من إخراج الألماني فيم فيندرز وبطولة كوجي ياكاشو الذي حاز على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان 2023، عن دوره في هذا الفيلم الذي ينتمي بلا شك لنوع مختلف من السينما الحديثة أو الحداثويّة، التي تكسّر منهج ومعايير المذهب الكلاسيكيّ. ماذا يمكن أن يكون الانطباع الأوليّ عن فيلم يتحدث عن الروتين اليوميّ لكهل يعيش وحيدًا في غرفة صغيرة وبسيطة جدًّا في طوكيو، ويعمل في تنظيف المراحيض العامة، ويستمع لأغاني الكاسيت، ولديه كاميرا تصوير فوتوغرافي قديمة تعمل بفيلم حسّاس؟ الأيام المثالية يصلح لأمسية هادئة بعد يوم حافل بضجيج المدينة والسيارات وأجهزة الخلوي للتّأمّل في أسلوب حياة هياراما، الذي حافظ على نسق محدد ليومه، ونأى بنفسه عن كل هذه الرقميّة وهذه التكنولوجيا التي جعلت منّا أشخاصًا تكنو-اجتماعيين، وصلوا إلى درجة اعتمادية عالية على الشاشات الذكيّة.
الحبكة
في مثل هذا النوع من الأعمال التي يطلق عليها اسم (plotless)، لا توجد حبكة محددة تتصاعد المشاهد لتصل إليها، ولكن هناك نوع من السرد البصري الذي يتابع الأحداث اليومية البسيطة والمتكررة في حياة أناس عاديين يعيشون برتابة مملة. الفيلم فيه شيء من التسجيليّة إلى حد ما، يشبه من يضع تلفونه الخلوي على حامل يمدّه أمام وجهه لتسجيل يومياته وانطباعاته عن الطقس والأشجار والعمل. (هياراما) يعمل بجد وإخلاص في تنظيف المراحيض العامة؛ لأن حياته سلسلة متّصلة من الأفعال المعتمدة على بعضها بعضًا، ويشكّل الراتب الذي يتقاضاه الحلقة الدافعة لبقية النشاطات. تتحرك الكاميرا بخفة لافتة وتتلاعب بالزوايا وتبدل اللقطات من بعيدة إلى قريبة لتشكّل حبكة بصرية مسليّة تدفع محركات الفضول والتشويق عند المشاهدين.
الحوار
لم يكن هناك حوار بالمعنى المتعارف عليه، وبدا الفيلم كأنّه قادم من المرحلة الانتقالية بين السينما الصامتة والسينما الناطقة، والمشاهد التي اشتملت على حوار كانت مبعثرة هنا وهناك، كما كانت الجمل مقتضبة وقصيرة وتؤدي المعنى بأقل عدد ممكن من الكلمات، لكن الكاميرا لم تتوقف عن الحديث والإسهاب والثرثرة على مدى ساعتين في تفاصيل بدت قليلة الأهمية لكنها في واقع الحال تكشف جوانب من دواخل الشخصية ودوافعها لهذا الفعل الرتيب واختيار هذا النمط من الحياة.
تكرار المشاهد
هناك مشاهد كثيرة تكرّرت أكثر من ثلاث مرّات مثل المشهد الصباحي عندما يفتح الباب، ويرفع رأسه لينظر نحو السماء، ثم يتوجه إلى (Vending Machine) في الساحة الأمامية ويضع القطعة النقدية ويأخذ علبة القهوة، ثم يقود سيارة )الفان( الصغيرة إلى عمله. وهناك أحداث أخرى تكرّرت مثل القراءة قبل النوم، وشراء كتاب جديد من مكتبة الكتب المستعملة، والذهاب إلى الحانة، والاستماع لأغاني الكاسيت خلال قيادة (الفان)، وشراء فيلم جديد للكاميرا، ورش الماء على نباتاته، وتصوير الشجرة وأشعة الشمس الساقطة من بين أغصانها، والذهاب إلى محل شعبي لتناول مشروب بارد؛ إذ يكرّر النادل في كل مرّة وهو يضع الكأس أمامه: «هذا من أجل عملك الشاق اليوم». كان هناك جرأة في التصميم على هذا التكرار خاصة أن الحدث بلا أبعاد دراميّة، لكن كل هذا من ضمن الرؤية العامة للفيلم لعرض حياة أشخاص مهملين لا أحد يشعر بوجودهم، ويعيشون بمفردهم على الهامش في مدينة كبيرة مثل طوكيو. ربما يصاب المشاهد بالدهشة عندما يكتشف أنّ هياراما يحتفظ بخزانة في غرفته الصغيرة، يكدّس فيها صناديق صغيرة مصنّفة حسب الشهر، يضع فيها صور الشجرة والظلال مقابل أشعة الشمس، الصورة نفسها التي يلتقطها كل يوم من المكان نفسه في وقت استراحته. مستوى لا يوصف من المثابرة للوصول إلى تنفيذ الفكرة التي في رأسه، هل هذا شيء من العناد؟ أم هو مشروع فني فوتوغرافي حقيقي يستحق كل هذا الجهد والإخلاص؟ أم هو مجرد علامة من علامات الوحدة التي تؤدي للانهماك في مهام لا معنى لها؟
ثقافة مختلفة
لا شك أنّ للسينما دورًا كبيرًا في الانفتاح على الثقافات الأخرى وتعارف الناس على بعضهم بعضًا في ظل الهيمنة الثقافية لجهة محددة، وبالتالي نحن أمام ثقافة مختلفة تحترم خصوصية الآخرين وتقدم نفسها بتواضع، تقدم ثقافة الإنحناء للتحية، وتقدم مرافق المدينة المرتبطة بنواحي ثقافية مهمة، مثل الاستحمام في الحمامات العامة المجهزة بجاكوزي وكافة ما يلزم. فيلم مثل (الأيام المثالية) بمثابة زيارة افتراضية لمدينة طوكيو ببنيتها التحتيّة ومراحيضها العامة، خاصة تلك التي تكون جدرانها من زجاج شفّاف يتحول إلى زجاج معتم عند الاستخدام. الفن السابع بشكل عام يجعلنا ندرك أن العالم أوسع مما نظن بكثير، وأنّنا بعيدون كل البعد عن مركز الكون، وأنّ هناك أناسًا لا يشبهوننا لهم نظرتهم الخاصة للحياة والناس والقيم والمثل العليا.
الموسيقى والأغاني
لعبت الموسيقى وكلمات الأغاني التي كان يستمع إليها في (الفان) دورًا مهمًا في نقل المزاج العام لخبرات حياتيّة، وشخصيّات افتراضية، لكنها ليست بعيدة عن مزاج وشخصيات الفيلم، كل أغنية بمثابة قصة موازية محتملة لحياة البطل الذي لم نعرف شيئًا عن ماضيه، كأنّ المخرج يضع أمامنا خيارات لحياته السّابقة. في الأغنية الأولى نستمع للكلمات التالية: هناك منزل في نيو أورليانز يسمّونه الشمس المشرقة، كان بمثابة أطلال لأولاد فقراء كثيرين، ويعلم الله أنني أحدهم، كانت والدتي خيّاطة قامت بخياطة بنطالي الجينز الأزرق، كان والدي مقامرًا في نيو أورليانز..
أفضل ممثل
هل استحق كوجي ياكاشو جائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم؟ من يتنطّح للإجابة عن هذا السؤال بحاجة لمقارنة أداء ياكاشو مع أداء الممثلين في الأفلام الأخرى المترشحة في دورة هذا العام، لكن ما أودّ قوله هنا أنني لم أشعر للحظة أنّه يمثل، بل كنت مقتنعًا بوجود كاميرا خفيّة لا يعلم بها تصوّر حياته وانفعالاته، وردود أفعاله تجاه ما يصادفه في العمل أو في الحانة أو أي مكان آخر يقصده. السؤال المهم هنا: كيف تفوّق ياكاشو في هذا لفيلم الذي ينزع للرتابة والهدوء، وبعيد كل البعد عن المشاهد الدرامية من حيث الحركة، أو المشاعر الطاغية، أو الجملة الحواريّة القوية، والمحكمة البناء التي تساعد الممثلين على الظهور والتّفوّق؟ هذا بلا شك استدعى أداء مميزًا من ياكاشو ليثبت موهبته وعلو كعبه، اللقطات القريبة وتفاعله مع النشاطات التي يمارسها أظهرته كإنسان يتعامل برضا وسعادة مع واقعه الذي بدا ضيّقًا وغير ملائم، لكنه أقنعنا أنّه يملك العالم وليس بحاجة لأيّ شيء آخر غير غرفته الصغيرة وكاميرته القديمة، وأشرطة الكاسيت وأغانيه، ونباتاته الفسيفسائيّة.
المشهد الختامي
بكى عندما سألته شقيقته في موقف قريب من نهاية الفيلم: هل فعلًا تعمل في تنظيف المراحيض؟ شعر بالخجل من حياته؛ لأنّه نظر إليها من منظور الآخرين فظهرت عليه باهتة ومخجلة، لكن هذه النظرة اختفت وتلاشت وعاد بسرعة إلى توازنه وتصالحه مع الذات، بعدما أدرك أن حظّه في الحياة أفضل من حظ طليق صاحبة الحانة المصاب بالسرطان والمشرفة على الموت، فالحياة نسبية فيما تقدّم من مال وصحة وسعادة، وعلينا أن نقبل بما تعرض، وعلينا أن لا نناكدها فالحياة قصيرة والصحة زائلة، فاغتنم ما تناله منها وعش حياتك كما تحب، واجعل منها أيامًا مثالية من منظورك وليس كما يريد الآخرون. هناك نظرة فلسفية عميقة في معنى الحياة والوجود يقدمها الفيلم بقالب بصري بسيط ومدهش. الأيام المثالية يفتح نافذة على ثقافة مختلفة عن ثقافتنا، لكنها قريبة جدًّا من إنسانيتنا.