جاذبية الذات في الشعرية الجديدة

الكلام واللسان.. في شعرية حسن نجمي مثالاً

إبراهيم الكراوي


إن حضور الذات في الشعريات الراهنة بكل ما تحمله من هاجس تحديث وبناء الخطاب، لا يعني الذاتية أو الانغلاق داخل أحادية وقيود المرجع الخارجي، بقدر ما تدل على الذات التي ''عينها كآخر'' بتعبير بول ريكور، أو الذوات بوصفها تمثلا يشتغل على بنية الخطاب الشعري، وإنتاج أنساقه الثقافية المضمرة. ولعل بنيات الذات تظهر من خلال رؤية تعيد الحفر في علاقة اللسان بالكلام، وتمثل الأبعاد الثقافية لهذه الثنائية بغية استثمار الأفق الذي تمنحه الشعريات الجديدة.


وهذا معناه من جهة أن بنيات الخطاب الشعري تنطبع برمزية دلالتها المزدوجة حين تحيل على التمثل الثقافي للذات. وبذلك ننتقل من تاريخ الأدب بتعبير رولان بارت إلى الأدبية والجماليات الداخلية، التي ينطوي عليها حضور الذات في الأدب، فنحرر الذات نفسها من أصنام الإسقاط الخارجي الذي يحول النص إلى معان مستهلكة بعيدة عن منطوقه وقصدياته.

تُمظهر الشعرية الجديدة في التجارب الراهنة –وبالخصوص في نموذجها الذي انطلقنا منه في هذا المقال، وهو شعرية حسن نجمي-؛ الذات بوصفها نتاج أنساق ثقافية وجمالية؛ أي أنها ذات خطابية تشتغل وفق مبدأ الانفتاح؛ دون أن يعني ذلك انتقائية وخلطاً عشوائياً على الصعيد المنهجي؛ بقدر ما يشكل استفادة سيميائيات النص الشعري من منجز للعلوم الإنسانية، بغية تطوير هذه الشعريات الجديدة؛ وإخضاعها لمبدأ الملاءمة والتكيف مع تحولات النص الشعري؛ في صورتها التي تمثل تحولات الذات في الواقع الحديث.

يعيد الشعري الذات إلى الواجهة في الوقت الذي يقاوم الراهن حضورها المهيمن لصالح مرجعيات المحو والعولمة، وبشاعة الحروب، وجفاء التكنولوجيا وثقافة الابتذال التي بدأت تلوح في الأفق؛ تشن حرباً عشواء على هذه الذات الإنسانية التي نريد استعادتها من خلال الخطابين الشعري والجمالي بشكل عام. فالحروب الذي نتابعها اليوم والتكنلوجيا التي حلت محل الحداثة التي شكلت أملنا في التحرر والانعتاق، خيبت آملنا بأن استلبت ذواتنا، وواجهتها بالرغبة المتوحشة في المحو. وحتى العولمة التي كنا نراهن على شساعة أفقها انصرفت عن تناول قضايا الذات والهوية. ولا نكاد نعثر في جميع الأجناس الأدبية الراهنة على الذات بصورتها الثقافية المنفتحة إلا في الشعريات الراهنة.

لقد عاينا تحولات خطاب الذات في شعرية حسن نجمي، وانتقاله من فضاء الذات بوصفها نسقاً مرجعياً إلى التمثل الأنثروبولوجي والثقافي للذات، عبر الحفر في ذاكرة العلامة واستحضار الخطاب الشعري، بوصفه يعكس بنيات الجمال في مواجهة قبح العالم.

في ديوان "يتشهاك اللسان" لحسن نجمي يتوسع الدال الشعري من خلال الحفر والبحث في اللغة الشعرية؛ بوصفها فضاء لولادة واشتغال العلامات؛ مما جعلها متاهة لجماليات العلامة. فالحب باعتباره ذاكرة ثقافية يتحول إلى أنساق لسانية تستوعب الذات، المتخيل والتمثل الأنثروبولوجي للغة.

ومن ثم؛ تتحول تيمة الحب إلى نسق لغوي، ثقافي يسبر أغوار الذات ويدل عليها. فهو محور يتجاذبه قطبان الحضور والغياب، اللسان والكلام. بين النص الحاضر والنصوص الغائبة ينسج الشاعر الخطاب والرؤية، عبر الاشتغال على إعادة استعادة لغة الحب انطلاقاً من شعرية الحواس وحوارية النصوص وتمثل الذات من منطلق كونها تمثيل لذوات إنسانية تتقاسم نفس الهاجس.

إن حضور اللسان المشع في عنوان الديوان إضاءة لمشروع شعري بكامله وليس فقط لتمثيل اللغة في ''يتشهاك اللسان''. وهو تمثل كشف الشعر بوصفه مشروعاً بدأ بديوان ''حياة صغيرة''، ويمر بتوسع الفكرة ''فكرة النهر'' بالانتقال من الذات المقيدة بنسق مرجعي إلى النهر المقيد بمتخيل مرجعي ثقافي، وينتهي إلى إعادة تفكيك وبناء اللغة، من حيث إزاحة المركز والإقامة في الهامش الذي يتحول إلى مركز. يقيم الشاعر في النهر أولا بوصفه اللامحدود، ثم اللسان بوصفه يقود إلى متاهة العلامة.
 

هكذا يضعنا العنوان ''يتشهاك اللسان'' في قلب هذا الأفق الملتبس بضجيج اللغة التي تنزع إلى تأسيس الهوية الشعرية، من خلال الغوص في أنثروبولوجيا الحب، كما تنعكس من خلال وساطة العلامات، أو ما يسميه إدوارد سابير أدوات الأنثروبولوجي التي تمثل وسائط بين الإنسان والطبيعة.

إن تيمة الحب تتجاوز صورتها الإيروتيكية إلى محاولة الحفر في التمثل الأنثروبولوجي للحب. فالكلام الذي يحمل التمثل الفردي، يحضر إلى جانب اللسان بوصفه تمثلاً إنسياً للعشق.

إن الذات في شعرية حسن نجمي مشروع كتابة شعرية مترامي الأطراف، تَشكل من خلال مجموعة من العناوين الشعرية. ومن ثم عاينا مجموعة من الثنائيات التي تحيل على ذاكرة العلامة من حيث تجلياتها الثقافية والأنثروبولوجية والجمالية، بحيث تضفي الذات على العالم رمزية، كما هو الأمر بالنسبة ''للنهر''، أو ''قيمة الصداقة''، أو ''تمثل الحواس''، ''تمثيل الجسد والذات'' '' قيمة الحب'' ''الأمومة''؛ فهي كلها تتموقع بين رمزية الحياة والموت، بين ''حياة صغيرة''، وحياة النهر اللانهائية في جريانه وإيقاعاتها وطقوسها. وهذا معناه محاولة تجاوز حدود الشعر عبر حوارية تتوسل بناء جماليات جديدة، تستجيب للراهن وتقاوم الموت الذي تعيشه الذات في كل مكان من هذا العالم.

هكذا تُحَرض القصيدة على الحياة من خلال تفكيك صورة الموت ذاته، والذي يحاصرنا اليوم في كل زاوية ومكان. ومن ثم تزودنا القصيدة بجرعات من الحياة مقاومة لقبح الموت وبشاعته، كما تشاهده ونشاهده معها اليوم.

هناك إذن؛ تشاكل بين الكتابة الشعرية والحياة في شعريات الحداثة جميعها، من حيث كونها ثنائية شكلت تمثيلا لأنثروبولوجيا الصراع بين الحياة والموت. ويكفي أن نراجع ديوان ''حجرات ''لعباس بيضون، و''طفولة موت'' لنوري الجراح، و''أحد عشر كوكباً لمحمود درويش''، و''الحياة قرب الأكروبول'' لسركون بولص، و''فراشات سوداء'' لعبد الله زريقة.

ولعل حضور الماء في مشروع شعرية حسن نجمي جاء ليسبغ عليه رمزية الأصل؛ وتشكل الحياة خصوصاً إذا ربطناه ببعض الثيمات التي تحضر في مشروع الذات مثل الأمومة والفضاء التراب، والهواء، الضوء والنار استعارات العشق، الذي تستنشقه الذات؛ وهي تعيش كينونتها الشعرية كما في ''يتشهاك اللسان''. إن الذات هنا منبع التجربة الشعرية والحدس الوجودي؛ ولكنها -أيضاً- منبع للتفكير والتأمل في العالم، كما توحي بذلك عناوين المجموعات الشعرية.

هكذا فالانتقال من البنيات السطحية متجلة في حضور الذات إلى البنيات العميقة التي تضعنا بين الموت والحياة؛ يعكس هذه التحولات بين اللسان والكلام. فالقصيدة فضاء من العلامات تشتغل على إنتاج الخطاب وسبر أغوار وأبعاد اللسان، ومختلف أبعادهما الثقافية مما يعني أن حضور الذاتي والسير ذاتي لا يرتبط برؤية انعكاسية؛ بقدر ما يستهدف القبض على شكل المعنى وسيرورات الدلالة والأنساق الدالة.

إن ديوان ''يتشهاك اللسان'' تمثيل لتجربة الكتابة بالحواس والحفر في بنية اللغة الشعرية بوصفها نسقاً من العلامات التي تنفتح على اللانهائي مجسدة نزيف العلامة الشعرية.

إن القصيدة تكاد تتحول إلى مختبر للبحث في تفاصيل اللغة، وهامش الحياة في مختلف تمظهراتها الجمالية. وجماليات الخطاب الشعري تنبع من التمرد على اللغة المعيارية للشعر، واكتشاف حفريات جديدة تعيد إنتاج ثيمات الوجود: الحب، الماء، الفضاء، الذاكرة.. فالشعريات الحديثة شكلت، فعل اكتشاف اللغة بكل تفاصيلها وتمثلاتها الأنثروبولوجية وتقاطعاتها على صعيد خطاب الأجناس. فيحضر البعد البصري، كما يحضر البعد الصوتي واللغوي والحسي تحت إشراف الوظيفة الشعرية المهيمنة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها