في مُحاكمة سقراط!

محمد ياسر منصور


ولادة سقراط وبعض ملامح شخصيته

وُلِدَ سقراط سنة (470) ق.م في بيت متواضع بضاحية من ضواحي (أثينا)، من والدين رقيقي الحال. وكان أبوه نَحَّاتاً، أمَّا أُمّه القابلة (المُولِّدة)، فكانت مَوضع فَخر ابنها. وطالما أشارَ إليها سقراط في أحاديثه بقوله إنَّ مِهنته هو أيضاً توليد الأفكار في عُقول سامعيه وأذهان مُحدِّثيه.

كان سقراط رجلاً طريف المَنظر له صَلعة مرتفعة كبيرة، ووجه صغير، وأَنف مستدير مقلوب، ولِحيَة مُرسَلة مُمَوَّجة تبدو كأنها لا تَمتُّ إلى وجهه الظريف بسبب. وكانت دَمامته مَوضع التندُّر والفكاهة بين أصدقائه، وكان هو يُساعدهم على الاستمتاع بالسخرية منه. كان رجلاً فقيراً أقرب ما يكون إلى عاطِل مُتسكِّع، وكانت مهنته قَطع الأحجار، أو نَحت الدرجات الحجرية. ولكنه لم يكن يشتغل إلاَّ ليكسب ما يكفي ليُقيم أَوَد زوجته وثلاثة أبناء. كان يُفضِّل الكلام على العمل. ولمَّا كانت زوجته امرأة لا تكفّ عن الشكوى، وذات لِسان سَليط كسوط راعي البقر، فقد كان أَحبّ شيء إليه هو الابتعاد عن البيت بِقَدر الإمكان.

كان يستيقظ قبل الفجر، ويتناول إفطاراً سريعاً مُكوَّناً من الخبر المَغموس بالنبيذ، ثم يرتدي جلبابه، ويُلقي عليه بِدِثاره، ويمضي باحثاً عن دكَّان أو مَعبد أو بيت صديق أو حَمَّام عام، أو مُجرَّد ركن مألوف من الشارع حيث يستطيع أن يبدأ المناقشة والجَدَل. وكانت المدينة التي يعيش فيها غارقة كلَّها في ألوان من المناقشات إنها (أثينا). لم يكن سقراط طريف المَنظر فَحسب، بل كان طريفاً في آرائه وتصرّفاته، وفي إصراره الطبيعي العجيب على التمسُّك بها. وحَدَث أن سألَ أحد أصدقائه الكاهِنَة الكبيرة في مَعبد دلفي عن أَعقَل رجل في أثينا، ولَشَدّ ما كانت دهشته حين ذَكرَت له اسم هذا المتسكِّع سقراط. وعَلَّقَ سقراط على هذا بقوله: لقد اختارتني الكاهِنَة الكبيرة كأعقل رجل في أثينا لأنِّي الوحيد الذي يعرف أنه لا يعرف شيئاً. وكان تواضعه هذا، المَقرون بالذكاء والمَكر، يُساعده إلى حَدّ كبير في المناقشات. بل كان في الواقع يعطيه نوعاً من "المصيبة" كأن يتظاهر أنه -شخصياً- لا يعرف الإجابات ثم يروح يدقّ الناس بالأسئلة، كما يفعل وكيل النيابة، ويستدرجهم إلى التسليم العجيب بآرائه. كان سقراط رائد الفكر العميق الأول. كان يسير في شوارع أثينا يُعلِّم الناس المَنطق والحِكمة. وكان تأثيره في عقول الناس -دون أن يكتب كلمة واحدة– أقوى من تأثير آلاف الكتب.

لقد كان فلاسفة الإغريق –قبل سقراط بأجيال ثلاثة– قد دَرَسوا الطبيعة والنجوم، ووضعوا المبادئ الأولى لما نُسمِّيه "العِلم" الآن. وقد حَوَّل سقراط طرائقهم العِلمية إلى دراسة لِفَنّ الحياة. وفي عَهده كانت الثقافة الإغريقية -مع النفوذ الإغريقي- تمتدّ من روسيا إلى إسبانيا. كما كانت البحرية الإغريقية تُسيطر على البحر الأبيض المتوسط من أقصاه إلى أقصاه.. وكانت بلاد الإغريق بزعامة المدينة التجارية العظيمة أثينا قد هَزمَت منذ عهد قصير قوَّات الفُرس. وإلى أثينا هذه كانت تتزاحم المَواكب من كل أنحاء العالم، مَواكب الفنَّانين والشعراء والعلماء والفلاسفة والطلاب والمُدرِّسين، وكان الأثرياء يُرسِلون أبناءهم –من أماكن بعيدة مثل جزيرة صقلية- ليسيروا وراء سقراط ويُنصِتوا إلى مناقشاته الفَذَّة. وكان الرجل العجوز يرفض أن يتقاضى أَجراً على تعاليمه.

إن آراء سقراط في الحياة تُعتبر -بعد ألفي عام من عَهده- المَنبع الأساسي للفلسفة. وإن جميع المدارس الفلسفية الكبرى التي نشأت في بلاد الإغريق، وفي الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك تَعتبر نفسها مُنحدرةً عنه. وكان أفلاطون تلميذه، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون. وعندما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، وَجدَت الجوّ المناسب مُهيّاً لها. وقد امتزجت بمبادئها آراء سقراط، بأن الحياة الطيِّبة هي الحياة القائمة على الحِكمة والعَقل. ولَعلَّ تعاليم سقراط ما كانت لِتترك في العالَم هذا الأثر العميق لو لم يستشهد هو في سبيلها. وإنه ليبدو عجيباً أن يُحكَم بإعدام رجل لأنه يُقدِّم تعريفات عامة. ومع ذلك فأنت لن تُدهَش حين تعلم مدى التأثير الذي أَحدَثَته هذه التعاليم الجديدة في النُّفوس. وكان سقراط يبدو لتلاميذه الشبَّان المُحدَثين أبسط الناس وأكثرهم وَداعَة. أمَّا في نَظَر الآلاف من العَجائز المحافظين فكان يبدو مجنوناً متعصِّباً. وقد وُجِّهَت إليه تُهمتان رسميَّتان: أنه أولاً لا يُؤمن بآلهة البلاد المُعترَف بها، وثانياً يُفسِد الشَّباب.

لم يعتكف سقراط في بُرجٍ عاجي أو يترفَّع عن الشعب، بل كُنتَ تراه في الأسواق والمَجامع، في الهيكل أو في ساحات القتال، في قصور الأثرياء وأكواخ الفقراء، فَالتفَّ حَوله رَهط من خيرة شبَّان أثينا، تَتلمذوا على يديه، يُعلِّمهم الحِكمة ويحثُّهم على معرفة الحقيقة دون أن يأخذ أجراً، كما كان يفعل غيره مِمَّن أَثرى من وراء مِهنته.

كان سقراط يُؤمن إيماناً عميقاً بأنه إنما يقوم بدعوة إلهيِّة أَلقَتها على كاهله الآلهة. وكان لِفرط تواضعه يقول بعد أن يَئِسَ من العثور على المَعرفة والعَارفين أن جميع مَن في أثينا جاهلون، وهو أيضاً جاهِل، ولكنه يعرف أنه جاهِل، أمَّا أَهل أثينا فيجهلون أنهم جاهلون. ولكن أنَّى لهؤلاء المُتجرين بالعالم أن يتركوا لسقراط المَجال حتى يكشف عن سَوءاتِهم ويُدلِّل على جَهلهم؟ فسرعان ما دَبَّروا المكائد، وقَدَّموه للمحاكمة بتهمة تَجريح الشُّعور الديني، والخروج على تقاليد أثينا، والدعوة إلى مبادئ ونظريات جديدة اعتبروها مُفسِدة للعقول ومُضلِّلة للشباب. وحُوكِمَ زُوراً وبُهتاناً، ووقف أمام قُضاته الخمسمائة الذين انتُخبوا من عامة الشعب بالاقتراع وجُعِلوا مُحكِّمين في أعظم دعوى أُقيمت في تاريخ العالَم. وهُم عَلاوةً على جَهلهم المُطبِق، باعوا ضَمائرهم لِذَوي الأغراض من أهل أثينا وداسوها بأقدامهم قبل وُلوج ساحة المحاكمة والقَبض على ميزان العَدل والقسطاس.

سقراط أمام المحكمة

في عام (399) ق.م وأمام المحكمة في أثينا، كان شيخ هَرِم في السبعين من عمره، يمثل أمام خمسمائة من القُضاة لمحاكمته بتهمة خطيرة، تهمة المُناداة بآراء جديدة، والدعوة إلى مبادئ ونظريات جديدة، ممَّا عَدَّته الدولة إفساداً للعقول، وخُروجاً على التقاليد، وتَجريحاً للشعور الديني، ودِعاية جريئة تُهدّد النظام العام.

لم يكن ذلك الشيخ الهَرِم سوى سقراط، المعلِّم الأول، الرجل الذي أدَّى أَجَلّ الخدمات للدولة في كثير من مَناصِبها.

جَرَت محاكمة سقراط في وقتٍ عصيب، فقد كانت تغمر البلاد موجة من الثورات والقَلاقِل بسبب عهد الأوليجارشية (نظام الطغيان)، وانتصار الديمقراطية الأثينية. وكانت أثينا بوجه خاص تُعاني يومئذٍ الكثير من الأزمات الخطيرة، السياسية منها والاجتماعية، حتى دّبَّ الفَزع في نفوس أهلها فَهَجروها إلى جهات أخرى، وعَمَّت الفوضى والمؤامرت بحيث تَغيَّر الدستور أربع مرَّات في أقلّ من أربع سنوات، ونُفيَ كثير من الزعماء والقادة، وساءت الحالة الاقتصادية والاجتماعية وانتشرت الفوضى. وقد كان طبيعياً، وهذه حال البلاد أن تظهر الآراء الجديدة. وفي هذا الوقت المُضطرب وُجِّهت إلى سقراط التُّهم التي حُوكِمَ من أجلها.

القضاء عند الإغريق

وقبل المُضيّ في تفصيلات المحاكمة، نُورِد هنا كلمة عن نظام القضاء الإغريقي في ذلك الوقت. فلم تكن للقُضاة هيئة ثابتة تُمثِّلهم، أو يجري اختيارهم من طبقة معيَّنة أو بشروط محدَّدة. كانت هناك قوانين وَضعيّة، ولكن لم توجد الهيئة القضائية الثابتة التي تُحافظ عليها. ففي أثينا مَثَلاً كان لكل مواطن لا تقلّ سنّه عن الثلاثين حقّ ترشيح نفسه لانتخابات القُضاة، وكان الشعب ينتخب سنوياً، وبطريقة الاقتراع، ستة آلاف من القُضاة يُمثِّلون الهيئة القضائية، ويُقسَّمون لِجاناً تختصّ كل منها بالنَّظر في نوع معيَّن من القضايا. كان عدد القضاة في محكمة سقراط خمسمائة. وكان لكل شخص لا يقلّ عمره عن خمس وثلاثين سنة من أفراد الشعب حَقّ إبداء رأيه أثناء النَّظر في القضية، على أنَّ العدالة لم تكن مكفولة تماماً في معظم القضايا؛ لأن القُضاة كانوا يجهلون القانون وكانت الجلسة أشبه ما تكون باجتماع شعبي، وكان جمهور الحاضرين يتأثَّر بالأهواء والعواطف والميول. كما كانت تتضارب الآراء والغايات.

نظام المحاكمة

حينما بُدِئَ بمحاكمة سقراط، تَسلَّمَ كل قاضٍ لوحتين من البرونز، ترمز إحداهما إلى الإدانة، والأخرى إلى البَراءة. وعند أخذ الأصوات كان القاضي يُقدِّم اللوحة التي تُعبِّر عن صوته، وأَقسمَ كل قاضٍ اليمين الآتية:

"يجب عليَّ أن أُعطي صَوتي طبقاً للقوانين والمراسيم المشروعة؛ أي قوانين الشعب الأثيني، وإذا لم يكن ثمَّة تشريع تنطوي تحته الجريمة التي تُنظَر أمامنا أو يُنَصّ عليها في القوانين، فينبغي أن أتوخَّى منتهى العدالة. وأتعهَّد بألاَّ أخضع لتأثير أي شخص أو نفوذه، كما يجب أن أُعطي صَوتي في المسائل المعروضة على المحكمة فقط. وأتعهَّد بأن أستمع في كل يقظة وانتباه إلى المدَّعي العام والشهود ودفاع المتَّهم.. إنني أُقسم على ذلك بالآلهة زيوس، وأبولو، وديميتر؛ لأنني إذا نفَّذت هذا اليمين بحذافيره، فستطول أيام حياتي على الأرض، أمَّا إذا حَنَثت بها فسوف تحلّ اللعنة عليَّ وعلى أفراد أسرتي جميعاً".

وكانت العادة قد جَرَت بأن تُوضَع وثائق القضية وأدلَّة الاتِّهام في صندوق يُختَم بالشَّمع، ويُقدَّم إلى هيئة المحكمة عند النَّظر في القضية، ولكن لم تكن تُجرى تحقيقات تمهيدية قبل أن تُحال القضية إلى المحكمة المختصَّة، كما هو الحال الآن.

مناقشة المتَّهم

وقف رئيس الجلسة يُوجِّه الاتِّهام إلى سقراط قائلاً: لقد ارتكبتَ يا سقراط آثاماً عظيمة.. فأنتَ لا تُؤمن بالآلهة التي تُؤمِن بها الأمَّة، بل تدعو إلى عبادة جديدة وإلى آلهة أخرى، وإلى فلسفة غربية عجيبة. ولا شكَّ أنك بذلك تُفسِد عقول الشباب، وتُثير عوامل الشكوك والرَّيب في النفوس، وهذه جميعاً جرائم عِقابك عليها الإعدام.

ثم أَدلى الشُّهود بعدئذٍ بأقوالهم، فكانت بين مُؤيِّدة للتهمة، ومُعارِضة لها. وجاء دَور سقراط فوقَفَ يُدافع عن نفسه قائلاً: إنني لا أعصي للآلهة أمراً منذ وُجِتُّ في هذا العالم، وكل ما أفعله أنني أبحث وأتقصَّى الحقائق بالجَدَل والمناقشة مع أي إنسان يبدو لي أنه عاقل حكيم. وإذا خالَفَني في رأي ما، بسبب جَهله مَثلاً فإنني أعمد -بطريقة غير مباشرة لا تمسّ شُعوره- إلى إيضاح خَطئه، والتمشِّي معه في الأخذ والرَّد والمناقشة مُدعِماً أفكاري بالأدلَّة والبراهين الملموسة حتى يقتنع بوجهة نظري ويشعر هو بِضَعف حُجَّته، فَوقتي يستغرق هذا العمل كله؛ وإذن فليس لي فيه متَّسع للاهتمام بالمسائل العامة أو الخاصة، واعلموا أنني في فَقر مُدقِع بِسَبب واحد: ذلك أنني مُخلِص طَيِّع للآلهة. وهنا أخذ سقراط يُجادل قُضاته بما عُرِفَ عنه من أساليب الاستدلال البارعة، حتى أَوقعَهم في حَرَجٍ شديد، فَظَهروا أمام العَيان على حقيقتهم الواضحة من الجَهالة، ولم يقووا على إقناعه أو يُبرهنوا على صحّة اتِّهامه. فاندفع سقراط حينئذٍ بأسلوب خطابي رائع غير عابِئ ولا مُكترِث بالمصيرِ الذي ينتظره، ومضى يتحدَّث إليهم، لا على أنه مُتَّهم مُهدَّد بالموت بل على أنه قاضٍ مُستنير، فَدافَع عن الحق والحرية، ولم يَشأ أن يشتري خَلاصَه وبَراءَته بالخنوع والاستكانة، أو الكَفّ عن دعايته الجديدة، حتى إذا فَرَغ من كلامه قال له رئيس الجَلسة: لو أنَّك أَدليتَ لي وحدي بآرائك هذه لَعفوتُ عنكَ، ونحن جميعاً على استعداد لِلعَفو عنك إذا تَعهدتَّ ألاَّ تُنادي بعد اليوم بهذه الآراء والفلسفة الجديدة، وتمتنع عن نَشرها بجميع الوسائل الممكنة لأنه لو قَبضنا عليكَ بعدئذٍ بهذه التُّهمة فَسنحكُم عليك بالإعدام قَطعاً.

الموقف الصلب

سقراط: إذا كان هذا ما تشترطونه؛ فإني أقول لكم يا أبناء أثينا إنني أُجلِّكم وأحبُّكم ولكنني أُطيع الآلهة قبل كل شيء، وأُوثِرُ دائماً أن أُطيعها على أن أُطيعكم أنتم، وأخضع لها على أن أخضع لكم أنتم أيضاً. ومادامَ فِيَّ عِرقُ ينبض، ونَفَسٌ يتردَّد وشُعورٌ بالقوَّة على العمل فلن أنقطع عن تعليم الفلسفة. ومضى فقال: إن الدولة عاجزة عن مُسايرة التقدم، ولهذا بَعثَت بي الآلهة رسولاً يُحرِّك هذه الدولة، ويَحثُّها على مُجاراة التيارات الجديدة، التي تهدف إلى الرقيّ في جميع مرافق الحياة. إن رسالتي سامية، وغايتي نبيلة، ولستُ أبتغي من ورائها إلاَّ خَير الشعب الأثيني فقط، إنني القوَّة الموجَّهة إلى الإصلاح؛ وإني أستمدُّ نشاطي وحيويَّتي من الآلهة.

رئيس الجلسة: أنت يا سقراط كثيراً ما أَحجمتَ عن إظهار احترامك وطاعتك للأشياء المقدَّسة.

سقراط: ما حيلتي وذلك ما تَعوَّدته منذ طفولتي. إني أفعل هذا بإلهام عظيم لم يكن يُوحي إليَّ في يوم من الأيام أن أفعل ما تريدون أنتم.

الرئيس: أراكَ يا سقراط لا تحاول أن تلتمس الرحمة والغفران من قُضاتك الجالسين في هذا المكان، والذين جاءوا لا لِمجرَّد تمثيل القضاء، بل لِلفَصل في الاتِّهام والحُكم في القضية.

سقراط: إنِّي أومن بالآلهة ولكن بغير الطريقة التي يُؤمن بها المواطنون، أو التي يعتقد بها أولئك الذين يُوجِّهون إليَّ الاتهام الآن؛ إنني من أجل الآلهة ومن أجلكم أَدلَيتُ بدفاعي هذا لكي تستقيم الأمور ويتقرَّر ما في مصلحتكم ومصلحتي أنا أيضاً. على هذا النحو من الجُرأة والمَنطق السليم، كان سقراط يُدافع عن نفسه، غير مُكترث بشيء بل كان كلَّما حاولَ أحد القُضاة أو الحاضرين أن يتكلَّم يصيح فيه قائلاً: لا تُقاطعني.. دَعني أُواصل الكلام.

كان جَريئاً، فلم يُحاول أن يَنفي عن نفسه ما نُسِبَ إليه وخاصةً ما قيلَ من أنه كان يُفسِد عقول الشباب بل لَجأ كعادته إلى السخرية والتهكُّم. ولم يَشأ أن يستشهد بأحد من الناس في تعزيز دفاعه، أو تأييد وُجهات نظره وآرائه.

البحث عن عقوبة

وانتهت المحاكمة، وعند أخذ الأصوات أَعطى (281) قاضياً أصواتهم بإدانة سقراط، ولَمَّا جاءَ دَور البحث عن العقوبة التي يُقضى بها على المُتَّهم اقترحَ البعض إعدامه تَخلُّصاً منه؛ لأنه لو بَقيَ حَيَّاً فلن يَكفَّ عن الدعاية لمبادئه وتعاليمه الجديدة. وكان العُرف قد جرى على أنه يجوز للمتَّهم أن يقترح العقوبة التي يريدها لنفسه على أن للقُضاة حَقّ قبولها أو تعديلها أو رَفضها.

وقد اقترحَ سقراط أن يدفع غرامة كبيرة فينتهي الإشكال ويُطلَق سَراحه، ولكن حَدَث بعد ذلك أن انضمَّ ثمانون قاضياً إلى زملائهم الذين قرَّروا الإدانة، فكان ذلك سبباً في إصدار الحُكم عليه بالإعدام بأغلبية كبيرة.

وهنا تكلَّم سقراط مرَّةً أخرى، تكلَّمَ كَقاضٍ أمام قُضاته، لم يُوجِّه إليهم لَوماً أو تجريحاً أو انتقاداً، بل استسلمَ لما يقضون به، وأقنعَتهُ حكمته المقدَّسة بأن ما يحدث له يكون صالحاً له. قالَ لِلقُضاة وللشعب: "يُخطِئ الذين يظنُّون أن الموت شَرّ". ثم طلبَ إلى الحاضرين جميعاً ألاَّ يتوانوا عن مُعاقبة أولاده من بَعده إذا رأوهم يهتمُّون بالغِنى والثَّراء أكثر من اهتمامهم بالفضائل والحِكمة، ولا عَن تأنبيهم بشدَّة إذا اعتقدوا يوماً ما أن لهم قيمة وأهمية في الحياة أو نَسبوا إلى أنفسهم فَضلاً أو صِفةً نبيلة، أو حاولوا أن يسموا على أقرانهم.

ثم كانت آخر عباراته لهم: "لأنكم لو فَعلتُم ذلك فإننا –أي أولادي وأنا– نعتقد أنكم تَوخَيتم وَجه العدالة وأيَّدتم وناصرتم قضية الحق والحرية. لقد حانَ وقت الفراق، فليذهب كلٌّ مِنَّا إلى سبيله، أنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة. أمَّا أيُّ السبيلين أفضل من الآخر فذلك ما تعلمه الآلهة وحدها".

ورُفِعَت الجَلسة، وسِيقَ سقراط إلى السجن حيث سُمِحَ له أن يتمتَّع بالحرية، فكان يُقابِل أصدقاءه، ويتحدث إليهم ويناقشهم كعادته كأن لم يكن شيء ممَّا كان، وكأنه لا يَأبَه بالموت الذي كان قد بدأ يحومُ من حَوله.

اقترحَ عليه أصدقاؤه أن يُدبِّروا له خُطّة الفَرار ولكنه رفضَ في إِباء قائلاً: "قد يقبل الإنسان أن يتنحَّى عن عمله، أو يتنازل عن رتبته، ولكن عليه أن يعلم أنه إذا كان في ساحة القتال أو في ساحة القضاء فلا بدَّ أن يُنفِّذ قوانين الدولة وأحكامها وتعليماتها حتى لا تتغيَّر أفكار الناس وتضعف هَيبة الدولة والقوانين. وإذا لُذتُ أنا بالفَرار فسوف تضطرب الدولة وأنا لا أريد لها أن تضطرب، كما أنني لا أُحب الإخلال بالنظام أو القانون.

وما زال سقراط في سجنه حتى تُلِيَ عليه الحُكم بإعدامه بِشُرب السُّم، فَتجرَّعه في اليوم الثالث عشر ومَات.

وهكذا انتهت حياة رجل أَجمعَ الكتَّابُ والمؤرِّخون على أنه كان أعظم رجال عصره، قال المؤرِّخ الألماني المعروف (هارناك) في كتابه "سقراط وتعاليمه": "إن ما يجب أن نُعلِّمه للأجيال القادمة أن سقراط كان المعلِّم الأمثل، والباحِث المُدقِّق الذي لا تَكلّ عزيمته عن الحقّ. وهو سيِّد الطريقة الاستدلالية في أسمى درجاتها. إنه لم يَمُت، وإنما هو حَيٌّ في نظرياته وآرائه وطُرقه التي لا شكَّ في أنها أَفادت العالَم بأسرهِ". وقال (أفلاطون) تلميذه المخلص: "هذه هي المأساة الأليمة.. لقد ماتَ صديقنا النبيل سقراط، المُعلِّم الأمثَل الذي كان أكثر الناس حِكمةً وعَدلاً، بل كان أعظم رجل في عصره".

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها