جارنا "شعفل" شخص أحمق أصم أو يتظاهر بالصمم، وكل الذين حاولوا إجراء حوار معه أخفقوا، لا يفهم الإشارات باليد، ولا يقرأ أو يكتب، لذا فهو يعيش وحيداً في منزله، ورث حقولا عن والديه، ويربي قطيعاً من الماعز، ويظن كثير من الناس أنه يعيش ويكد ليل نهار بلا هدف، عمره أربعون عاماً، ورغم ذلك لم يطلب امرأة للزواج، أو لعله فعل ذلك دون أن يجد من تقبل به زوجاً بسبب غرابة أطواره! وجهه بارد الملامح في جميع الأوقات، لا يتغير ولا يبدو سعيداً أو حزيناً، ولا يكاد يشعر بجيرانه أو يبادلهم الكلام. يسير في طريقه مثل آلة عمياء، وكان هذا سيبدو حسناً لو لم ينجم عن تصرفاته الغبية أذى يمس جيرانه. حتى بات الأهالي محتارين بشأنه، ويسألون أنفسهم، هل يفعل ذلك عن عمد أو جهل. لكن الراجح أنه غبي وغباؤه مما يجلب الضرر لمن حوله، حتى صار البعض يفكر في هجر مسكنه إلى مكان معزول بعيد عن "شعفل"، فطالما تأتي من منزله أصوات دقات عالية منتظمة؛ وكأنه حداد يدق الحديد بمطرقته، وفي حين آخر تعبق روائح كريهة من داره؛ وكأنه يحرق نفايات أو بقايا متعفنة من طعام أو ملابس قذرة، وكثيراً ما يضع جهاز الكاست على نافذته مفتوحاً على صوت مقرئ قبيح الصوت، فتنبعث مقاطع حزينة من القرآن الكريم عادة ما تتلى في المآتم. ومن ثم يصير علينا الصبر والانتظار حتى يخرس المقرئ من تلقاء نفسه" لأن "شعفل" يكون حينئذٍ نائماً، فضلا عن أنه أصم وصراخنا لن يقدم أو يؤخر.
حين كنا نلعب في الشارع كان يسير في الصباح وقطيعه نحو الجبل، فننتظر حابسين أنفاسنا بصبر حتى يمر، ثم نواصل اللعب، وفجأة نراه يعود وهو يجر خلفه أغصاناً متشابكة لشجرة مشوكة، أو يحمل جذع شجرة جاف، أو يجلب حطباً أو حجارة للبناء، وهذا يعوقنا عن اللعب بعض الوقت، ويظل يسير جيئة وذهاباً، ونعجب منه؛ إذْ يترك قطيعه في المرعى ويأتي ليفسد علينا متعتنا. والغريب أننا وجهنا إليه تسديدات قوية بالكرة، لكنها لسبب ما كانت تزوغ عنه ولا تصيبه بأذى؛ وكأنه طيف خفي أو روح شريرة، وفي أعراس الشباب في القرية يفتح القرآن الكريم في لحظات الزفاف، ويصبح الفرح ممتزجاً بالحزن، ويظن الضيوف أن شخصاً مات، ويطلبوا من أصحاب الزفاف أن يوقفوا الغناء والزغاريد احتراماً لمشاعر أهل الميت، لكنهم يقتحمون منزله ويحطمون الجهاز، ولا يكترث بما يجري، بل يواصل نومه وكأن شيئاً لم يحدث!
عند الظهيرة، نراه عائداً من السوق بجهاز جديد. وفي يوم أردنا أن نقيم زفافاً جماعياً لزمرة من الشباب. واتفق الأهالي ألا يدعوا "شعفل" يعوقهم عن الفرح بأي حال، وقرروا سراً أن يستمروا في إجراء الترتيبات اللازمة، وقرروا أن يقيموا زفافاً زائفاً قبل يومين من موعد الزفاف، وإن سمعوا أي شيء سيء سيأخذون جارهم المزعج بعيداً عن القرية، أو يحبسونه بمكان ما حتى ينتهي الزفاف بسلام. وهكذا استمرت الاستعدادات بشكل دؤوب، ولما أقاموا الزفاف تأهبوا للهجوم عليه بمجرد أن ينبعث الضجيج من بيته، لكنهم على غير العادة لم يسمعوا شيئاً، وتعجبوا، إذْ يبدو هذا غريباً، كان الصمت محلقاً على منزل "شعفل"، ففرحوا وظنوا أن الرجل عاد إلى رشده، وكفّ عن أفعاله المشينة، وبعد يومين، بدأ الضيوف بالتوافد على القرية صباح يوم الخميس، وارتفع صوت الغناء، وتوقعوا أيضاً أن يأتي صوت القرآن الكريم من منزل "شعفل"، وظلوا فاتحين آذانهم متوجسين، لكن كل شيء ظل ساكناً، ففرحوا لأن ذلك سيعفيهم من حبسه خارج القرية. لكن وبينما هم يستقبلون الضيوف فاحت في الجو رائحة كريهة أزعجت الجميع، وبحثوا عن مصدرها حتى اكتشفوا جثة شعفل المتعفنة على فراشه، وأدركوا أنه أفسد فرحهم بموته أيضاً!