لفناني الفرجة الشعبية، و"صُنـّاعها" تاريخ طويل، لصيق بالوجدان والذاكرة الشعبية العربية المشتركة. تاريخ ضارب في عمق الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية. وهم -بإبداعهم الفني الفطري الأصيل- فرق وطوائف، تخلق عبر المؤثرات السمعية البصرية والحركية روح "الانفراج"، والفرح والسعادة في نفوس مشاهديهم.. حسبما يميز عطاءهم الفني، وإبداعهم الشعبي.. درج فنانو الفرجة الشعبية، وصناعها، على تصنيف أنفسهم في شكل طوائف كالتالي: الأدباتية، القصصيون، المداحون، المنشدون، الدراويش (المتصوفة)، الآلاتية، الصهبجية، العوالم...
الأدباتية
فنّ أصيل من الفنون الشعبية يبدعه فنانون صعاليك جوالون يستجدون الناس في الطرقات وفي المقاهي والساحات، والمسارح. متميزون بـ"غرائبية الملبس، كالمهرجين".. أرضية وألبسة وأصباغ وأغطية رأس ملفتة للأنظار.."قبح جميل". هم جماعة "اثنان أو ثلاثة" يقودهم "شيخ الأدباتية". يتسمون برشاقة الحركة، وبخفة الظل في إلقاء النكات الحريفة المصاغة –غالباً- بالجناس الكامل، أو الزجل الفكاهي. وتعتمد كلماتهم على قلب الأشياء والكلمات، وصرف اللفظ على غير معناه، لتدخل المفارقات اللفظية التي تفجر الضحكات المدوية.. العفوية والتلقائية.
يؤدون عروضهم بشكل جماعي؛ ويطلبون مشاركة المستمعين لهم. فمن جانب "سيكولوجية الفرجة"، فالمشاركة الجماهيرية تحول الجمهور من مجرد متلق سلبي إلى مشارك فعّال فيسقط الحاجز بين الإبداع والتلقي. يؤدون وصلاتهم شعراً، نكاتاً، قفشات، وحكايات ذات إيقاع بالنقر على طبلة صغيرة (الدربكة)، تميزوا بها (تماثل طبلة المسحراتي). يبدأ "شيخهم" بالنقر وبالمطلع، ومن ثم يردد الباقون خلفه.
يُعد "الأدباتي" رائداً من رواد "الأدب/ الكاريكتور الساخر"، والكوميديا التي تعتمد على إبراز المثالب المتنوعة وتضخيمها؛ تحت عدسات النقد والسخرية. تدور موضوعاتهم في فلك الموضوعات الكوميدية المختلفة، كمشاكسات الحماة مع زوج الابنة، ومعارك الضرائر؛ والزوج المغفل الذي يظن نفسه المستبد في بيته، وكل أفراد الأسرة يتلاعبون به. من أغانيهم التي ما زالت تتردد على الشفاه:
أنا الأديب الأدباتي باشتكي منك ياحماتي
أنا الأديب الأدباتي روحي يخرب بيتك ياحماتي
أنا الأديب الأدباتي طهقتيني يا مراتي.
لم يتم النظر إلى فن الأدباتية، نظرة استخفاف أو ازدراء فهم أقرب إلى" المصلحين" منهم إلى "المهرجين". لذا حرص كثير من أدباء وزجالي مصر (كالشيخ عبدالله النديم، وبيرم التونسي، وحسين شفيق المصري، ويعقوب صنوع) على تغذية الأدباتية بأزجالهم. فمنها معارضة القصائد المشهورة، بطريقة مقلوبة، ففي معارضة قصيدة "أبي نواس":
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي هي الداء
يقول الزجال المرحوم "حسين شفيق":
من كف صراف بنك لا يجود بها
إلا لمن باسمه في البنك إمضاء
من اللواتي عليها رسم مئذنة
تعود بها إلى العيان عفياء
كان بعض الناس يستأجرون الأدباتيه للسخرية من خصومهم؛ فيبدأون إبداع شعرهم بشكل تلقائي مباشرة؛ لا يجمعون معلومات عن المستهدف إلا في نفس وقت العرض؛ مما يدل على موهبة فطرية أصيلة لا تخذلهم أبداً.
يقول الأستاذ "أحمد تيمور باشا" مؤلف "معجم العامية المصرية": إن هذه الطائفة الهزلية: أقرب إلى الشعراء الهزليين الذين نشأوا في قرية "فودي فير" من قرى "نورمانديا" شمالي باريس. كانوا يتغنون بمقطوعات من الشعر قصيرة التفاعيل، وأطلق عليه فيما بعد "بالفودفيل". وقد سماهم تيمور بـ"الأدباتية". لا توجد نماذج (أصيلة لمنتج هذا الفن) إلا ما سجله "عبد الله النديم" في أحد أعداد مجلة "الأستاذ". فقد كان يعتبر نفسه واحداً منهم. ومن الطريف أن مناظرة حصلت بين الشيخ عبدالله النديم، وشيخ الأدباتية، حضرها الآلاف من الناس، وكانت الغلبة للنديم، وهذه بعض المقاطع الشعرية من هذه المناظرة إذ يقول شيخ الأدباتية:
القصد منك يا نديمتا
تعمل زجل هيله بيله
إلا انت دلوقت غريمنا
قصدي أصرفك بالقلقيلة
وإن كنت تجهل تغريمنا
اسال عنا ..أوعا تعيب في تكليمنا
وحذر منا.. أحسن أوديك لعظيمنا
يشيلك الفين شيله
يرد عليه الشيخ عبدالله النديم قائلاً:
انت صغار لسه نونو
وفي الزجل منتش مجدع
اتبع نديم تلقى فنونو
تاتيك من المعنى الأبدع
أما عظيمك وضونو .. يأكل نفسه
وإن كان يعارض بمجونو.. يطلب عكسه
لان فني وشجونو
لكل متعنتظ يردع.
القصصيون
القصصيون (الحكاؤون، الرواة) ممثلون شعبيون تلقائيون يرتادون المقاهي (التي غالباً ما كان بها مصاطب مستطيلة)، ويتسامرون –شفهياً- في المناسبات والأعياد. يتبعهم الناس أينما ذهبوا مستمتعين بإبداعاتهم في الحكي عن قصص الحروب، وعبرها، وتمثل شجاعة الأبطال، وقوتهم. يبدأ الحكاء أو القصاص بمناوشة أحد زبائن المقهى، فيرد عليه الأخير بمثلها.. مما يعلم منه أنه يوجد " قصاص" بالمقهى، فيجتمع الناس.
المداحون
أهل المدائح.. لهم شأن واحترام كبير في نفوس الناس. يجوبون -بأشعارهم وموسيقاهم الشعبية- القرى والأرياف، كأحد أشكال الدراما الشعبية في وطننا العربي، يمدحون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقصون على العامة قصص الأنبياء السابقين، والصحابة. ينيرون عقول مشاهديهم، ويثيرون لديهم حالة من "الوجد الديني"، و"التوحد" مع الإيقاع النغمي. يكفي ما يُشاهد من "توحد" الناس مع قصة النبي "أيوب" عليه السلام، وصبره على البلاء، فإذا بالدموع تنهمر من مآقي المتجمعين حول هؤلاء المداحين. ما زالوا يسيرون على الطرقات، يبغون القصيدة برغيف خبز أو نصفه أو شيء يشبع من جوع، ويروي من عطش. لا يبغون من متاع الدنيا إلا الستر.
على جانب آخر.. ثمة "نماذج بارزة"، و"علامات فارقة" تقف على سدة طائفة المداحين. صاحب "الملحمة النبوية: أو "مداح الرسول" كما كان يحب أن يُنادى. المطرب الذي سلك طريق الزهد وسخّر الفن ليكون طريق دعوة للفضيلة. فنان صاحب قدرات متعددة تتنوع بين الغناء البدوي والشعبي والديني، وكان له شرف السبق في ألوان من الغناء اشتهر بها ثم تبعه المريدون.
الفنان "محمد مرسي عبد اللطيف" أو "محمد الكحلاوي" (1912- 1982م) الذي يُعَدّ واحدًا من أشهر من مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم بين مطربي عصره. مثل الغناء الديني حوالي نصف إنتاجه الفني. فقد لحّن أكثر من 600 لحن ديني من مجمل إنتاجه الذي قارب 1200 لحن. فقد قدم "سيرة سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم، و"سيرة السيد المسيح"، و"قصة حياة سيدنا إبراهيم الخليل". ولمع الكحلاوى في الغناء الديني ولاقت أغانيه حفاوة عند جمهوره، وأصبحت تذاع في كل المناسبات الدينية، ومن أشهر أغانيه (لأجل النبي).
لا يُمكن الحديث عن "المداحين الشعبيين" دون الحديث عن "زكريا الحجاوي" (1915ـ 1975م). فزكريا صاحب باع طويل في فن المديح المصري. ليس فقط لأنه قرر أن يلف مصر بحثاً عن المداحين؛ وإنما لأنه قدم مثلاً في كيفية التضحية، من أجل ما يحب، فعاش فقيراً، ومات وحيداً.
جاب " الحجاوي" مصر طولا وعرضاً بحثاً عن كل موهبة تصلح لأداء الفن الشعبي.. مديحاً أو سيرة أو موالا، فاكتشف "خضرة محمد خضر" وتزوجها، وطلقها في احتفال مهيب. واكتشف "فاطمة سرحان"، و"شوقي القناوي"، و"محمد طه"، و"أبو دراع"، و"متقال قناوي". كان صاحب فكرة مسرح السامر والثقافة الجماهيرية. ويعتبر من رواد الكتابة الإذاعية، ورائداً في تقديم السير الشعبية التي أصبحت بفضله من أشكال الفن الإذاعي، وقد بلغت أعماله الإذاعية 60. وهو صاحب أوبريت "أيوب المصري"، وصاحب ملحمة "أمير المؤمنين عمر". كما قدم للتليفزيون العديد من الأعمال منها: سيد درويش، وأدهم الشرقاوي. له دراسات علمية رائدة نشرها في مجلة "الرسالة الجديدة" عن الفن الشعبي المصري. وقد قام الحجاوي بتأسيس عشرات الفرق، وإقامة عشرات السرادقات لمداحين شعبيين من "فاطمة سرحان"، حتى "شوقي القناوي".
يُعد "الشيخ سيد النقشبندي" (1920-1976م) "إمام المداحين". ففي صوته يجد الناس "أنساً روحياً يشعرهم بالرضا".. حالة نادرة من الصفاء والجمال تجتمع في صوته. فما إن تندمج في الإصغاء إليه، حتى تنتشي الروح، وترتقي إلى مدارج من النور والكمال. وعلى الرغم من رحيله منذ عدة سنوات؛ فإن صوت "النقشبندي" ما يزال متربعاً على قائمة المدح والتواشيح والأهازيج والأدعية الدينية في مصر، بل مصر في العالم الإسلامي. فأغلب المصريين يجدون في "مديحه وتواشيحه" ما يشبه الزينات والتعاليق الشعبية في شوارع مصر ومشاهدها الرمضانية البهيجة.. كمدفع الإفطار ومقاهي القاهرة المُعزية.
ثمة لون خاص من فنون المديح.. ظل يلازم أداء فريضة الحج، يسمى "تحنين الحجيج". يُجلب لهذا الغرض مداحاً أو مداحة أو أكثر، ولعل نساء المصريين هن من بدأن هذا اللون من المديح. ويمكن القول بأن الشيخ "عبد الرحيم البرعي" (1923-2005م) أحد أبرز شيوخ الصوفية العاملين في مصر والسودان. من أوائل من أنشد مديحاً خاصاً بالحجيج، أصّل لهذا الفن. ومن أشعاره في تحنين الحجيج والتعبير عن شوقه للزيارة:
يا راحلين إلى منىً بقيادي
شوقتموا يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي
والشوق أقلقني وصوت الحادي
مني السلام مع التحية بلغوا
شوقي الشديد إلى النبي الهادي.
ومن أشهر أناشيد الحجيج أنشودة "خدوني والله معاكم"، فيها:
خدوني والله معاكم.. يازوار النبي
أنا نفسي أزور وياكم.. بالصلاة على النبي
روحين على قوم يا أحبابه.. نستوقف على بابه
وبايدي أمسك شباكه.. ده غرامة مقصدي
خدوني وياكم صحبة.. أزور وياكم الكعبة
وناخد في الروضة دوسة.. ده حياتي ومعبدي
أنا حبي فاض وزمزم.. للنبي الهادي الأعظم
نفسي أشرب من زمزم.. ده غرامي ومقصدي
المنشدون
فنانون جوالون يهيمون على وجوههم بحثاً عن مواعيد وأماكن، وهم على دراية جيدة بتواجد الناس في الموالد. هم يعتمدون صفة التطريب، وحلاوة الصوت، وطلاوته، وقوة تأثيره على المستمعين. بيد أنهم لا يبتكرون ألحاناً جديدة لما ينشدون من أغنيات. فاللحن القديم -المحفوظ عن ظهر قلب من الناس- يعزف، والكلمات تقال في شكل زجلي متجانس في نهايات حروفه.
الدارويش
كثيرون هم أهل الوجد والطرب والغناء و"الفرجة الحركية"، من فلسفتهم أنهم يبغون "الفناء في الغناء". مشتهرون بأنشاد الأوراد، واستعمال الصواري والرايات للإعلان عن أماكن تواجدهم، وتجمعاتهم في الموالد أو الأسواق، أو بجوار أصحاب الحرف والصناعات. يُعدّ "الرقص الصوفي" بأنواعه، من أهم فنونهم. منها القيام بالدوران حول النفس وتأمل "الدراويش" -يرتدون تنانير واسعة- بهدف الوصول إلى "مرحلة الكمال". ويقوم الراقص أو اللفّيف، برفع يده اليمنى إلى الأعلى وخفض اليسرى إلى الأسفل متخففاً من كل شيء.
الآلاتية
"آلاتي" يطلق على كل محترف على إحدى آلات الموسيقى.. يعزف (وغالباً ما يكون مطرباً في آن) موسيقى مُغرقة في الشعبية، أو متطورة حسب الموضات المستحدثة. ويضم "التخت" عدداً من "الآلاتية"، الذين ارتبطت حياة معظمهم مع طائفة "العوالم".. فناً، وزواجاً، ومعيشة، و"نقوطاً".
الصهبجية
رعيل أول للمطربين الشعبيين.. الفرادى والمجتمعين، مغنون يطوفون بالمقاهي ويحيون الأفراح والليالي الملاح، وليالي السمر في بيوت الأغنياء. انتشروا برغم قلة تمكنهم..عزفاً أو آداء للموشحات أو القدود (أغان حلبية صغيرة). تنحصر كل محولاتهم في غناء يتطلب مقدرة خاصة من التجويد (مد الصوت، ومطه). كانوا يدخلون بعض الكلمات البديلة (عن الحي/ الأسرة/ القرية) بدلاً من الكلمات الأصيلة.. يهتاج الناس في استحسانه طالبين المزيد مما يخصهم.
والصهبجية كانوا يشتركون في الأفراح، لا بفرقة واحدة بل فرقتان في العرس الواحد.. ويبقى الجمهور هو الحكم في الإجادة والاستمرار، ومن ثم الأجر الأعلى المُتحصل لأي منهما. بنهاية الحفل.. تنشأ المعارك بين الرابح والخاسر وتنتهي، غالباً، بضحايا في المستشفيات، ومعتدين في مخافر الشرطة.
العوالم
طائفة "العوالم" (مفردها "عالمة")، تختص الواحدة منهن باحتراف الرقص والغناء، وإقامة حفلات الزفاف، أو الطهور أو المناسبات السعيدة. كثيرات من " العوالم" نلن شهرة، وثروة، وعلاقات اجتماعية جراء العمل في هذا "الكار/ الصنعة".
✧✧✧
في الختام: "الفُرجة": مشاهدة ما يُتسلى به، وهي أيضاً: "انكشاف الهّم"، و"الخلاص من الشدة". نوع من الخروج بالمتلقي من حالة شعورية إلى حالة أخرى نتاج تضافر منظومة من الإبداعات الفنية.. إبداعات برع فيها فنانون شعبيون بسطاء أتوا بكل ما هو غريب، وكل غريب مثير للفرجة؛ لأنه يجذب المتلقي ويستوقفه عما عداه؛ ولو للحظة. هكذا شأن الشعوب التي تمتلك عمقاً حضارياً، وتنتج فناً مبدعاً.