السيوف عند العرب.. رمز الشجاعة والتراث

ياسر محمد عبد السلام


لقد عرف العرب السيف منذ جاهليتهم، واشتهرت مدن شتّى بصناعة السيوف في العالم الإسلامي، ولاسيما صنعاء، ودمشق، وطليطلة. وأشهر السيوف عند العرب هي السيوف اليمانية، والهندية، والخرسانية، والشامية، وكان لكل منها علاقة تميزها.. وكانت العرب إذا أصابت سيفاً قاطعاً تناقلت خبره.


وقد كان الفيلسوف الكندي أقدم من كتب رسالة في أجناس السيوف، وأشكالها وطريقة صنعها، وقد اشتهرت فارس بسيوفها في العصور الوسطى، وذاع اسم "أسد الله أصفهاني" صانع السيوف، والكثير من أعماله تعرض في المتاحف حتى اليوم.

وكان السيف العربي يصنع من الحديد "سيف أنيث"، أو من الصلب "سيف فولاذ"، ويعتبر السيف حتى اليوم أفخر الهدايا التي تُهدى، وبمرور الزمن تطورت صناعة السيوف. وتتخذ للسيوف الأغماد المصنوعة من الخشب المغطاة بالجلد الثمين، وللسيف حمائل تكون على الأكتاف، أو تشد على أوساط الجند. وأقدم السيوف العربية التي وصلت إلينا هي سيوف مستقيمة النصل، نقشت على نصلها أسماء لمعاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي، وعمر بن عبد العزيز، ثم الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهذا السيف اليوم في متحف طوب كابي باستانبول، ويحتفظ هذا المتحف بسيوف إسلامية هامة كثيرة، بعضها لسلاطين المماليك المصريين وسلاطين آل عثمان.



السيف رمز البطولة

والسيف رمز البطولة وفيصل المعارك.. لقد عاش السيف بالنسبة للعرب سيد المعارك، استطاع به العربي أن يبني إمبراطوريته الكبرى في عصر الفتوحات الإسلامية، ودك به عروش قياصرة الفرس، وأباطرة الرومان.

وكما يؤكد المؤرخون أن السيف بلغ عصره الذهبي فيما بين القرن العاشر قبل الميلاد وأوائل القرن السادس عشر الميلادي؛ أي ظل سيداً نبيلاً حوالي عشرين قرناً من الزمان، وهذا يعني أنه كان للسيف القول الفصل في المعارك في الفترة التي شهدت انبثاق فجر الإسلام، وتكوين الدولة العربية الإسلامية، وقيام الخلافة، لكنه بعد ذلك بدأ يتراجع كسلاح من الأسلحة في المعارك منذ القرن السابع عشر.

أما الآن؛ فالسيف صار تحفة من تراث الأجداد الحربي، ودخل أسيراً في خزانات المتاحف، أو هو ظل في المواكب التشريفة للترحيب بالضيوف الكبار التي تستقبل استقبالاً رسمياً... ومع ذلك سيظل السيف رمزاً وتراثاً عربياً ينطوي تحت لوائه الكثير من المعاني.

لقد بلغ السيف عند العرب الجاهليين مكانة لم يبلغها شيء آخر في حياتهم وعلى طول تاريخهم، وكان السيف عند العربي من أهم مقومات البطولة، ولهذا تغنى به في جاهليته وإسلامه، بل كان من لوازمه أن لا يغادر إبطه أو خصره في نوم أو قيام.

صناعة السيوف

كان أصحاب صناعة السيوف يعرفون بالسلاّحين، وكانوا قلة نادرة في عالم الإسلام بالذات، رغم الحاجة المستمرة إلى هذا السلاح المهم.. وقد اعتادوا أن يزاولوا صناعتهم في جو يحيط به السرية والغموض، فصناعة السيوف كانت من الأسرار الحربية القديمة، ويدل على ذلك أن ما عرف حتى الآن عن أسماء السلاّحين قليل جداً.

ويؤكد الباحثون أنه كان بالجزيرة العربية عدة مناجم للحديد، بالإضافة إلى مناطق متاخمة دخلت في بعض تاريخها ضمن العالم الإسلامي في خراسان، وخوارزم، وأصفهان، وطليطلة، وأجزاء من الهند بالإضافة إلى المناطق العربية مثل اليمن وشمال سوريا، حيث كان ملوك الغساسنة.

لقد عرفت صناعة الحديد منذ الجاهلية، كما اشتهرت بعض القبائل بصناعة الحديد وتوارثت هذه الصناعة جيلاً بعد جيل، ومن القبائل التي اشتهرت قبيلة بني أسد، موطنها "قساس"، وقد اشتهرت بسيوفها المسماة باسم الموطن، فقد كان يُقال هذا السيف "قساسي" نسبة إليها وفي ذلك يقول الشاعر:
إن القساسيّ الذي يعصى به ... يختضم الدارع في أثوابه

وتكاد معظم المراجع تتفق على أن أول من تعامل مع الحديد من العرب في جزيرتهم هو الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة، وهذا هو السبب الذي من أجله أطلق على كل حداد "هالكي"، ثم جاء بعده خباب بن الأرت من نصارى بني تميم، وكان قد سبي من موطنه وبيع في مكة، وهو من الصناع المهرة الذين شاهدو ظهور الإسلام، وقد صنع الأسياف للمسلمين، وتوفي عام (37ه).
 

أشهر السيوف العربية

اشتهرت بعض السيوف في الجاهلية اشتهاراً واسعاً، ومن السيوف التي عرفها كل عربي، السيف المعروف باسم (صمصامة)، عمرو بن معد يكرب، من ملوك حمير وقد ضرب به المثل في كرم جوهره، وحسن منظره وإمضائه، وأجاد عمرو استخدامه في الجاهلية، وعنى به بعد إسلامه، وكان يردد فيه هذا البيت من الشعر:
سناني ماحق لا عيب به ... وصمصامي يصم إلى العظام

وفي العصر الإسلامي وهبه عمرو إلى خالد ابن العاص، عامل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقدمه له بشعر يقول فيه:
خَليلٌ لم أخُنهُ ولم يَخُنّي ... إذا ما الخطب انحنى بالعظام
حَبَوتُ به كريماً من قريشٍ ... فسُرّ به وصينَ عن اللِّئام

وهذا السيف لشهرته ظلت تتناقله الأيدي، ويحرص على اقتنائه القادة العرب، فقد انتقل إلى بني مروان أيام حكمهم في الشام، ولما دالت دولتهم وجاءت الخلافة العباسية بحث عنه أبو العباس السفاح بحثاً مضنياً، ثم من بعده المنصور، فالمهدي فلم يجدوه، وحاول الخليفة العباسي الهادي أن يعثر عليه وجدّ في طلبه حتى استطاع أن يظفر به وأن يقتنيه.

ومع ذلك لم يبق من العصر الأموي سوى عدد قليل من السيوف، أغلبه محفوظ في متحف طوب كابي في استانبول، منها سيفان مستقيما النصل، أولهما نقش عليه اسم الصانع وسنة صنعه (719م- 100ه)، واسم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي توفي عام (101ه – 720م)، وثانيهما سيف له مقبض مذهب وواقية من الحديد، نقش على نصله تاريخ (105ه- 724م)، واسم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.

أما عن السيف في العصر العباسي فلقد كتب المؤرخون عن السيف في خزائنهم، وذكر أحدهم أنه كان بها أيام أبي السفاح (خمسون ألف سيف)، وهذا بالطبع غير الأسلحة الأخرى، ويروي أنه لما ولي الخليفة الأمين (809م)، أراد الفضل بن الربيع أن يحصي ما في خزائن الكسوة والفرس والأنيين، فعثر على عشرة آلاف سيف محلاة بالذهب.

السيف يتحول إلى رمز

منذ نهاية الدولة العباسية تطورت صناعة السيوف إلى مرحلة جديدة، فقد تفنن السلاّحون في صناعة السيف وتشكيله وتكفيته، وترصيعه بأنواع الأحجار الكريمة، كما تفننوا أيضاً في صنع أنصاله ومقابضه، وقد وصل الأمر أيام الدولة الفاطمية بمصر والشام أن خزائنها في السلاح كانت تفوق خزائن العباسيين.

ويروي المؤرخ المقريزي أنه حين دالت الدولة الفواطم، تم إحصاء السيوف الموجودة لديهم، فكانت من الكثرة بحيث فاقت التصور، وفي ذلك يقول: كشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر أنه خرج من القصر ما بين دينار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس، وملبوس وأثاث وقماش وسلاح، مالا يفي به ملك الأكاسرة، ولا تتصوره الخواطر الحاضرة، ولا يشتمل على مثله المماليك العامرة، ولا يقدر على حسابه إلا من يقدر على حساب الخلق في الآخرة.

على أنه بدءاً من نهاية دولة الفواطم بدأ يفقد السيف تأثيره، وإن كان المعز لدين الله الفاطمي أول خليفة فاطمي في مصر عرف عنه المثل الذي يقول: "سيف المعز وذهبه"؛ أي أن السيف تحول مادة إلى معنى ورمز، والحقيقة أنه بنهاية دولة الفواطم ثم مجيء الدولة الأيوبية، والحروب الصليبية، بدا الصليبيون يأتون ومعهم أسلحة جديدة، وبدأت وسائل الحرب تتطور، وإن كان السيف بالطبع لم يختف، فالعصر عرف بأنه عصر الفروسية، والسيف وهكذا سار السيف من جملة سلاح العرب.

السيف بين الأمس واليوم

كانت لأهمية السيوف في عصرها الذهبي أن تناولت صناعته ومصادر خاماته الكثير من المراجع، ولهذا تجد ذكراً كثيراً للسيوف وخاماتها عند ابن سينا، وابن البيطار والقلقشندي، وهؤلاء يتفقون على أن السيف يصنع من نوعين من الحديد، كما ذكرنا نوع يسمى الحديد الشابرقاني، وهو الحديد القابل للسقي، وهناك الحديد الرخو الذي لا يقبل السقي، والفولاذ ليس بمعدني؛ أي لا يستخرج على طبيعته من المنجم، ولكنه يصفى بعد خلطه ببعض المواد أثناء سبكه فتشتد رخاوته ويصير متيناً لدناً يقبل السقي.

ومن أهم مناجم الحديد في العالم الإسلامي كانت بلدة "شاهق" وهي قريبة من إيران، ثم صقلية، ومجانة في شمال أفريقيا، وجبل نقم في صنعاء اليمن، وصعدة في اليمن أيضاً، كما كان الحديد يستخرج من جبال "فاران" في مكة المكرمة، ومن سيناء ومن سلسلة جبال طوروس في شمال غرب أفريقيا.

وعند الفتح الإسلامي أخذ السلطان العثماني العمال المهرة إلى استانبول، فلقد اشتهرت صناعة السيوف في تركيا لدرجة أن البعض يقول: إنه عصر إحياء صناعة السيوف، هذا على الرغم من أن العثمانيين لم يستخدموا السيوف في إخضاعهم العالم العربي لحكمهم، والدليل على ذلك أن المماليك في عصر السلطان طومان رفضوا استخدام البارود؛ لأنه حرام في تقديرهم في دفاعهم عن مصر ضد العثمانيين وربما هو السبب الرئيس في انتصارهم؛ لأن العثمانيين استخدموا البارود من جانب واحد.

ولقد بلغ سلاّحو تركيا درجة كبيرة من التفنن والإبداع، أمثال الأوسطى "سنان" الذي قيل إنه صنع سيفاً كان يطوي نصله مثل حزام الجلد، وكان مع مرونته سريع الاعتدال من تلقاء نفسه، ومن بين أسياف الأوسطي سنان أيضاً السيف الذي صنع للسلطان سليمان بن سليم الأول، ونقش على نصله العبارة التالية" هذا حسام معتبر، حرز سلطان البشر، السلطان سليمان بن سليم، الله يعطيه الظفر، ونقش على وجه النصل الآخر في دار الفتح بقسطنطينية سنة (940ه).

كذلك اشتهر أيام السلطان محمود العثماني (1730- 1764م) صانع أسلحة اسمه "عجم أوغلو"، وتدهور حال صناعة السيوف بعده.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها