قد يكون هناك تساؤلات عديدة حول مصطلحات ومفاهيم بعض الكلمات الفكرية والثقافية التي تم تداولها على مر العصور. فمنها ما عُرف أصلها وبداية استخدامها، ومنها ما هو تحت عدسة البحث حتى وقتنا هذا، والمصطلح الذي سنلقي عليه الضوء في هذا المقال يُعدُّ من أهمِّ المصطلحات التي استخدمها المثقفون على مدى فترات زمنية طويلة، وهو مصطلح (الإنتلجنسيا) تلك الكلمة التي قرنها البعض بكلمة (النخبة)، والبعض أشار إلى مقصودها بكلمة (الصفوة)، والبعض عرفها بـ(الطليعة المثقفة)، وهي في الأصل مشتقة من كلمة يونانية، كلُّ هذه المحاولات تقودنا إلى بعض الأسئلة المهمة التي تسعى هذه الورقة لتقديم إجابات لها، ومنها: ما هي الإنتلجنسيا؟ وفي أي فترة ظهرت؟ وما هو موقف الثقافة العربية منها؟.
المعنى والمفهوم
حَظي تعريف مصطلح الإنتلجنسيا باهتمام كبير في الدراسات الثقافية الحديثة، حيث أوضحت هذه الدراسات أن المفهوم يشير إلى أولئك الذين ترتبط مهنتهم بالعمل العقلي والثقافي، وهذا يعني أن المصطلح مرتبط بالصفوة الذين يقودون الجنس البشري إلى التطور في جميع العمليات الهادفة لبناء المجتمعات. فطبقة الإنتلجنسيا تتكون من الفئة القادرة المؤهلة لصياغة أيديولوجيا متكاملة للتطور مستندة في ذلك إلى التقاليد المحلية داخل المجتمع، والإنتلجنسيا بالمعنى الحرفي مأخوذة عن كلمة يونانية للإشارة إلى الطبقة الاجتماعية التنويرية اللامعة داخل المجتمع، والتي تنهمك في العمل الفكري الدؤوب بهدف نشر الثقافة والمعرفة بين أبناء المجتمع.
ومن أهم السَّمات التي تميز طبقة الإنتلجنسيا داخل المجتمع الواحد هي أن أعضاءها تنحصر حياتهم بين معياري التحصيل العلمي والعمل الذهني، وهذا الأمر يجعلنا نتساءل عن ماهية التخصصات التي يشارك بها أعضاء هذه الطبقة في المجتمع. فهل كل مهنة أو تخصص منغلق على نفسه داخل هذه الطبقة؟ أم أن كل المهن والتخصصات في اتحاد وكيان واحد؟. الإجابة ستكون بترجيح السؤال الثاني على الأول. وذلك لأن طبقة الإنتلجنسيا جماعة وطنية تتفق على مبدأ ديمقراطي واحد، ويجمعهم شعور قومي يسعى لخدمة المجتمع بدون مقابل. فعلى الرغم من أن أعضاءها من الفنانين والمفكرين والمعلمين، والنقاد والروائيين والمثقفين التنويريين أصحاب الاتجاهات المختلفة، إلا أنهم يعملون بعقل واحد ويرتبطون بحلقات وصل خاصة داخل نظام الإنتاج الاجتماعي.
النشأة والتطور
يعود أول ظهور لطبقة الإنتلجنسيا إلى العصر الذهبي لبلاد اليونان، حيث كانت هذه الطبقة وراء اختراع الكثير من العلوم العقلية مثل المبادئ الفلسفية الأولى وتفسير المعرفة تفسيراً عقلياً، وكذلك المنطق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة، وغيرها من العلوم المعرفية التي قادت بلاد اليونان إلى الصدارة في ذلك الوقت. فإلى هذه الطبقة تنسب عبقرية وعظمة الفكر والعلوم الفلسفية الإغريقية في ظل الإمبراطورية الأثينية طوال العصر الهللينستي الذي استمر حوالي 200 سنة في بلاد اليونان، وحوالي 300 سنة في الشرق الأوسط، وفي العهد الروماني مارست الإنتلجنسيا نشاطها الثقافي والفكري في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية، حيث نضجت في المفكرين والفلاسفة والتنويريين الذين أخذوا على عاتقهم تأسيس مدارس الفلسفة في روما على غرار ما عرفته أثينا، ومع ظهور المسيحية أنجبت الإنتلجنسيا آباء الكنيسة الشرقية، وكذلك كل الرهبان ورجال الدين أصحاب الآراء الفكرية.
ومع مرور الوقت انتشرت الإنتلجنسيا في كل أرجاء العالم المستنير، وخاصة مع عصر النهضة الأوروبية التي قضت على كل ما هو قديم، ولكن مع الوضع في الاعتبار أن تأثيرها اختلف كطبقة اجتماعية بين دولة وأخرى، وتوقف ذلك على حسب العدالة الاجتماعية التي يطبقها المجتمع المنتشرة فيه، وهذا ما أكده معجم أكسفورد لعلم الاجتماع عندما تعرض لتحليل هذه الطبقة، وأنشطتها الاجتماعية.
ويأتي السؤال: هل لعبت الإنتلجنسيا دور القيادة في أي مجتمع أثرت فيه، حتى ولو بشكل محدود؟. الإجابة على هذا السؤال ستكون على لسان الفيلسوف والمفكر الألماني "هيجل"، الذي وصف هذه الشريحة بأنها كيان من الوطنيين المتعلمين والمحترفين احترافاً عالياً، لذا ليس من الصعب أن يصبح أعضاؤها قادة روحيين لأي أمة، وخاصة إذا كانت هذه الأمة تقع تحت سيطرة قوة أجنبية سلطوية، وهذا ما تشابه بشكل كبير مع شريحة الرومانتيكيين البولنديين الذين تولوا مهمة الدفاع عن وطنهم ضد السيادة الروسية، وخاصة بعد تقسيمه عقب تسوية فيينا (1814-1815م) على الدول الأوروبية العظمى، ووقوع النصيب الأكبر منها تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، حيث تولت الإنتلجنسيا مهمة قيادة المجتمع للحصول على الحرية، بل إن من الممكن القول إن هذه الطبقة هي التي قادت الانتفاضات البولندية في الأعوام 1846م و1848م و1863م، حتى إن بعض أعضائها أصبحوا أعضاء بمجلس الدوما الروسي وطالبوا بالحكم الذاتي لبولندا عقب الثورة الروسية الصغرى عام1905م.
ومن بولندا رسمت الإنتلجنسيا طريقاً لها في روسيا نفسها، وخاصة بعد اضمحلال الحكم القيصري بها، وباتت روسيا على حافة الثورة للقضاء على هذا الحكم البائد، حيث أطلق المثقفون الروس هذا المصطلح على أنفسهم قبل الثورة البلشفية الكبرى 1917م، وذلك ليتميزوا عن عامة الجماهير، ونجحت هذه الطبقة في صياغة مبادئ جديدة للمجتمع الروسي قادته في النهاية إلي نجاح ثورته.
وطوال القرن العشرين قادت الإنتلجنسيا الكثير من المجتمعات في العالم أجمع نحو الرقي والازدهار، وعلى الرغم من أنها لم تُعرف باسمها الحرفي في بعض الدول، إلا أن روحها سكنت المثقفين والتنويريين والمفكرين الذين سعوا نحو تطوير مجتمعاتهم بشكل عام، حتى ولو اقتصر دورها على صياغة فكرة واحدة تهدف لارتقاء الكيان الاجتماعي.
الإنتلجنسيا والثقافة العربية
ربما ما ينقصنا هو التوقف، ولو للحظات، عند هذا المحور المهم من الموضوع المطروح، وذلك للوقوف على مردود الثقافة العربية من"الإنتلجنسيا"، وهل أن هذا المصطلح تم استعماله في ثقافتنا؟ أم أن هذه الفئة الاجتماعية تم التعارف عليها في الواقع الموضوعي العربي فقط؟.
ما من شك في أن الثقافة العربية عرفت "الإنتلجنسيا" في كيان صفوة العلماء والمفكرين والأدباء العرب، الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الارتقاء بواقعهم الاجتماعي الذي عاشوا فيه على مر العصور، ولكن من المؤكد أن الثقافة العربية لم تستخدم مصطلح الإنتلجنسيا بمعناه اللغوي المعروف، فلم يطلق هذا المصطلح على أي فئة اجتماعية مستنيرة حتى وقتنا الحالي، أو حتى استخدمته أي جماعة عربية لتميز نفسها عن باقي أفراد المجتمع، مثلما حدث مع الإنتلجنسيا الروسية على سبيل المثال.
وهنا يأتي السؤال: كيف يمكننا أن نجزم بفرضية وجود الإنتلجنسيا في موضوعية وروح الثقافة العربية؟. الإجابة على هذا السؤال ستكون في تتبع البدايات الأولى التي احتكت فيها الإنتلجنسيا بالثقافة العربية، حتى ولو كان ذلك عن طريق بعض الأشخاص الذين نقلوا مضمون فلسفتها إلي الشرق العربي.
فهذه البدايات كانت مع نهاية عهد الازدهار اليوناني، صاحب الفكرة الأولى لهذا المصطلح، حيث انتقلت الإنتلجنسيا إلى المشرق العربي في أديرة السريان اليعاقبة والنساطرة في سوريا والعراق، وكذلك مع كل الفلاسفة الذين نقلوا عن التراث اليوناني المكتوب. ومع العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية تبلورت الإنتلجنسيا في مختلف العلوم النقلية والعقلية العربية، وخاصة مع ظهور علوم اللغة والطبيعيات والحساب والفلك، وعلم النبات والحيوان والطب وعلم الكلام والمنطق وتفسير النظريات الفلسفية اليونانية القديمة وتطويرها، مثل التفسيرات والإضافات الغير مسبوقة لابن رشد لآثار أرسطو وأفلاطون.
وممّا سلفَ، يمكن القول إنّ الإنتلجنسيا "مصطلح" يطلق على صفوة المثقفين التنويرين الذين يحددون معالم الطريق في أية دولة، ويتميزون بقوتهم السياسية والأيديولوجية في مجتمعاتهم، وكان لهذه الطبقة تأثيراً كبيراً على الكثير من المجتمعات الناهضة على مر العصور التاريخية حتى وقتنا هذا، وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لم تُستخدم في عصرنا الحديث إلا في دول معينة، إلا أن مضمونها ينطبق على جميع المثقفين والمفكرين الذين يسعون نحو التقدم الدائم لأوطانهم.