دونيز ماسّون

مُستشرقةٌ بنكهة عربيّة

د. محمد حسن بدرالدين


دونيز ماسون (Denise Masson) أديبة ومستشرقة فرنسيّة وُلدت في الخامس من شهر أغسطس بباريس سنة: 1901م. وتوفّيت في العاشر من شهر نوفمبر 1994م بمدينة مرّاكش المغربيّة. اشتهرت بترجمتها للقرآن الكريم، من العربيّة إلى الفرنسيّة. وتمّ نشر هذه التّرجمة سنة 1976م، ثمّ أقرّها الأزهر سنة: 1979م.

لها أيضاً كتاب: القرآن والدّيانة اليهوديّة والمسيحيّة: دراسات مقارنة. وكتاب التّوحيد في القرآن والتّوراة: نظريّات مقارنة. وكتاب الماء والنّار والنّور، وفق الإنجيل والقرآن والسّنن التوحيديّة.

 

سيّدة مرّاكش:

يبدو من خلال سيرتها أنّها عاشت في فرنسا حياة مرفّهة فيها الكثير من الفنّ والأدب نظراً لاشتغال والديها بالفنون والآداب. فنشأت مستنيرة ومتفتّحة على ثقافات العالم. ولأنّها كاثوليكيّة من حيث النّشأة اتّجهت إلى دراسة الأديان وخاصّة الإسلام. واختارت حياة المدينة في المغرب وبالتّحديد في مدينة مرّاكش العتيقة، وتَرجمت فيها القرآن الكريم بين طيّاتها وفي أحد منازلها. ونظراً لحبّها الكبير لهذه المدينة أُطلق عليها لقب سيّدة مراكش.

اختارت الإقامة بالمدينة العتيقة لمراكش وبالتّحديد في (درب زمران) منذ سنة: 1938 إلى يوم وفاتها. أي ما يقارب: 65 سنة. وقد أكسبها تعلّقها بالثّقافة المغربيّة والدّيانة الإسلاميّة منذ شبابها احتراماً وتقديراً من المثقّفين وكلّ الذين اهتمّوا بأعمالها ومسارها. فالكاتبة الرّوسية نيكول دو بونتشارا، كَتبت عنها كتابًا عن حياتها وآثارها ورسائلها. وقد أقامت هذه الكاتبة الرّوسية قريباً من دونيز ماسّون حيث تفرّغت لكتابة هذا العمل، الذي خصّصته لسيّدة مراكش. واستطاعت أن تتعلّم العربيّة واللّهجة المغربيّة، حتّى تتأقلم مع حياة النّاس، وتفهم طبيعة المجتمع. وكان ذلك التّشجيع مرتبطاً لا محالة بطلب من المعهد الثّقافي الفرنسي لمرّاكش، ومصلحة التّعاون والأنشطة الثقافيّة بالسّفارة الفرنسيّة بالرّباط. وقد قدّمت لنا في هذا الكتاب إضاءات مهمّة عن حياة دونيز وإنجازاتها ومراسلاتها وعلاقتها بالإسلام والمسلمين. وكشفت طبيعة القضايا الرّوحية التي اهتمّت بها وعرضت مواقفها السياسيّة الشّجاعة المنحازة للعرب والمسلمين.

وقد ذكرت الأديبة الرّوسية بونتشارا أنّ دونيز ماسون رغم أنّها كانت متخصّصة ومتعمّقة في القضايا المرتبطة بالإسلام وبالعلاقات بين الدّيانات، غير أنّها ظلّت مجهولة وغير معروفة في بلادها الأمّ فرنسا، وفي البلدان العربيّة والإسلاميّة، ربّما لأنّها كانت ميّالة إلى العزلة والانزواء والابتعاد عن الشّهرة وحبّ الظّهور. ولذلك كان هذا المقال تذكيرًا وتعريفًا بدونيز ماسون.

من الضّروري ألاّ نكون مثل الآخر.. ولكن لا بدّ أن نفهمه ونقدّره:

كانت دونيز ماسون شخصيّة فريدة لا يمكن تصنيفها. امرأة فرنسيّة فخورة بثقافتها، ولكن ملتزمة باستقلال المغرب وحريّته. كانت شغوفة بالعمل الاجتماعي، وكانت مثقّفة أيضًا. وكونها كاثوليكية متحمّسة، لم تتوقّف أبدًا عن الاحترام والإعجاب بالإسلام والمسلمين. لقد كانت حياتها جسرًا بين عالمين وحضارتين. وقد كانت تقول مجسّدة مبدأ التّواصل الحضاري رغم الاختلاف: «من الضّروري ألاّ نكون مثل الآخر، ولكن لا بُدّ أن نفهمه ونقدّره».

وهذه الكلمات كانت أيضاً شعاراً اعتمدته المخرجة: ماري كريستين جامبارت، في الشّريط الوثائقي الذي قدّمت فيه سيرة ماسون سنة: 2011م. ضمن محور: الحوار والمسيحيّة والدّيانات الأخرى. هذا الشّريط هو في الوقت نفسه رحلة حول باب مفتوح إلى حديقة مغلقة، وفق عنوان أحد كتب دينيس ماسون. رحلة ممرّضة شابّة اختارت ممارسة مهنة المساعدة الإنسانيّة والطبيّة في عالم مختلف هو شمال أفريقيا. ولكنّه اكتشافٌ أيضاً للعالم العربي وتعرّفٌ على المسلمين والإسلام عبر الاختلاط والتّثاقف والمشاركة الوجدانيّة. وهي لا محالة صورة إنسانيّة لمثقّفة بدون عُقد، ومسافرة بدون أمتعة وبدون أفكار مسبقة، مدفوعة فقط بفكر عالمي متحمّس للقاء الآخرين. ومنفتح على عوالم مغايرة، تجسَّمَ وتحقَّقَ في مدينة مرّاكش السّاحرة والمدهشة.

ولم يكن يحصل ذلك التّواصل الحضاري والانسجام مع البيئة الجديدة لولا أنّها امرأة مؤمنة ومتحمّسة ومثقّفة أسهمت في تأكيد أهميّة الحوار والتّفاهم بين الأديان والحضارات، واتّخذت مواقف شجاعة، سواء إلى جانب الوطنيين، من أجل استقلال المغرب، أو في التّنديد بالاستعمار وعمله على تكريس التّفاوت الاجتماعي ونشر نظام تعليمي فاشل ومنحاز.

ويبدو أنّ هذا التّعاطف العميق جاء من احتكاكها في صباها وشبابها مع المسلمين في الجزائر ثمّ في المغرب، والتأمّل في سلوكهم وأعمالهم وأخلاقهم. وقد عبّرت عن ذلك بعبارات رقيقة فيها الكثير من عبارات الودّ والتّقدير والتأثّر. حيث قالت: «لقد حزّت في نفسي رؤيتي للمسلمين الجزائريين وهم يصلُّون، يعينون الفقراء، ويحْيَوْن إيمانهم. رغبةً منّي في تعميق

معرفتي بالإسلام، دون أن يهزّ ذلك شيئاً من إيماني بالمسيح الذي يعيش في داخلي. كنت معجبةً إعجاباً كبيراً بإيمان هؤلاء الأشخاص الذين أتعرّف عليهم، وبطريقة رؤيتهم للمقدّس. إنَّ الرّجالَ منهم والنّساء الذين يعيشون دينهم يوميّاً كانوا على قربٍ منّي. وإنَّ تصوّري الخاصّ لعلاقة الإنسان باللّه سمحت لي أيضاً أن أكون في علاقة مع العالم ومع الآخر».

قالت أيضاً معبّرة عن موقفها من الحياة والطّبيعة والنّاس: «لم يكن بمقدوري وأنا في عمر الشّباب إلا أن أنخرطَ بعنفوانٍ في الحياة وبرغبة كبيرة جدّاً، ضدّ الآلام التي أفرزتها الحروب والعنصريّة، والأمراض. كنت مؤمنة بسلطة المفردات: بالكلام، بالقول، بالكتابة، بالتّرجمة، وبسلطة التّفكير والعمل، وبأن أكون وسيلة لتعارف النّاس فيما بينهم، حتّى يصل بعضهم بعضاً في حوار أخوي».
 

ترجمتها للقرآن الكريم:

في عام 1967، نشرت دار غاليمار الفرنسيّة ترجمة للقرآن في سلسلة :(Pléiade) المرموقة، والتي لا تزال حتّى يومنا هذا من أفضل التّرجمات في اللّغة الفرنسيّة. وحتّى الفرنسيّون لم يكونوا يعرفون أنّ مترجمة القرآن هي امرأة فرنسيّة، كاثوليكيّة، قد تعمّقت في دراسة الإسلام وفضّلت أن تعيش في مرّاكش منذ الثّلاثينيات.

معلوم أن ترجمة القرآن الكريم مهمّة شاقّة ومعقّدة؛ فهو متفرّد في لغته ومكثّف في إيحاءاته ومعانيه، وموجز في تعبيراته وبيانه. ورغم أنّ التّرجمة عمليّة متكاملة بين اللّغة والمعنى فإنّها تتطلّب فهماً دقيقاً، وإحاطة بالغة بأساليب اللّغة ونظامها. ورغم أنّها وسيلة مهمّة للتّواصل بين البشر ونقل أفكار الآخرين وتقريبها للاستيعاب والفهم؛ فإنّ المترجم مضطرّ للتعمّق في القواعد والتّراكيب الصرفيّة والمعجميّة، وإدراك دلالة الألفاظ ومعانيها في سياقاتها المتعدّدة. إلاّ أن ذلك كلّه ليس كافياً لمهمّة ترجمة القرآن. لأنّه عالم فسيح لا يدرك شموله إلاّ الضّليع والعالم بتكوّنه ونزوله ومعرفة أسلوب الوحي وأسلوب البشر في الكتابة. فالقرآن يحتوي على مسائل عقائديّة وتعاليم خلقيّة وأحكام شرعيّة وتاريخ أنبياء وأمم، ودعوة ونصيحة وعبرة ونقد وزجر وترغيب، وحجج وشواهد وإشارات إلى آيات اللّه في الكون. فهذا الشّمول يتطلّب فعلا معرفة عريضة بطبيعة القرآن الكريم ومفاهيمه. فكيف كانت تجربة دونيز ماسون في ترجمة القرآن الكريم من اللّغة العربيّة إلى اللّغة الفرنسيّة؟ والحال أنّ كلام العرب أعذب من الماء، وأرقّ من الهواء، إن فسّرته بذاته استصعب، وإن فسّرته بغير معناه استحال.

يبدو أنّ دونيز ماسون أعدّت عدّتها لترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسيّة بروح وثّابة غير هيّابة، وباستعداد طويل النّفس وعميق التّدريب الطّويل. وقد عبّرت عن هذه الإرادة الصّادقة والثّابتة بقولها: «أردت أن أدخل إلى النصّ الأساسي، هذا الذي يرتّب أيّام الكثير من شعوب العالم

ولياليه، ابتداءً من الشّعب المغربي ومن كتابه المقدّس الذي هو القرآن. من ههنا انبثقت ضرورة العمل على ترجمة جيّدة ودقيقة بغية إثراء كتاباتي، وكذلك انبثقت ضرورة أخرى في أن أكون في عمق الإيمان الذي يتحلَّى به المسلمون. إنَّ الترجمة طريق ملَكِي للوصول إليهما معاً».

وقد عبّرت أيضاً عن تعلّقها بالقرآن الكريم من خلال الإحساس بجماله ورونقه فنظرت إليه باعتبارها شاعرة. ثمّ عبّرت عن تعلّقها باللّغة العربيّة التي قضت سنين مديدة في تعلّمها وإتقانها لتكون طيّعة لها في فهم معاني القرآن وثراء أساليبه. إلى جانب البحث في أعماقه وتدبّر آياته قارئة أوّلاً ومتفهّمة ثانياً ومترجمة ثالثاً.

قالت ملخّصة هذا السّعي المتكامل: «لقد سعيت في ترجمتي للنصّ القرآني إلى أن أكون شاعرةً فيه، باحثةً عن الجرس الموسيقي، والإيقاع، حتى يتسنىّ للقارئ أن يسمع النصّ قبل فهمه».

استغرقت مرحلة ترجمة القرآن لدى دونيز ماسون حوالي ثلاثين سنة. وفي ذلك دليل على عمق المثابرة لديها والصّبر على العمل والإنجاز والتّفاني في خدمة المبادئ والطّموحات العريضة. وقد قالت مفتخرة بهذا الإنجاز: «ترجمتي هي ثمرة ثلاثين سنة من الخبرة، قضيتها وسط المدينة في مراكش، على إثرها فهمت القرآن معايشة».

وقد كتب لها روبر ليفاك- وهو أستاذ فلسفة في مرّاكش- خطاباً شكرها فيه على ثراء ترجمتها للقرآن جاء فيه: «بفضلك، أصبح القرآن كتاباً مفهوماً. شهادة لا رجوع عنها؛ ما كان يبدو لُبسًا اتّضح. وسيكتشف القارئ، مأخوذا بالأسلوب الذي أَلْبستِهِ نصّ السّور، إشراقةَ جماٍل منقطعةَ النّظير؛ فينبهر مأخوذا».

ووصف الباحث المغربي محمّد أكمضان ترجمة ماسّون بأنّها: «تتميّز ببساطة أسلوبها وبعدها عن التّرجمة الحرفيّة، وحرصها على أداء المعنى مع مراعاة خصائص اللّغة الفرنسيّة التعبيريّة. فجاءت ترجمتها بريئة من التكلّف والتّعقيد سواء في الألفاظ أو المعاني، بحيث يستطيع أن يفهمها كلّ قارئ عاديّ له حظّ وسط من معرفة اللّغة الفرنسيّة. ولو لم يكن من ذوي الاختصاص».

أمّا رجل الدّين الفرنسي جاك ليفرا، (1934-2013) المتخصّص في الحوار بين الأديان وصاحب عدّة مؤلّفات حول الحوار الإسلامي- المسيحي، فقد اعتبر ترجمة ماسّون متميّزة؛ لأنّها تحتوي مشاعر دينيّة أثارت إعجاب علماء الإسلام ورضاهم، وقلّما وُجدت تلك الصّفات والعواطف في التّرجمات السّابقة عليها.

رحلت دونيز ماسون عن هذه الدّنيا في العاشر من شهر نوفمبر سنة 1994م، بمدينة مرّاكش. عن عمر ناهز 93 سنة. ودُفنت في المقبرة الأوروبيّة بهذه المدينة التي عشقتها وعاشت فيها معظم أيّامها وأحلامها. بعد حياة طويلة حافلة بالمنجزات والتحديّات. فكانت جسرًا بين ثقافتين، وتناغمًا بين حضارتين.

        


المراجع:
- الهواري غزالي، دونيز ماسون، المركز الثّقافي للكتاب، الدّار البيضاء، المغرب، ط1، 2019.
- يوسف، محمّد خير رمضان. تتمّة الأعلام، دار ابن حزم، ط2، بيروت، ج 1، ص: 170.
- صبحي الصّالح، مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، ط 7، بيروت، 1972م.
- مجلّة علامات في النّقد، عدد 48. بحث: محمّد بن محمّد أكمضان، تعامل مترجمي القرآن إلى الفرنسيّة مع الأعلام، ضمن ندوة ترجمة معاني القرآن، 1423هـ.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها