بادئ ذي بدءٍ، أستسمحُك، أيها القارئُ الكريمُ، إِذْنَاً –ولعلَّك في غير عجلةٍ من أمرك- في تبيان شأنٍ مهمٍ يتمثل في جملةِ إشاراتٍ دالةٍ على نحو ما ستردُ تترى في هذه المقالة مذْ باكورتها الأولى؛ أهمها:
1- نأمل من قارئنا المفضال، ونأمل له، ألَّا يقعَ فريسةً ميسورةً لغَرَرٍ قد يأتيه من العنوان الذي اصطفيناه لهذه المقالة على نحوٍ مقصودٍ وهدفٍ مرصودٍ؛ فيتوهم عَجِلاً أن سبيلنا السابلة التي عزمنا على المضيِّ فيها، هي عينها سبيلُ الشاعر الفحوليِّ والسياسيِّ الكبير نزار قباني، الذي وسم إحدى قصائده المشهورة بهذا الوسم: "الرسم بالكلمات". وهي قصيدة حازت تموضعاً مائزاً في أفضية الديوان، أهَّلها لتكون وسمه الرئيس وعنوانه الدال على هوية شجرة نسبه وامتياز فنه من الأغيار المشابهة له. وإذا شئتَ أن نذكِّرَك بمطلعها وختامها، ذكرنا لك هذين البيتين؛ رغبةً غير بريئةٍ منَّا في حثِّك على قراءتها كاملةً:
لا تــــطلبي منِّي حســـــــــــابَ حيـــــــــــــــــاتي ... إنَّ الحــــــــديثَ يطـــــــــولُ يــــــا مولاتي
كـــــــــلُّ الدروبِ أمــــــامَــــــــــــــــــــــنا مسدودةٌ ... وخـــــــلاصُنا فـــــــــــــي الرسمِ بالكلماتِ
2- ليس من مرام هذه المقالة -أيضاً– أن نقتفي أثر النقاد في حديثهم عن علاقة الشعر بالرسم؛ وبخاصة في تتبع أطاريح فرانكلين روجرز في كتابه المهم: "الشعر والرسم"... أو غيره من الجهود العديدة والحثيثة، التي كشفت عن سفور هذه العلاقة بين الفنين وتداخلهما معاً تداخلاً عضوياً وجمالياً؛ إذْ الشعر رسمٌ ناطقٌ، والرسم شعرٌ صامتٌ... وهلمَّ جراً من الأقاويل البادهة في سطوعها بداهة شمسٍ في رابعةِ نهارٍ. ونحن على أملٍ كبيرٍ بمعرفة القارئ إياها وإدراكه أبعادها، وأنَّ سفْحَ كثيرِ مدادٍ أو تبديد عظيم طاقةٍ في شأن تكرارها، أمرٌ لا طائل منه ولا رجاء لزيادة فيه.
3- إشارةٌ ثالثة تفتتن بالتجريب، وتتلبس مغامرة الاجتراء؛ إذْ نعزم، في هذه المقالة، على مغادرة سبيل النقد المألوف في هكذا شأنٍ؛ حيث يعمد الناقد إلى تحشيد نقده برطانة يوحي إلينا أنه عالمٌ بطياتها وحكيمٌ بشأنها، ثمَّ أنت إذا تأملتَ منجزه، في عظيم تؤدةٍ وكثير أناةٍ، هالك محصولٌ نزرٌ يفضي إليه؛ إذا هو قرر، في غفلة من وعيه، معاركة النص الشعري، وخوض نزالٍ أليمٍ معه؛ لتكتشف في مآل أمرك، كيف تمخض الجمل عن فأرٍ هزيلٍ؛ فيتقطب منك الجبين، وتجعل تضرب كفاً بكفٍّ منفِّساً عن اغتياظٍ واعتياصٍ كبيرين! لهذا كلِّه –ولغيره مما يَصْعُبُ ذكرُه– قررنا أن نغفل -عمداً- كل هاتيك النصوص والأقوال والرؤى النقدية التي عبَّدت مساراً ما في أفضية الشعر والرسم؛ لنقف وجهاً لوجهٍ أمام النص الشعري؛ نتقرَّاه على مهلٍ، ونستلهم مغزاه ومقاصده عبر فعل الإصغاء الرهيف والتسمُّع الفضولي، الذي يستعذب آلامه في فتنة كشوفاته وغواية استحضار الأسئلة النصية الوازنة... إنه على الاختزال والاقتضاب، يمكن القول: ما نسعى إليه هنا، هو الإفساح عن الخبرة الشخصانية في الوعي بجمالية النص الشعري، متخففين من الحمولات الواردة من الخارج أو المنبعثة من التراث؛ لعلَّما هكذا تجريب يفضي إلى جرأة محمودة في تراكم منجزٍّ نقديٍّ ينبثق من ذاتنا النصية الإبداعية العربية. ولئن كنا نعلم علم يقين كلفة أمرنا هذا، فحسبنا منه شرف المقصد ومتعة الغواية بالتجربة.
أمَّا قبلُ؛ فإليك النص الشعري الذي نتربَّصُ به:
يقول المتنبي في وصف الجيش:
وذي لجبٍ لا ذو الجــــــــناحِ أمــــــــــــــامَه ... بــــــناجٍ ولا الوحشُ المــــثارُ بســــــــــــالمِ
تمــــــرُّ عـــليه الشمسُ وهي ضــــــــــعيفةٌ ... تُطـــــــالعُه مــــــــــــــــن بين ريشِ القشاعمِ
إذا ضوؤهـــــــــــا لاقى من الطيرِ فرجةً ... تدوَّرَ فــــــــــــوقَ البيضِ مثـــــــلَ الدراهــــــمِ
ويَخْفى عـــليكَ البـــــرقُ والرعدُ فــــوقَــــه ... مِـــــــنَ اللَّمْعِ في حـــــافاتِه والهــــماهــــمِ
ربما يكون من اللائق بفاتحة التأويل الذي نشاؤه تجاه نصنا المُتَرَبَّص به من قِبَلِنا، التذكير بمستخلص الدلالة من الدال الرئيس وهو عنوان المقالة: "الشعر والرسم بالكلمات"؛ لينحسر مسارنا من شأن الشعرية النصية في "الصورة"، التي هي الركن الثالث من أركان الشعر وأطواده الراسخة: (اللغة، الموسيقى، الصورة). ولئن كانتا اللغة والموسيقى مهمتين للغاية في تمكين الأبنية النصية كما هو معلوم للكافة بالضرورة، فإنني أشاء إنجاز ممارسة سافرة في انحيازها للصورة الشعرية، والنظر إليها نظر الجوهر من العرض، واللُّبِّ من اللبابِ... الصورة الشعرية في حفرياتها البادهة والعميقة رأسياً وأفقياً، هي الهوية النووية -نسبةً إلى النواة– التي تمثل عصارة النوع الشعري وتقع منه موقع المغاير للأشباه والنظائر... إنها –فيما نرى– العمود الأهم في امتياز الشعرية التي تُصنع على عين الفنان، الذي يعمد إلى الانتصار لفنه بالصورة الفاتنة، إذ الشعر جنس من التصوير الذي يتشكَّل خطاباً قائماً على التخييل والمحاكاة؛ وهما المعتبران فيه عند الخُلَّصِ من النقاد.
غير أننا نبتغي الإشارة إلى تصور الصورة التي نريد، وهو تصور يتجاوز الإدراك الجزئي للصورة ممثلةً في: التشبيه، الاستعارة، المجاز، الكناية، إلى حيث الوعي بها لوحةً مرسومةً بعناية فائقةٍ وعبقرية فذةٍ. الصورة هنا بمدركاتها الحسية والمعنوية والتجريدية... تجتاز الجزئيات والفرادى؛ إلى حيث اصطناع فضاءٍ ذي صبغة تناغمية تمزج بين الوصف والحركة مستثمرةً، المعطيات الصورية المتعددة في تشكيل بناء محكم يتخطى التجسيم والتشخيص إلى الخطاب الدال والمغزى الرسالي. وبه تتحول مُشَكِّلَاتُ الصورة من المعطيات المختلفة إلى مرتكزات إشعاع وتدليل وتوهج، مكوِّنةً لوحةً كليةً كبرى تتوارى فيها الجزئيات الفرادى لحساب المغزى الكلي، الذي يستثمرها ولا يلغيها؛ فتبلغ بها كُلّاً مجتمعاً، مبلغَ العجبِ، وتصل به حدَّ الأسطرة، التي تنفث في النص وفينا نفث الشياطين المَرَدَةِ، الذين يملكون قدرة الوحي وطاقة التَّكَلُّمِ بنفاذٍ وغوايةٍ.
تقودنا هذه النظرة الكلية إلى النص بوصفه لوحة مرسومة، إلى محاولة تفكيك المعطيات الصورية في النص؛ لنجد أنفسنا إزاء تضافر حيٍّ وحيويٍّ لمكونات منسجمة من أشتاتٍ متفرقاتٍ منها: إنسانية (الجيش، الممدوح) حيوانية (الطير، الوحش، الريش، النسور، الخيول)، طبيعية (الشمس، الضوء، البرق، الرعد، اللمع)، صوتية (اللجب، الهماهم)، شعورية (النجاة، السلامة، الخوف، الضعف، المطالعة) معدنية (السيوف، البيض، الدراهم)، حركية (تمرُّ، تطالع، لاقى، تدوَّرَ، يخفى).
والآن بعد أن فردنا المكونات الصورية أمام أعيننا، علينا أن نسأل عن كيفية التشعير ممثلاً في الخطاب الكلي المهيمن، الذي أفلح في نظم هذه المكونات المتباعدات ذات الكثرة والاحتشاد، أفلح في نظمها في بنية فاعلة أضفت عليها من سلطة فعلها؛ فإذْ المختلفات مؤتلفات، والمتباعدات متقاربات، وإذْ الأجناسُ كلها تلتئم وتتضام ملتحمةً التحام البناء المرصوص في شيء واحد له صفة الوجود والحضور كما له فاعلية الخلابة والسحر والاستيلاء على مخيلة المتلقي عبر تداخل الحسي بالشعوري، والمشخص بالمجرد على هذا النحو الفريد المدهش. غير أن آي تفصيل هذه الدهشة تتجلى في هذا التشكيل الذي يضارع – إلى حدٍّ ما – ذلك التشكيل السينوغرافي في أدبيات المسرح المفتوح؛ الذي يُقصد به البيئة المكانية للعرض وأحداثه من ديكورات، ومنصات، وإضاءات، وأصوات، وألوان، وخيالات...؛ حيث تنصهر كل هاتيك المعطيات في فضاء واحد يمثل التشكيل النهائي للحدث والرسالة معاً. من ثمَّ فإنه من الحتمي النظر إلى النص الشعري على أنه فضاء صوريٌّ ذو كينونة نابضة بروح وبوحي واحدين. في هذا الصدد يمكننا برهافةٍ، وعي المدرك الصوتي الذي يعمد المتنبي إلى اقتحام مسامعنا به في فجأةٍ داهشةٍ: (وذي لجبٍ) لينبعث فينا فعل التخييل الشعري على ضخامة جيشٍ ذي جلبةٍ وأصواتٍ وضجيجٍ للممدوح (الحسن بن عبيد الله)؛ وكأن المفتتح الصوري جوقةُ عرضٍ مسرحيٍّ أو موسيقى تصويرية لمشهدٍ سينمائيٍّ مفعمٍ بالتوترات الصراعية، التي تقف بالحياة على حافة الموت في فعل مخاطرة بلا انتهاء. هذا المعنى الصولجاني والقوي المغتصب حاسة السمع، وكأنَّ في أذن الجوزاء منه زمازم، يجعل المرء يتداول أُنمله العشر في مسمعيه من فرط دويِّه؛ كما قال المتنبي نفسه في وصف الجيش في نص آخر:
وتضريب أعناق الملوك وأن تُرى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنَّما ... تداول سمع المرء أنُمْلُه العشرُ
ثمَّ يأخذ في التمدد والتنامي مشكِّلاً خطاباً قائماً على مقولة الرعب والفتك؛ حيث لا نجاة لحيٍّ منه؛ فلا طير- مطلق جنس الطير- ينجو، ولا الوحوش المفترسة – كل الوحوش بلا استثناء- تسلم منه؛ بعد أن أدركها الرعب وتملك منها الخوف الشديد (ولا الوحش المثار "الخائف" بسالم). وبه فنحن إزاء افتتاح صوري لرسم لوحة حربية تتشظى قوةً وصراعاً، وتمتلئ رعباً وصدمةً وخوفاً أخافَ ما لا يخاف كالوحوش الضارية والطيور الجارحة؛ ليعم الرعب الكون الحيواني اللاعاقل غير تاركٍ شاردةً ولا واردةً بلا رَهَبٍ. وأنت إذْ تتروَّى في وعيك بالصورة، ترى أنَّ أبا الطيب قد زخَّ طاقةً صوتيةً هائلةً ليملك منك أمرك عنوةً؛ فتُسْلِم له مسمعَك، وتُعِيْرَه كلَّ خاطرك وكِيانك، في سياقٍ لا تأبه فيه بصوتيات الكمات، وإنما بجلبة ذلك الجيش الأسطوري الذي هزَّ الوجود. غير أنك تُدهش بمفاجأة انتقالك، أسراً وقهراً، من المدركات السمعية إلى تحولٍ بصريٍّ وشعوري؛ لكأنِّي بأبي الطيب يكتب بعينه، ويرسم بأنامله وريشته؛ فإذْ البُعْدُ المشهديُّ يتبلور في هيئة الطيور المذعورة بإدراكها لزوم الموت مهما بالغت في الفرار؛ فيما الوحوش ترتعد فرائصها ليقينها من الهلاك. وأنت بحضرة هذا البيت وحده، قد تمَّ الاستحواذ على متخيلك سمعياً وبصرياً لتُسْلِمَ قياد أمرك وفكرك وذائقتك لتنقلات الصورة المشهدية لجيش مؤسطرٍ منذ وميض إطلالته الأولى.
في البيتين الثاني والثالث، تكتسب الصورة سمةً مشهدية ذات إيقاعٍ حركيٍّ حسيٍّ ساحرٍ في جلاله وجماله؛ لأنسنته غير العاقل وعقلنته بإكسابه خاصية الإدراك والفعل للمكون الشمسي، الذي يتأطرُ مذهولاً من كينونة الجيش الجرار؛ بما أثاره من لجبٍ وغبارٍ؛ لتتشكل غمامة من الوميض الترابيٍّ الواصل والفاصل في آنٍ، بين الشمس والجيش؛ حيث تراه ولا تراه معاً لكثافة الأحجبة من الغبار ونسور القشاعم بريشها الممدود مظلةً فوق الجند وهم سائرون. وأنت إذْ تُحدِّقُ متريثاً غير عجلٍ، تكتشف في الصورة سيرورة الحركة الشمسية وقد خُلقت خلقاً آخر بعين القصيدة؛ فإذْ الشمس أم النور ومانحة الحياة للكائنات الحية، تتجلى خَفِرَةً، حييةً، ضعيفةً؛ تتسلل خفيةً في مرورها على الجيش، نافذةً من بين ثنايا الريش والعثار، متكورةً جمالياً في هيئة الدراهم بلمعتها وفتنة غوايتها المضمرة في حضورها ضمن حيثيات الصورة. وهذه صورة مكينة في وعي أبي الطيب لكثير أسباب عالقة ببخله وشحِّه لا مجال لاستقصائها هنا، لكننا نرصد حضور الصورة الفتنة والفاتنة في خاطر المتنبي في نصه الشهير في وصف شعب بوَّان؛ إذْ يقول:
وألــــــقى الشـــــرقُ منــــــــــها فـــي ثـــــــيـــــــابي ... دنانيراً تــــــــفــــرُّ مـــــــــــــــن البنـــــــــــــــــانِ
على أنَّ تعانق المجاز بالتشبيه في منجزٍ استعاريٍّ فاعلٍ، قد أتى أُكله شهياً في ضعضعة الشمس بجبروت نورها وقلب حقيقة شأنها؛ حيث إنَّ الشمس ثابتةٌ والجيش هو المتحرك؛ لكنَّ المتخيل الشعريَّ يعمد إلى المغالطة؛ لتتبلور كياناً أنثوياً فضولياً مأخوذاً بهالة الوجود القوي والحربي في الصورة؛ فتعمد إلى إشباع رغائبها المفتونة بمعرفة المشهد عبر فعل "المطالعة" من بين ريش القشاعم. وبه ترتقي الصورة مشهدياً في بعديها الحسيِّ والحركيِّ لتتكوَّر طبقات متراكبة بعضها فوق بعضٍ؛ الجيش فوقه القشاعم، فوقهما غمامة الغبار؛ تعلوها أشعة الشمس ممتزجةً بخلابة البرق وضجيج الرعود المتوالية؛ ليختلط النور بالعتمة، والحضور بالغياب، والوصف بالسرد، والحركة بالسكون، والزمان بالمكان، والقوة بالضعف، والرعب بالطمأنينة في شغفٍ جسورٍ صوب الآتي في غوايته المستقبلية، وما تضمره من وعود بالحياة والموت معاً للممدوح والنسور من حافة، وللعدو والطيور والوحوش المثارة من حافة ثانية.
في الركن الأخير من اللوحة المرسومة بعناية فذةٍ، يتمم المتنبي بأنامل الفنان الرسام، الصورة في بعدها الكوني من خلال تمديد الحضور الحسيٍّ للطبيعة بأصواتها الرعدية، وبألوانها البرقية اللامعة، في مقابل لمعة سيوف الجيش والأصوات الناجمة عن "الهمهمة" في الصدور. ولعلَّه من يسير الفقه في المقايسة، إدراك امتياز الطبيعة وغلبتها على الفعل الإنسانيٍّ في البرق والرعد. لكن الصورة المتنبوية ذات كيمياء تحويلية ساحرة؛ من حيث هي طاقة قلبٍ ومغايرةٍ للقساطيس والمَعْيَرَةِ، فإذْ بك تشهدُ –بقدرة المتخيل الشعري– غلبة لمعان السيوف على برق السماء، وتُفتنُ بتفوق الهماهم المحشورة في صدور الجُنْدِ على رعد الأعلي برغم حدته وجبروته. ولك أن تعلم أن لايقين فيما ترى وتشاهد في الصورة، وليس لك أن تطلب اليقين منها أو فيها، وإنما عليك أن تستسلم خَدِراً مأسوراً لسكرة التخييل الشعري مستعذباً مدهشاته في محاكاته وتكاذيبه؛ لأن كذبه هو عين حقيقته الفنية التي تُقْبِلُ عليها على علمٍ مُفَصَّلٍ من قبلُ؛ فتقبلها على عِلَّاتها الجمالية متمتعاً بخلْق شعريٍّ مرسومٍ في كلماتٍ، يهزم الطبيعة، ويتفوق على الكون. وهذا هو فحوى الخطاب الشعري حين يعمد عبر طاقته التصويرية البديعة، لنقلك من حال الحقيقة والواقع إلى حال الجمال والجلال. وبه تدرك تمام اللوحة وكمالها في سقفها الأعلى؛ لترى أن كل دالٍّ من دوالها قد أخذ موقعه في الصورة في هوية قشيبة تمنحه الحياة والقدرة على الإنجاز والتأثير؛ لتشتبك المدركات السمعية واللونية البصرية، مع مغارات المشاعر والانفعالات في طاقة احتدامٍ وغواية إصرارٍ على حيازة النصر وافتخار الممدوح، بسلطته وسلطانه في تجليهما القوي المعرَّى في الحضور العسكريِّ الخشن، على نحو ما فَعَلَ فِعْلُ التشعير حين قصد إلى تشكيل الصورة زماناً ومكاناً عبر الرسم بالكلمات.
أمَّا بعدُ، فكأنِّي بك وقد أصابَك بعضٌ من شَدَهٍ؛ تثور وتصول قائلاً: لَعَمْرُكَ لقد أطلتَ وبالغتَ؛ فليس لابن الحسين المتنبي في صورة الجيش على نحو ما أسلفتَ، كثيرُ فضلٍ ولا عظيمُ إبداعٍ، فقد سبقه إليها زمرةٌ من الشعراء منذ الجاهلية حتى أيامه؛ حيث وردت عند النابغة في قوله:
إذا غـــــــزا بــــالجيـــــشِ حــــــــلَّـقَ فـــــــــــــــــــــوقَهم ... عـــــصائبُ طيــــــــرٍ تهتــــدي بعصــــــــــائبِ
جــــــــوانــــــــــحَ قــــــــــد أيـــــقــــنَّ أنَّ قـــــــبيــــــــــله ... إذا مـــــــــــا التــــقى الجمعــــان أوَّلُ غـــالبِ
ووردت عند مسلم بن الوليد في قوله:
قـــــد عــــــوَّد الطيرَ عـــــــاداتٍ وثــــقــــــن بــــه ... فــــهـــــنَّ يــتبعنــه فـــــــي كـــــــلِّ مــرتحـــــــــــلِ
وعند أبي نواس في قوله:
يــتـــوخـــــــــى الطــــيـــــرُ غــــــــــدوتَـــــــــــــه ... ثـــــقـــــــــــةً بــــــاللَّحــــــــــــــمِ مـــــــن جَـــــــزَرِه
قلنا لك: نعم، إنَّ لما قلتَه وجاهةً، وعليه من الحق طلاوة؛ إذْ المعنى قديم جديدٌ، وقد فُتِنَ به كثيرٌ من الشعراء خلافَ ما ذكرنا؛ لعلَّ من أبرزهم أبا تمام الطائي...، لكنه من الحق والحقيقة معاً أنَّ هؤلاء جميعهم كيانٌ جماليٌّ ذو هويةٍ متقاربةٍ متناسخةٍ موشعةٍ بالتقليد ووقوع الحافر على صنوه، فيما أبو الطيب وحده كيانٌ آخر وهويةٌ مغايرةٌ. ولئن كان سليلهم نسباً وصهراً، فهو مائزٌ عنهم فرادةً وفناً، مختلفٌ مذاقاً وحدةً؛ فكأنِّي به منهم يقعُ موقعَ الخمرِ المُصَفَّاةِ المعتقة بجمالية الصنعة والفن، من العنبِ الخام بعبله وطزاجته. أوليس هو القائل:"فإنَّ في الخمرِ معنىً ليس في العنبِ". بلى إي وربي إنه لكذلك. ولئن راودَك ريبٌ من الأمر فمَلَكَ منك قلبَك، وأجهز على خاطرك، فتأمل مسرفاً قوله في هذا البيت متألقاً في رسم الصورة عينها:
سحــــــائبٌ مــــــن العِقْـــبَانِ يــزحــــفُ تحــــتَــها ... سحــــابٌ إذا استسقـــــتْ سقتْــــها صوارمُـــــه
فلعلَّ لنا بعده حديثاً مترعاً بالحجاج والتفاصيل الكاشفة عن أعاجيب أحمدَ وفتونه بتجلية الصورة وتحليتها في بذخٍ نادرٍ.