القصر الغارق مَعلمٌ تراثيٌّ عريق، وتحفةٌ معمارية فريدة، تتزين بها مدينة إسطنبول التركية، مدينة السحر والجمال، حيث يختزن بداخله مسيرة حافلة بالأحداث والحكايات والأسرار الدفينة، بدءاً بسحر الطبيعة، وصولاً إلى هيبة المكان، ومروراً بإنجازات تاريخية مذهلة، فهو يقع تحت سطح الأرض، ويتم الدخول إليه من بناية صغيرة، في غرب ميدان آيا صوفيا الشهير، ولا يمكن للمرء أن يصدق أن بناءً رائعاً بهذا الجمال، يرقد في صمت صامداً عبر أكثر من 15 قرناً من الزمان، ذلك القصر الفريد الذي شيده الإمبراطور الروماني "جوستينيان" في القرن السادس الميلادي، على بعد 150 متراً بالقرب من كنيسته العظيمة "آيا صوفيا" ليكون خزاناً ضخماً، يمد العاصمة الرومانية القسطنطينية، إسطنبول الحالية بالمياه في أوقات الحصار الطويل، الذي كثيراً ما تعرضت له أثناء الحروب، من إعداء الإمبراطورية، حيث أنشئ العديد من خزانات المياه، لمساعدة الرومان على مقاومة الغزاة، والصمود أمام الحصار لفترات طويلة، حيث كان القصر يزود بمصدر سري للمياه، ويضمن وجود الماء به بشكل دائم، ومن هنا عرف القصر بالقصر الغارق.

وصف القصر
ويقع القصر الغارق في منطقة السلطان أحمد، وسط الميدان المطل على مسجد السلطان أحمد، ومتحف آيا صوفيا، وفوقه تماماً ينتصب حجر المليون، الذي يعتبر مقدمة لاعتبار الاتجاهات وفق خط غرينتش، ومنه كان يعرف الشرق من الغرب في التاريخ الغابر، ويمتد القصر على مساحة إجمالية تقدر بحوالي 9800 متر مربع، ويتميز باتساعه وتناسق مبانيه في الشكل والمضمون.. ما إن ينزل الزائر من السلم الصغير المؤدي إليه، حتى تستقبله أنغام الموسيقى الكلاسيكية، ويأتيه الهواء رطباً، ثم يفاجأ الزائر بعدد هائل من الأعمدة الرخامية، تمتد في صفوف عديدة، لتشكل بلاطاً سفلياً رائعاً، وتحيط بهذه الأعمدة المياه من كل جانب، حيث تنعكس على سفحها أضواء متعددة الألوان؛ كأنها شموع مضاءة في جميع أركانه، تغطي المياه حوالي نصف متر من الأرضية، لتظهر كأنها مرمر، ولتشكل بركة كبيرة للسباحة، حيث تصنع في النهاية مع الأعمدة البلورية، ذات الزخارف الدقيقة لوحة معمارية جمالية بديعة. وصفه المؤلف الإيطالي انطونيو دي اميكيس، عندما زار القصر عام 1874م بقوله: عندما أدخل بهو ذلك البناء، وأهبط إلى آخر درجات سلم رطيب مظلم، على ضوء مصباح صغير، حيث المياه المائلة للاخضرار، ينعكس عليها الضوء هنا وهناك ليبدد الظلام، بينما ضوء أحمر ينعكس على الأعمدة فيضيء الجدران، ومعها المياه المنبثقة حول صفوف لا نهائية من الأعمدة، لتشكل في النهاية غابة كثيفة من الأشجار، لم يعرفها أحد من قبل.
كما يعكس الطراز المعماري للقصر الطابعين الأثري والمعماري لعهد الإمبراطور الروماني جوستينيان، الذي اتسمت العمارة في عهده بفخامة البناء وروعة التصميم، وهذا ما يظهر جلياً في الجانب القصي من القصر، حيث ينتصب عمودان يقوم كل منهما على قاعدة لها شكل رأس أحد الآلهة الرومانية، ويلتف حول الرأس ثعبانان، الأول يمتد من أعلى إلى أسفل، والآخر يلتفت جانباً، ولا يعرف بالتحديد إلى الآن أصل هذين الشكلين، أو اسمهما، لكنهما ظلاّ هاهنا أكثر من 15 قرناً من الزمن لا يؤرقهما أحد.

قَصرُ الأساطير والأمنِيّات
يرتاد الكثير من الزائرين القصر لمشاهدة المعالم الأكثر إثارة في أحضان مدينة إسطنبول، في قلب المدينة القديمة، حيث يوجد في نهاية القصر عمود ماديوسا الأسطوري، الذي لقب بعمود الشر، وهو عبارة عن رأس مقلوب له نظرات حادة، ورأس ماديوسا في الأساطير اليونانية، تحمل دلالة على الموت والفناء، فهي شخصية مشهورة لامرأة تحمل شعراً من الثعابين، وتقتل الرجال في الحال، ومن ينظر إليها تحيله إلى حجارة، وكون رأس ماديوسا موضوعاً بالمقلوب دلالة إضافية إلى دورها الشنيع في الشر، والتسبب في قلب حياة البشر رأساً على عقب، وإلى الجوار من هذا العمود يوجد عمود الأمنيات، حيث يقف الزائر أمامه، ويلقي بقطع من النقود في مياهه، ثم يذكر أمنيته الخاصة، على نحو ما يفعل الزائرون أمام نافورة الأمنيات بروما، كما يحيط بالقصر العديد من الحكايات الطريفة والغامضة، من أبرزها حكاية أن هناك سمكة هائلة الحجم تسكن في أعماق المياه الداكنة، وتجوبها ليلاً، كما يقال إن قاع هذه المياه يتسع لحوالي سِتّ عشرة سفينة ضخمة.

خروج القصر للنور من جديد
عانى القصر الغارق من الصمت والتجاهل طيلة 15 قرناً من الزمن، حتى تنبهت له أنظار المسؤولين المحليين بمدينة إسطنبول، ليخرج القصر إلى دائرة الضوء، حيث امتدت يد الإصلاح والترميم إلى أعمدته، التي يبلغ عددها 456 عموداً، يرتفع كل منها 27 قدماً، تحيطها إطارات حديدية ذات أسلوب بيزنطي بديع، حيث يؤكد أسلوب بناء القصر أنه بني ليبقى أبداً، فجدرانه يبلغ سمكها اثني عشر قدماً، تتصل جيداً عند موضع التقائها لضمان عدم تسرب المياه، التي يتغير منسوبها من فصل لآخر، وتتم إزالة الرواسب الطينية على فترات متقاربة، لكن أكبر عملية تنظيف جرت في عام 1987م، وهو العام الذي فتح فيه القصر للزائرين، كما أعقب هذه العملية العديد من أعمال التجديد منها إنشاء عدد من الجسور على شكل ممرات، تمتد بارتفاع خمسة أقدام فوق المياه، تساعد السائح على التجوال بالمكان بدلاً من استخدام القارب الخشبي، الذي كان قديماً الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الجوانب المترامية للقصر الغارق، الذي هو أحد ثلاثة خزانات للمياه بقيت من العصر البيزنطي، ولم يكتشف منها إلا هذا القصر، بينما الخزانان الآخران ما زالا أسفل المدينة لم يكتشفا بعد، وربما يقود اكتشافهما إلى تحفتين معمارتين تماثل في روعتهما جمال القصر الغارق.

في عالم الأدب
لقد عرف القصر الغارق طريقه إلى عالم الأدب، خاصة الإبداع الروائي، حيث كان مكاناً لرواية الجحيم، للكاتب الأمريكي دان برون، الذي عرف برواياته الفريدة والشيقة، مثل شفرة دافنشي، وملائكة وشياطين، والرمز المفقود، ثم أخيراً رواية الجحيم هذه الرواية التي تدور بعض أحداثها داخل إحدى خزانات القصر الغارق، وتقوم الفكرة المحورية للرواية أن البشرية أمامها تحدٍّ خطير، يتمثل في هذا العدد الهائل للجنس البشرى، ولهذا يقوم عالم شرير باختراع فيروس قاتل يقضي على البشرية، بشكل جزئي، مما يعيد التوزان لكوكب الأرض، وقد كانت نقطة انطلاق هذا الفيروس، عبر تسميم المياه في إحدى خزانات القصر الغارق، وبالتالي يتسمم أهل إسطنبول، ومن ثم ينتقل الوباء الرهيب إلى بقية البشر. ومنذ خروج الرواية للنور في عام 2013م يتدفق إلى القصر الغارق عدد هائل من السياح سنوياً، لمشاهدة أماكن وقوع بعض أحداث الرواية، والتمتع برؤية المعلم الأكثر إثارة، ولكن في هذه المرة بباطن الأرض.
المصادر: مجلة الهلال، قصر الأمنيات الغارق، عدد ديسمبر، عام 1990. ┊ جريدة الحياة، العدد الصادر بتاريخ 18 يناير، عام 2017م. ┊ اليوم السابع، العدد الصادر بتاريخ 25 مايو عام 2013م. ┊ مصادر إلكترونية. ┊ موقع دينا الوطن، الحوض الغائر تحت الأرض، بقلم د. نزار نبيل الحرباوي، بتاريخ 31/ 3 / 2015. ┊ موقع تركيا بوست.