أسْواقُ زينة النّساء في القاهرة المملوكية

خلف أحمد محمود أبوزيد

 

الأسواق صورة المجتمع، وأصله واقتصاده، وعاداته وتقاليده، في رواجها نتحدث عن مجتمع زاهر قوي، ولا جدال في أن المرأة تأتي في طليعة القوى الشرائية النشطة، التي تقبل على التعاطي مع المنتجات ذات الطابع الجمالي، الذي يبرز جمالها الأنثوي، ومن هنا عرفت مدينة القاهرة، خلال الحقبة المملوكية، عدداً من الأسواق الخاصة، التي توجهت بمنتجاتها إلى النساء دون سواهن، حيث تبارى أصحاب الطوائف والحِرف في صنع كل ما هو جديد، رغبةً في إرضاء ذوق أكبر قدر من النساء، بصنع منتجات خاصة للاستخدام النسائي، عكست فترات الازدهار والتقدم والترف، الذي يتأكد لنا من خلال رواج هذه المستلزمات النسائية، التي حملت هوية الجماعة، وعبرت عن وجدانها وثقافتها، هذا ما سوف نتعرف عليه عبر هذه السطور.

 

أزياء حريرية:

لعبت الظروف المختلفة، على مستوى الزمان والمكان دوراً كبيراً، في موضة ملابس النساء، كما لعب المركز الاجتماعي دوراً كبيراً في تصاميمها، وكانت الخامة الأساسية المستخدمة في صنع هذه الأثواب هي الحرير، الذي أقبلت النساء عليه إقبالاً كبيراً، الأمر الذي أوجد ما عرف بسوق الحريريين، الذي توجه بمنتجاته في المقام الأول للنساء وحدهن، حيث صنعت من الحرير ملابس وأزياء نسائية تعددت مسمياتها بتوالي العصور، من القمصان والسراويل والأحزمة والطرح، إلى الغلالة والتكة والبهطلة، التي كانت لها شهرة واسعة في عصر المماليك، وهي نوع من القمصان الحريرية، كان له ذيل طويل ينسدل على الأرض، والأكمام واسعة، وقد اشتهر عن النساء في هذا العصر، لبس هذا النوع من الأثواب، والمبالغة في اتساع أكمام "البهطلة". ومن طريف ما روي في ذلك "أن الوزير منجك اليوسفي" حمل على هذا النوع من القمصان، تدهور الموازنة العامة للدولة المملوكية، في حوالي عام 750ه، بعد أن أسرفت النساء في عمل البهطلة، حتى كان يفضل من القميص كثير على الأرض، وسعة الكم ثلاثة أذرع.. "وقد قدرت تكلفة القميص الواحد من هذا النوع، بألف درهم أو أكثر، فأمر بتتبع ذلك بمنع النساء من عمل ذلك الثوب، وقبض على جماعة منهن، وركب على سور القاهرة، صور نساء عليهن تلك القمصان بهيئة نساء قد قتلن عقوبة على ذلك، فانكففن عن لبسها"(1)، ومن الأزياء التي كانت تصنع من الحرير، ولقيت رواجاً كبيراً من النساء في ذلك العصر، الأقباع، وهي غطاء للرأس يشبه الطاقية، وكان يصنع من الحرير أيضاً، ويوضع تحت القلنسوة، التي تلتف حول عمامة المرأة في عصر المماليك.

سوق الأخفافيين:

اختص هذا السوق في صنع وبيع خفاف النساء ونعالهن، وقد بلغ من رواج هذه السلعة، أن أمر الأمير "يونس النوروزي" الملك الظاهر برقوق، بإنشاء هذا السوق في أواخر القرن الثامن الهجري، لصنع وبيع أخفاف النساء ونعالهن، ونقل إليه الأخفافيين الذين كانوا يسكنون خط الحريريين والزجاجين، فعمر ما حوله من أرض"(2). وكان من أهمّ منتجات هذا السوق، فيما يخص الأحذية النسائية، نعال تعرف بـ"سرموزه" وهو لفظ فارسي معناه رأس الخف، بلغ سعر الواحد منها خلال هذا العصر خمسمائة درهم، أيام الوزير منجك اليوسفي، فأصدر أوامره للأساكفة بالامتناع عن عمل هذه الأخفاف الثمينة، كما كان من أهم اختصاصات هذا السوق أيضاً، بيع وصنع القباقيب النسائية، التي شاع استخدامها بين نساء العصور الوسطى بصفة عامة، وبلغ من الاهتمام بصناعتها وروعة تصميمها مبلغاً كبيراً، ومما حفظ لنا التاريخ من هذه القباقيب النسائية الفريدة، قباب خشبي يوجد في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، مطعم بالصدف والعاج على هيئة زخارف هندسية معقدة، ومن المدهش أن ارتفاع هذا القبقاب على الأرض، يبلغ حوالي 35 سم، وهو ما يشترط قدراً من الرشاقة والقدرة على حفظ التوازن فيمن يستخدمه من النساء.

سوق الأمشاطيين:

بالرغم من أن استخدام الأمشاط وتصفيف الشعر، لم يكن قاصراً على النساء وحدهن؛ إذ شاركهن الرجال في ذلك، إلا أن أصحاب الحرف من الأمشاطيين، كانوا أكثر احتفاء في صناعة هذه الأمشاط، بعالم المرأة، الذي أفردوا له سوقاً خاصة تصنع وتباع فيه هذه الأمشاط، أطلق عليه سوق الأمشاطيين، حيث تفنن أصحاب هذه الحرفة، في عمل أمشاط خاصة للنساء، ترضي أذواقهن مليئة بالزخارف الهندسية والنباتية المميزة للفن الإسلامي، بغض النظر عن طبيعة المادة التي صنعت منها كالعظم والخشب والعاج.

سوق النحاس وشوار العروس:

جهاز العروس، أو شوارها كانت المرأة تنظر إليه بوصفه مخزناً للقيمة، لذا كان اهتمامها شديداً بكثرة الأواني النحاسية فيه، فالنحاس أكثر قدرة على الاحتفاظ بقيمته، مهما تطاولت مدد استخدامه بين الأساسات الخشبية، ومن صنع شوار العروس عرفت القاهرة المملوكية "سوق الكفتيين"؛ أي الذين يطعمون أواني النحاس بمعدني الفضة والذهب، ويصف لنا المؤرخ المقريزي هذا السوق، وولع أهل مصر بالنحاس المكفت بالفضة فيقول: "ويشتمل على عدة حوانيت لعمل الكفت، وهو ما تطعم به أواني النحاس بالذهب والفضة، وكان لهذا الصنف من الأعمال بديار مصر رواج عظيم، وللناس في النحاس المكفت رغبة عظيمة، أدركنا من ذلك شيئاً لا يبلغ وصفه لكثرته، فلا تكاد تخلو دار بالقاهرة ومصر من عدة قطع نحاس مكفت"(3). وكان من أهم اختصاصات هذا السوق شوار العروس ومستلزماتها الضرورية في تأسيس بيتها الجديد، حيث كان قبلة كل فتاة أو امرأة مقبلة على الزواج، وقد رصد لنا المقريزي، في دقة شديدة هذا الشوار الذي كان يصنع في سوق الكفتيين بقوله: "لا بد أن يكون في شورة العروس دكة نحاس مكفت، ويعرف الدكة، بأنها عبارة عن شيء يشبه السرير ويعمل من خشب مطعم بالعاج والأبنوس، أو من خشب مدهون، وفوق الدكة دست طاسات من نحاس أصفر، مكفت بالفضة، وعدة الدست سبع قطع بعضها أصغر من بعض، تبلغ كبراها ما يسع نحو الأردب من القمح، وطول الأكفات التي نقشت بظاهرها من الفضة نحو الثلث ذراع في عرض إصبعين، ومثل ذلك دست أطباق عدتها سبعة، بعضها في جوف بعض، ويفتح أكبرها نحو الذراعين وأكثر، وغير ذلك من المنابر والسرج وأحقاق الأشنان، والطشت والأبريق والمبخرة، فتبلغ قيمة الدكة من النحاس المكفت زيادة على مائتي دينار ذهباً"(3). ويختلف هذا الشوار من عروس إلى أخرى، حسب المستوى والمركز الاجتماعي، فقد ذكر المقريزي أيضاً، أن العروس من بنات الأمراء والوزراء، وأعيان الكتاب وأماثل التجار، تجهز في شورتها، عند بناء الزوج عليها بسبع دكك، دكة من فضة، ودكة من كفت، ودكة من نحاس أبيض، ودكة من خشب مدهون، ودكة من صيني، ودكة من بلورودكة، وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين"(4).

كما كان لا يخلو جهاز العروس، في هذا السوق من جوانب جديدة للابتكار، والتجديد في محتوى الجهاز، حيث أظهر بعض الصناع والحرفيين مهارة كبيرة، في صنع أشياء جديدة، تحتوي من الغرائب والطرائف التي لاقت قبولاً لدى النساء، ومما ذكره المقريزي في ذلك ما كان بشأن، جهاز إحدى بنات السلطان حسن بن محمد بن قلاوون، عندما زفت إلى أحد الأمراء في دولة، الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، فكان شيئاً عظيماً من جملته "دكة من بلور تشتمل على عجائب، منها زير من بلور قد نقش بظاهره، صورة ثابتة على شبه الوحوش والطيور، وقدر هذا الزير ما يسع قربة ماء"(5).

إكسسوارات نسائية:

وخروجاً عن الحلى الذهبية، التي كان لها سوق الصاغة، الذي لا يزال قائماً إلى اليوم، فقد عرفت المرأة أيضاً في هذا العصر سوقاً خاصاً للإكسسوارات النسائية، المصنوعة من معادن أو مواد أقل قيمة من الذهب والفضة، وكان هذا السوق يقع بشارع بين القصرين، وكان يعرف بسوق القفيصات، وصفه المقريزي بقوله: "معد لجلوس أناس على تخوت تجاه شبابيك القبة المنصورية، وفوق تلك التخوت أقفاص صغار من حديد مشبك فيها، الطرائف من الخواتم والفصوص، وأساور النساء وخلاخيلهن وغير ذلك"(6). وقد كان لهذه الإكسسوارات التي زخر بها هذا السوق وظيفتان، إحداهما جمالية حيث أقبلت النساء في الذهاب إليه رغبةً في التزين والتجمل بأشياء ومنتجات جديدة، ترضي ذوق المرأة بأشكالها المتعددة، وأنواعها المختلفة، ووظيفة أخرى وقائية، فالذهنية الشعبية، خاصة في عالم النساء، تعتقد من قديم الزمان، أن هذه الإكسسوارات بما تحويه من خشخشة ورنين ولمعان وبريق، تصرف أعين النظر والأذى، وتقف درعاً وقائياً ضد التمائم والقوى السحرية، والنحس والشؤم، وتحمي من الشياطين والجن، لذا أكثر النساء من ارتداها، رغبة في التحصن من الشرور، ووقاية من الحسد.

 


الهوامش: (1)  د/ أحمد الصاوي، المتحف المجهول، مجلة الشاهد، العدد 79، مارس 1992م. (2) أسواق مصر في عهد سلاطين المماليك، د/ قاسم عبده قاسم، ص: 15، الناشر الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر. (3) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية، الجزء الثاني، ص: 105، الناشر دار صادر بيروت. (4) المصدر السابق. (5) نفس المصدر. (6)الخطط المقريزية، ص: 97.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها