أطمحُ إلى تجسيد الشموخ في منحوتاتي الواقفة!

حوار مع النحات السوري "ربيع الأخرس"

حاوره: خالد عواد الأحمد


اتخذ النحات السوري "ربيع الأخرس"، المقيم في المملكة العربية السعودية منذ مطلع الثمانينات، من فلسفة "اللامرئي" التي فجّرها الفنان العالمي "بول كلي Paul Klee" في أعماله التجريدية محورًا لتجربته النحتية، وهي فلسفة لا تصف الأشياء والظواهر، بل تعبّر عن معانٍ نفسية أو ذهنية. وبالتالي، تتخذ من الفن قاعدةً للمحاكاة، أخذًا أو تأثرًا أو استجابةً للحقائق العلمية الحديثة التي كانت وراء ثورة الفن الحديث في كل اتجاهاته، والتي أشارت بانتقالها من مفهوم الكتلة إلى مفهوم الطاقة، إلى أن الحقيقة شيء خفي لا يمكن التعبير عنه إلا بتجاوز الظاهر الذي تدركه العين، وهو ما يسعى إليه الفنان الأخرس في أعماله اللامرئية، القائمة على مبدأ التقطيع في بعض الأحيان.


وُلد النحات ربيع الأخرس في مدينة حمص، سوريا، عام 1951، وتخرج من كلية الفنون الجميلة – قسم النحت في جامعة دمشق عام 1978. اشتهر بأعماله الميدانية الكبيرة التي تجاوزت الأربعين عملًا، منصوبةً في ميادين وساحات مدينة جدة الساحلية. وقد اقتنت أعماله العديد من المتاحف العامة والخاصة، منها: متحف الهواء الطلق – جدة، متحف عبد الرؤوف خليل – جدة، متحف الفن الحديث – القاهرة، المتحف الوطني – دمشق، والمتحف الوطني الأردني.
 

توالت معارضه الشخصية منذ عام 1978 وحتى الآن، ومن أعماله النحتية المميزة جدارية "الميثولوجيا"، التي صممها ونفذها بطول 80 مترًا، وارتفاع يتراوح بين 6-8

 أمتار من الحجر الصناعي، لتمثل غالبية رموز الميثولوجيا العالمية. تتضمن الجدارية أكثر من 15 عملًا "رولييفيًا"، ويبلغ حجم الحجر الواحد 110×110 سم، أي ما يقارب 550 مترًا مربعًا، وهي مساحة الجدارية التي استغرق إنجازها ثمانية أشهر.

ومن أعماله أيضًا منحوتته الضخمة "الجمل" المنصوبة في دوار أبحر – جدة، بارتفاع 30 مترًا، ومنحوتة "وردة الطائف" بارتفاع 14 مترًا، وغيرها العشرات من الأعمال داخل وخارج المملكة العربية السعودية.
 



 كيف بدأ الفنان ربيع الأخرس يرى في الحجر شيئًا آخر غير ما يراه الآخرون؟

فكرت بالحجر، ربما لأنني وُلدت وعشت شطرًا من حياتي في مدينتي حمص – أم الحجارة السود. ولو أنني وُلدت في مدينة غيرها، لاخترت –ربما– مادةً أخرى للتعبير عن أحاسيسي وأفكاري.

منذ الصغر، كنت أحب الطين والكتل والألعاب الأخرى، وكل ما له علاقة بالملمس والكتلة. كنت أتخيل الأشكال الجميلة، أداعبها دون أن أفكر بأنني مشروع فنان ينظر إلى مادة فنه. كنت ألعب بالحجر الذي أراه جميلًا، فألامسه.. وتطورت نظرتي، فرأيت أن حاجتي إلى الصخر أعمق من اللمس والمداعبة. وهكذا تبلورت هذه النظرة بعد دخولي كلية الفنون الجميلة بدمشق وتخرجي منها عام 1978.

⊙ من أين تستقي موضوعات منحوتاتك؟ هل تنحت مباشرةً من الطبيعة أم تعيد تركيب عناصر الموضوع وخلخلة الأشياء؟

أنا لا أستقي من الطبيعة بمعنى إعادة تصويرها، بل أستقي مواضيعي من مشاهداتي لما يحدث حولي في العالم، ولِما يحدث لنا أساسًا. آلاف المتغيرات التي تحدث هي مواضيعي، وكذلك آلاف الشروخ والانكسارات في دواخلنا.

لا أنقل من الطبيعة بشكل مباشر وآني، لكنني أعيد صياغتها وأرتّب الإنسان كما أريد. لأن إنساننا الحالي لا يبدو اليوم بوضعه الطبيعي، بل هو مصوغ بطريقة جديدة، وبالتالي أصوغه بطريقتي الخاصة أيضًا. أو أصوغه كما أراه: مقطعًا أو مجزّأً، ولا أدري إن كان هذا التقطيع ناتجًا عن صياغتي أنا، أو أنه جزء من منظومة الواقع أو الحياة.

⊙ ما الذي تريد قوله من خلال هذا التقطيع، وبماذا يوحي؟

أقمت منذ سنوات معرضًا هو السادس في سلسلة معارضي في مجمع الفنون بالقاهرة، كان تحت عنوان "اللامرئي". فاللامرئي هو الحقيقة، ما يُعرض علينا هو غير الحقيقة، ولذا، كان في معرضي تحريض على رؤية الحقيقة من خلال هذا اللامرئي، الذي لم يُعرض على طريقة "بول كلي"، الذي قال إن الفن هو اللامرئي.

ولشرح هذه الفكرة، اسمح لي أن أورد فقرات من تقديم الدكتور الراحل "عفيف بهنسي" لمعرض "اللامرئي" آنذاك، حيث قال: "يبدو أن الفنان ربيع أدرك، منذ بداية أعماله الفنية، أن عليه الدخول إلى أعماق اللامرئي لبناء موضوعه الفني. ومما لا شك فيه أن هذا اللامرئي شيء لا ندركه بالشكل، ولا بالطريقة التي يدركه بها الفنان ربيع. فهو، كفنان، له الحق والحرية في تحديد موقفه من الأشياء والطبيعة، خاصةً بعد أن اتفق الفنانون على رفض "المرآتية"، أي نقل الواقع كما هو. فالأشياء بحد ذاتها ليست واقعًا فنيًا، وليس للفنان أو لأي إنسان دخل في بناء الطبيعة، وليس هو قادرًا على نقلها كما هي. لأنه إذا فعل، فسوف ينفي ذاته ويتلاشى موقفه من هذه الأشياء.

إن هدف الفن عند ربيع هو أن يقدم شيئًا جديدًا يُضاف إلى الأشياء، لا أن يكون نسخة عنها. كما أنه، كغيره من الباحثين في أعماق اللامرئيات، لا يقدم لنا فنًا من فراغ، بل هو يقدم ما هو جوهري وأصيل – حسب رؤية خاصة وفي نطاق موقف خاص به".

⊙ ولكن، أعمال بول كلي التجريدية وُصفت بأنها تلتقط عالم الهمهمات والهمسات، عالم التيارات الخفية الباطنية. وقيل عنه إنه "يسمع ما لا قدرة لأذن على سماعه، ويبصر ما لا قدرة لعين على رؤيته، ويشعر بحركة النبات في نموه، ويدرك لغة النقوش المترقرقة على صفحات المياه". فهل تريد لأعمالك أن تقارب هذا المفهوم الخارق للفن؟

نعم، وبالتالي، أتمنى أن يسمع المتلقي صراخي الطويل من خلال منحوتاتي. لا أريد أن أكون نسخةً طبق الأصل عن أحد، ولكني أريد فقط أن أُسمع المتلقي ما أريده – إن كان صراخًا أو همسًا أو همهمات. في داخلي تحريض دائم على أن نكون أفضل، وأرجو أن يصل هذا التحريض إلى المشاهد ويحرك سواكنه.

⊙ منحوتاتك تبدو للناظر واقفة أغلب الأحيان، وكأنك تتعمد محاكاة الشكل الفينيقي القديم، حيث إن التماثيل الفينيقية القديمة غالبًا ما كانت تبدو واقفة، ونادرًا ما نرى لدى الفينيقيين القدماء تمثالًا نائمًا أو قاعدًا؟

لا أتعمد محاكاة الشكل الفينيقي القديم أو أي نوع من أنواع الفن، لكن لا أدري ما الذي يخرج من داخلي؛ لأن ما بداخلي هو الفن الفينيقي، والإغريقي، والآشوري، وأحيانًا الفن الفرعوني. كل هذه التراكمات الفنية موجودة في داخلي، ولكن كيف تخرج ووفق أي أنساق تنبعث... لا أدري.

أنا لا أبحث عن التقليد، أبحث فقط عن كيفية وصول ما أريد التعبير عنه إلى المتلقي.

أنت لاحظت أن منحوتاتي واقفة، ربما أطمح إلى تجسيد الشموخ، وأرجو أن يتحقق ذلك، وإن كنا نبدو مقطّعين.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها