"عمار الأمير" الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع

اخترتُ القصّة القصيرةَ جدّاً لأنّها تعتمدُ على الإيحاء المكثّف

حاورته: سعاد زاهر


من بين أصواتٍ كثيرة غاب صداها في العتمة، يبرز صوت القاصِّ السّوريّ عمّار الأمير ليضع القصّة القصيرة في موقعها الأصيل كديوانٍ للعرب في العصر الحديث، القصة التي أصبحت قضيته وأداة توثيقه، ونافذة يطلُ منها على الإنسان في لحظات ضعفه ومقاومته.
 

التقيته مؤخراً في فعالية قدمت من إدلب إلى دمشق، وبدا أن صوته الأدب وحضوره الثقافي يوظف لخدمة الآنية السورية المغمسة بالوجع حد الثمالة. الأمير يكتب كما لو أنّ الذاكرة لا تكفي لحفظ التاريخ بل هي قنابلُ مؤجَّلة، ويؤمن أنّ أسوأَ حبرٍ هو أفضل من أحسن ذاكرة، ويؤمن أيضاً أنّ مَن يحكم هو مَن يروي القصص ويقنع العالم.
 

من إدلب التي تحولت إلى بيتٍ من رماد ونار، أبقى عمار الأدب جذوةً للوعي، وأكدَّ أن الكلمة حين تُقال بصدق، تصير جناحاً للحرية. في هذا اللقاء نغوصُ مع الكاتب لنكشفَ عن فلسفتِه في الكتابة، وتجاربِه الشخصية، وأبرزِ محطاته الأدبية والثقافية.

 


 

 متى بدأتَ رحلتك مع الكتابة؟ وما الذي دفعك إلى اختيار القصّة القصيرة تحديدًا؟

بدأتُ رحلتي في الكتابة مُذ بدأتِ الأفكارُ تخرمشُ عقلي. وساعد قربُ المركز الثقافيّ العربيّ من منزلي لأن أخزّنَ في رأسي آلاف الكتب، وأحياناً القراءةُ تؤدي بشكل أتوماتيكيّ إلى الكتابة؛ إن وجدتِ القدرة والقابليّة.

وسأرُدُّ على سؤالك: كيف بدأت الكتابةَ من خلال سؤالِ طفلي الصغير.

ففي إحدى المرات قال لي: أينَ تعلَّمْتَ الكتابةَ يا أبي؟

فأجبته: على الهواءِ.

سألني والدهشةُ تعلو وجهَه: كيف؟

فأجبته: عندما تلمعُ في رأسي فكرةً أُشهِر إصبعي وأكتب بها على الهواء ما أشاء.

ضحك ضحكته البريئة معتقداً أني أمازحه، فقلت له: أتضحكُ؟

ماذا تفعلُ إذاً إن علمْتَ أنّي كنْتُ أجعلُ مِنْ يدي ممحاةً أمسحُ بها أيضاً.

اخترتُ القصّة القصيرةَ جداً بداية الثورة السورية؛ لأنها تعتمد على الإيحاء المكثف والنزعة الموجزة والرمزية غير المباشرة، ثم كتبت القصة القصيرة التي تعتبر من أكثر الأدوات قوة في التأثير في المجتمع لإحداث تغيير فيه، لأنه يسهل تذكّر القصص التي تحرّك المشاعر لدى المصغي، ما يعزّز احتمال تذكُّرِها.

ثُمَّ كتبتُ في أدب الأطفال والتّراثِ.
 

 ما الكتبُ التي قمتَ بتأليفها ودورُ النشر التي طبعتَها؟

- صدر كتابي الأوّلُ بعنوان "شتيمةٌ موصوفةٌ" عن دارِ ميسلونَ للنشرِ والتوزيع في مدينة غازي عنتاب، وهو عبارة عن قصصٍ قصيرةٍ جداً ترصدُ ومضاتٍ من حياتنا ومشاهدَ لا أريدها أن تُنسى.

نسجتُ لوحات من مخيلة تميل في نهجها نحو الواقعية النقديّة بحيث أختار المفردات الأغنى واللائقة، وحتى أصيب عقل القارئ اتبعتُ قاعدة الفهم السّريع والواضح وكسرتُ رتابة النثر، وأنجزتُ الصورة الأعمق والأوضح في رسم الموقف.

- صدر كتابي الثاني بعنوان "جاسوسة الملائكة" عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول، وسعيتُ من خلالها أن أتلمّسَ نبضَ المتعَبين عبر مشاهدَ بانورامية، فدمي أَتعبَه الجريان، ومِن الحرائق المشتعلة في كرياته الحمراء يشتَمُّ القارئُ رائحةَ الشّواء.

وفي تلك القصص استطعتُ أن أكمشَ السوري متلبِّساً بمصيبته، جمع العنوان بين ضدّين الجاسوسيّة والملائكيّة وفيها نقلت حزني على وطني، همستُ مرة وثرتُ مرات على أسياد الحرب الذين يحملون مقصات يريدون قطع الشعرةِ الواصلةِ بين العقلِ والجنون.

- صدر كتابي الثالث بعنوان "أبو صخر" عن دار موزاييك أيضاً جاءت المجموعة في 188 صفحة من القطع المتوسط كرواية، عدد فصولها 38 عن شخصيةٍ من لحم ودم عشتُ معها عقداً من الزمان، وحملتُ عليها صرخاتي، جاء الكتاب مجبول بلغةٍ حية غرفتُ منها كما أشاء.

- صدر كتابي الرابع بعنوان "سام ويم" في السودان، نظّمَتْها شركةُ زين للاتّصالات تحت رعاية وزارة الثقافة، وهو قصصٌ تربوية تعليمية للأطفال.

- صدر كتابي الخامس بعنوان "قارئ الندوب" في دار دندشي في كندا وطبعة في دار جيفرا في الأردن.

حينها لم يبقَ لديَّ ما أقرأه سوى النّدوب، قصص الكتاب جمعت بين الرَّصانَة الفكرية والسُّخْريَة الرَّاقِيَة.

- صدر كتابي السادس بعنوان "التراث اللامادي في محافظة إدلب" قارنت فيه بين المكوّن السنّي والمكوّن المسيحيّ والمكوّن الدرزيّ.

- صدر كتابي السابع بعنوان "قيلولة على وسادة الحرب" عن دار نرد في ألمانيا.

اعتمدت في سرده على لغة مركبة بين الشعرية والواقعيّة، حيث تتقاطع الجمل الشفافة مع مشاهد الغرائبية السوداء، كتبتُ قصصه بعين تشبه عدسة الكاميرا التي تلتقط تفاصيل صغيرة (نظرة، صوت، غطاء، إصبع)، لكنها محمّلة بدلالات كبرى، فغالبًا ما أبدأ من لحظة مأساوية، ثم أعود إلى الخلف في استرجاعٍ مشهديّ أرصد كيف وصلْنا إلى الكارثة. هذا البناء الزمنيّ العكسيّ يمنح النص بعدًا توثيقيًا وتأمليًا في آن.

وتحت الطبع كتابٌ للأطفال بعنوان "طفلتي آن"، وقصص قصيرة جداً بعنوان "صاحب الرأس المستطيل".

 هل تتذكّرُ أوّلَ نصٍّ كتبتَه، وما شعورك تجاهه الآن؟

كتبت قصة بعنوان "شعارات وأحلام". دخلَ مدرستَنا الابتدائية رجلٌ يلبس بدلةً خاكية، وقف أمام سبورتنا، وهتف: ناصر وحدة متحدة، رددنا وراءه وبقوة: ناصر وحدة متحدة.

بعد دقائق دخل رجلٌ آخر يلبس بدلةً رسمية، وقفَ في نفسِ المكان، وهتف: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، رددنا وراءه وبقوة: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة.

وسط هذه الفوضى التي سببتْها احتفاؤنا بالذكرى الخامسة عشرة بعيد الجلاء واجتماع الأساتذة كلهم في غرفةِ المدير وقفَ صديقُنا أسعد أمامَنا رافعًا يده وبنفسِ حركة الهاتفين اللذَين ضيَّعا علينا يومًا دراسيًا كاملًا، وهتف: سأتزوج مارلين مونرو الجميلة، فهتفنا: سيتزوج مارلين مونرو المثيرة.

صعدَ ماهر وبنفس الطريقة هتف: سأجد مصباحًا يجعلني ماردُه مليونيرًا

ضحكنا وكانت ضحكاتُنا أعلى من أصواتِنا التي أخرجوها دون إرادتنا عندما رددنا شعاراتهم. في هذه اللحظة فتحَ أستاذ أحمد الذي نثق به باب الصف، نظرَ إلينا نظرةَ توبيخ، وسأل: ما بكم؟

أخبرناه بما فعل صديقانا أسعد وماهر من تقليدٍ للرجلين، فقال بصوت منخفض سمعناه: أحلامُكم مثلُ شعاراتهم لن تتحقق.
 

 التأثير الأدبي 

 من هم الأدباء أو القاصون الذين أثّروا في أسلوبك الأدبي؟

الكتب التسعة التي كتبتها ذات أسلوب مختلف يخصّني وحدي، إنها كتابة من الندبة لا عنها، كتابة تُرثِي، لا لتُبكي بل لتشهد. ولعل هذه هي أسمى وظائف الأدب: أن يكون شاهدًا لا ناطقًا باسم أحد. لكني أقرأ حسيب كيالي، حنا مينا، أمين معلوف، عزيز نيسن، دوستويفسكي، غابرييل ماركيز.

 هل هناك طقوس أو روتين يوميّ تتبعه لتحفيز الإبداع؟

الغضب والحب يجعلاني أكتب. أما روتيني اليومي هو حُسن الإصغاء للناس وقراءة لغاتهم الجسدية، وأحياناً أفكارهم.

 كيف تتعامل مع لحظات الجمود أو فقدان الإلهام؟

أقرأ من دفاتر ذاكرتي؛ فالذاكرة تاريخ.

◈ الجوائز والحرية الفنية 
 

 هل شعرت أن الجوائز تفرض عليك أسلوبًا معينًا، أم تحافظ على حريتك الفنية؟

المسابقات تفرض عمر الأربعين مع أن العطاء بعد هذا العمر، وكانت تفرض تسليم المخطوط ورقياً والسوري كان محاصراً.

ما كان يقدمّه العربيّ كان يوصَف بأنه ممتاز، أما السوريّ فيوصَف بالإعجاز.

حريتي لم ولن أقدمها لأحد مهما كان، والجائزة حصلت عليها لقاء عملي الذي كتبته بحرية.

 ما أهم جائزة حصلت عليها ولِمَ تعتبرها محورية؟

حصل كتاب سام ويم على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في مجال أدب الأطفال. ضم الكتاب تسع عشرة قصة جاءت في مائة وخمس من الصفحات موجَّهَة للفئة العمرية من 8-12 تتحدث عن يوميات طفلين اسمهما سام ويم، وهما الشخصيتان الرئيسيتان في العمل، واستعنتُ بذكريات الطفولة وأطفالي لأخذ الإلهام.

لا أعول على الخيال إلا بما يلزم طالما أنّ الواقع ممتلئ.

واعتمدتُ على تصعيدِ الأحداث في كل قصة للكشف عن علاقة الشخصية الرئيسة بالشخصيات الثانوية الأخرى، مثل المكتبة وشجرة كرز والميزان، والنظارة التي تتحدى الشمس وألبوم الصور.

قدمتُ شيئاً عن إصلاح ذات البين في قصة لعبة الجودو والابتعاد عن الآلة الحاسبة التي تُركنُ عقول الأطفال كما تُركنُ السياراتُ الخربة في قصةٍ أخرى، وطريقة التعامل مع الحيوان من خلال قصة الأرنب الصغير، وشرحتُ شرحاً مبسطاً عن أجزاءِ السيارة وعملها في قصة أبي وجدتي، وفسرتُ حركة الطفل أثناء النوم في قصة الحركة أثناء النوم.

تأتي أهمية الجائزة كونها أشبه بنوبل عربية تعطي الكاتب جواز مرور.

وتُعتَبر المسابقة الأقوى في الوطن العربي؛ لأنها تمنح الحاصل عليها لقباً بالإضافة إلى تقديمها مبلغاً مالياً، وتثبت لمن يعزف على وتر أن الكتابة لا تطعم الخبز، أنَّ الكتابة هي أهم من الطحين ذاته في صنع رغيف الخبز.

ومع انتشار "دور نشر" تعملُ عمل المطبعة فقط وتنشرُ الأعمال دون مراعاة أصول النشر، حتى بتنا نرى أي كاتب يستطيع أن ينشرَ عملاً بسهولة إن امتلك بعض المال، لكنه في المقابل لا يستطيع أن يحصل على جائزة مهمة مهما كان غنياً.


◈ الكتابة في زمن الأزمات 
 

 هل ترى أن الكتابة في زمن الأزمات تتحمل مسؤولية أكبر تجاه القارئ؟

حتى النوم لم يعد وسيلة للهروب، الكتابة هي الحل، الذاكرة تحتفظ فقط بالألم ولا تحتفظ أبداً بلحظات السعادة، لذلك يجب كتابتها.

الكتابة كسفينة، هي آمنة على الشاطئ لكنها ليست من أجل ذلك صنعت، الكتابة شجاعة وجرأة وركوب الموج.

أشرب بعيوني آلاف الصور وأكتبها قصصاً.

◈ كيف تختار الشخصيات والأحداث في قصصك؟ أهي انعكاس لواقعك أم خيال محض؟

أكتب في الأدب المنتمي، لم ولن أكتب عن باريس وأنا أقبع في وطن أنهكته الحرب، وطن تَجَرَّعَ كل أنواع السموم وبقي حيًا... شخصيات قصصي هي شخصيات حقيقية، وأنا موجود في كل الشخصيات.

كتبتُ إهداء في أول كتاب لي وهو "شتيمة موصوفة":
"إلى من صارت مآسيهم قصصاً لي".


◈ المنتدى الأدبي: خيزران 
 

 ما الهدف من تأسيسك لمنتدى خيزران، وما رؤيتك له في المشهد الأدبي؟

من قلب إدلب، المدينة التي أبقت شُعلة الثورة حيّة، وُلِدَ منبرُ خيزران حيثُ الكلمةُ جُذوة، والفنُّ جناحُ حرية.

يجمعُ المنتدى ضروبًا من الآداب، ما بين قصة وُثّقت، وشعر أغنى، وكلام منثور، ولحن يصل إلى القلب قبل الأذن، ومَثَل سائر، وتراث حيّ، وموعظة بالغة، هنا، تُصنع الكلمة التي تُوقظ العقل، وتُعانق الروح.

ويهدف إلى: تثقيف الإنسان، توثيق الحقائق بالأدب، أن نكون مرآة حقيقية لنبض الشارع، مناصرة قضايا المجتمع المدني، سد الفراغ الثقافي الذي أوجدته الحرب، إحياء الفنون التي تكاد أن تنقرض كالفن التشكيليّ والمسرح، التشجيع على القراءة ومحاربة الجهل والظلم من خلال الوعي الثقافيّ، وأيضاً خلق بيئة ملائمة للمواهب.

 ما أبرز التحديات التي تواجه إدارة المنتدى من الناحية الثقافية أو الإدارية؟

في الحقيقة: إنّ التحدي الأول هو المال؛ لأن المنتدى غير مدعومٍ من المؤسسات أو المنظمات، لذلك انطلقَ حراً واستمرَّ حراً.

 هل ترى أن وجود منصات رقمية كالمنتدى يعيد تشكيل الأدب القاص في زمن الرقمنة؟

المنتديات الأقوى والأبقى هي التي تعمل على الأرض مثل منتدى خيزران الثقافي، والرقمنة لنقل النشاطات والفعاليات والمهرجانات.
 

◈ نصيحة القاصين الشباب 
 


 ما أهم نصيحة توجهها للقاصّين الشباب ليتجاوزوا الصعوبات في عالم الكتابة؟

◅ اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ… ابنِ قاعدة متينة ثم أكمل البنيان، فما يدخل عقلك سيخرج من قلمك.
◅ اسبق الناقد بخطوة.
◅ لا تكتب ما كُتب، ولا تفسِّر المفسَّر.
◅ قدّم ما يعرفه الناس بطريقة لا يعرفونها.
◅ لا تحرق المراحل، عِشها بكل تفاصيلها، لا تستعجل النشر، فكتابك الأول هو الذي يقودك إلى كتابك الثاني.
◅ حذار من النشر في دار نشر تجارية ضعيفة، لا تشارك بمعارض، ولا تعطي للكتاب ترقيماً دولياً، فكما يتوجب علينا أن نختار لأولادنا الأم الصالحة.. علينا أن نختار لكتبنا دار نشر صالحة.
◅ اكتب من بيئتك فالكاتب ابن بيئته.
◅ لا تعتقد أنك أصبحت كاتباً كبيراً، فعمرك لن يكفيك أضعافاً لتكون ذلك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها