك. الطفل يبكي: أنا ابن من يا أمي؟ ابن من أنت ابنه كشكش أسئلتك واطف فضولك ترتاح. ذكرى البنت الحلوة تضحك وهو يقول لها متوسلا: أحلامي لك بعرض السماء وأشواقي أقوى من نار الجحيم.. كشكش أحلامك وطفي نار شوقك وانساني. تبتسم ابتسامة وضّاءة، وترقص حاجبيها بمرح. ضابط النقطة يسحل حامد في الشارع ليكون عبرة لكل من يتعاطى ترامادول. واعظ المسجد يعطي حامد خمسمائة جنيه وشمروخ أمام جامع القائد إبراهيم، حامد يضرب فتاة ويلقيها أرضاً ويعريها ما الذي أخرجك من بيتك؟ كشكشي نفسك يا بنت الكلبة" [ص: 129].

والسارد يرى أن الحياة تقوم على المساخر، فالندواتي صورة كاريكاتيرية لشخصية متسلقة واقعية بالندوات.. وفي كل ما سبق نجد أن معظم -وإن لم يكن كل- هذه الشخصيات تفتقد أمرًا ولا تصرح به.. ولعل السارد عبر عن هذا الكتمان في قصة "خطيئة تشيكوف"، حيث وجوده يتمثل في المسدس فبدون ظهور المسدس لا وجود لمشاعره.. وإنما فقط العدم. فيصف مشاعره بـ(رهبة ورعشة وقوة وجبروت، وعشق للحياة والموت معاً).

والسارد يتناص مع قصة من الأدب الروسي لتشيخوف هي "موت موظف" الذي يشعر بالاضطهاد، فالموقف عدمي من الوجود كله، يطغى فيه كيان الحياة على وجدان الإنسان، فلا يجد متنفساً، فيعجز عن البوح، والمفارقة أن موقف السارد من الوجود أنني عدم، فالبطل يبحث عن بطولة زائفة في وقت لا وجودَ فيه للأبطال، فهو بطلٌ سلبي مُسلّح بقيم الانسحاب والإحساس بالاضطهاد ويجهل طريقه، حتى سائق التوكتوك يمثل عبثية الحياة، فأين اطمئنان النفس؟ ومن الملاحظ أن أبطالَنا عبر القصص المسرودة تستغرقهم تفصيلات كثيرة حولهم، وكأن البطل منهم يبحث عن الانتماء لأي شيء، وهذا سبب وصف السارد لما حوله، مما جعل الشخصية متأملة؛ أي تتأمل الحياة وترصد تفصيلاتِها الدقيقة؛ علّها تجد ما تنتمي إليه، فالتّأنّي في الوصف يلتقط الجزيئات البسيطة ليذكرها؛ مما يُنْبئ على حرصِه لوجود علاقة بينه وبين كل ما هو موجود في الحياة؛ لأنه فاقد هذا الانتماء ومنسحب من الحياة، فيرصدها من الخارج دون اندماج معها فيحيا بالمجتمع وهو ليس فيه وهو ما يسمى بالاغتراب، إذن العلاقة بين السخرية ورفض الواقع والانسحاب منه اغترابًا.. وطيدة.

فالبطل أولاً وأخيرًا سلبي، يمثل قيم الإنسان المعاصر الرافض والمنسحب.

وختاماً؛ وبما أن الأربعة والعشرين ساعة تمثل يوماً صحيحاً فكذلك أبطال المجموعة تمثل لي شخصاً واحدًا؛ لذلك فإن القصة أو بالأحرى الساعة رقم خمس وعشرين تُركت لك أيها القارئ لتحكي لنا.. من أنت؟ هل تنتمي لسارد المجموعة المغترب في يومِه؟ أم أنك في يوم آخر جديد مختلف ومؤتلف مع واقعك المجتمعي؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها