تَرانيمُ المدّ والجزر

قراءة في ديوان "تراتيل الملحاء" للشّاعرة المغربية فتحية ألبو

د. فتحي بن معمّر


الأصل في التّراتيل كما يعرفها الجميع أن تكون بيّنة المقصد؛ إذ هي دعاء أو تسبيح، وأن يكون معناها في ظهر لفظها أو ظاهر لفظها كما يقول أهل البلاغة. غير أنّ "البو" في هذا الديوان "تراتيل الملحاء" الصادر سنة 2021 بالمملكة المغربية، تُسبلُ على التّراتيل رداء الالتباس والغموض الذي ينحو بها صوب القداسة ويوشّحها برداء الهيبة والوقار، فيرتاد القارئ ردهات الدّيوان بمزيج من التهيّب والرّغبة في الاكتشاف ونُشدان النّشوة واقتفاء المعنى. وأيُّ معنى، لتراتيل مسندة بالإضافة إلى الملحاء بكلّ ما توحي به لفظة "الملحاء" من التباس ومتاهات لا مهرب منها إلاّ بالاعتكاف في محراب النّص ومعاقرة "تراتيل الملحاء"، وترديدها ترديد المريد المطيع العارف علّ اللّه يفتح علينا بكُوَى ننفذ منها إلى عمق النّص، ونستشرف بعض معالمه ورؤاه، ونفكّك بعض طلاسمه. وما أكثرها وما أعقدها من طلاسم؟ فحيّا على التّراتيل، وحيّا على التّرتيل في خشوع القارئ العارف بمدارات الشّعر ومتاهاته. وحيّا على المِلاحَة في عباب الدّيوان لاستكناه معالم الملوحة واستكشاف مَلاَحة الشّكل والإيقاع والمعنى.
 



1. في العنوان وارتداداته

إذا فتحنا القواميس وبحثنا، أو حاولنا أن نمسك بمعنى نطمئن إليه للفظة "تراتيل" الواردة في العنوان الأصلي للدّيوان، وفي ستّة عناوين لنصوص فيه، وفي متن بعضها الآخر بشكل يجعلها محلّ تبئير مقصود محفّز على القراءة والحفر؛ فإنّنا سنجد معاني الاستواء والامتداد والتّتابع والتّناسق والتّناغم، والتّرديد بشكل وئيد منغّم، وهذا ما يُسبغ عليها جلال التّرنيم الذي يلج بنا باب المقدّس والمَهِيب والدّيني. غير أنّنا سنجد فيه أيضاً معاني الشِّراك والاصطياد والغواية، والنّسج والاستدراج تنبجس من لفظ "رُتيلاء" المشتقّة من نفس الجذر، والتي تجمع على رُتيْلاوات(1)، وهي "العنكبوت" التي تُجمع على "عناكب"، والتي سُمّيت بها سورة من سور القرآن وانضاف لنا منها إلى المعاني السّابقة معنى "الوهن"، استناداً إلى الآية الكريمة {وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}(2)، وفي الدّيوان من الوهن والوجع والحزن والنّكوص(3)، والخيبة الكثير الكثير.

بيد أنّ اختيار إضافة عبارة تراتيل إلى عبارة "الملحاء" مرسلة دون تشكيل يبدو أمراً محيّراً، فلسنا نعرف على وجه التّحديد هل المقصود "المُلَحاء" بضمّ الحاء أم المقصود "المَلْحَاء" بفتحها، وهي في الصورة الأولى صيغة جمع تزيد الأمر إرباكاً وإيغالا في تجريح المعنى لإخراجه على أكثر من سبيل وطريقة ومنهج. ذلك أنّ مادة "ملح" في القواميس تتفرع لتأخذنا في متاهة أخرى من المعاني التي لا خروج منها؛ إذ فيها ما يتّصل بالمُلوحة والمِلاحة والمَلاحَة والمعنيان الأوّلان على صلة مباشرة بالملح والبحر، وللبحر حضور لافت في الدّيوان فيما ينصرف المعنى الآخر إلى كلّ ما يُستعذب طعماً أو يُستحسن منظراً أو يُستظرف حين يكون قولاً أو سلوكاً أو مشهداً، ولنا في مُلَحِ الوداع عند التّوحيدي أكثر من برهان. إلاّ أنّنا متى أمعنّا النّظر في القواميس والمعاجم وجدنا اللّفظ مفرداً بمعاني مناقضة لما سبق، إذ نجد في اللّسان المَلحَاء من النّعاج: الشّمطاء والملحاء من الشّجر: ما سقط ورقها وبقيت عيدانها خُضراً(4).

وسواء اعتمدنا "المُلحَاء" باعتبارها جمعاً للفظة "مَليحُ" أو "المَلاَّحُ"، أم اعتمدنا لفظة "المَلْحَاء" بمعنييْها المذكورَيْن آنِفاً، فإنّنا أمام قائمة لا متناهية من الرّدهات التي تتشاكل فيها الأساليب والبُنى والمعاني، فتُشْكِلُ النّصوصُ على قارئها رغم السّطح البسيط ظاهرياً كالبحر تماما الدّر في أحشائه كامن.

وعلى هذا؛ فالعنوان الأصلي يفيض على سهول الدّيوان ووهاده، فينبجس منها أو تنبجس منه وتسيل فيه بعض عناصره ومتعلّقاته ومعانيه المباشرة أو الحافّة، كما تنشع منه عيون الإبداع وتسيل بغزارة من نصّ إلى آخر. ذلك أنّ لفظة "تراتيل" ترد في ستّة عناوين لستّة نصوص، خمسة منها في ثوب مركّب إسنادي اسميّ يعطينا لفظة تراتيل في مقام المبتدأ يليها خبر يقع مركّب جرّ على النحو التالي:
تراتيل لوالدي (النّص السّابع)
تراتيل للبحر (النّص التّاسع)
تراتيل للرّيح (النّص السّادس والثلاثون)
تراتيل للوطن (النّص الثّامن والثلاثون)
تراتيل للذّات (النّص الثاني والأربعون)

بينما يحاكي في عنوان واحد التركيب الإضافي لعنوان الدّيوان وهو عنوان النّص التاسع والثلاثون "تراتيل السندريات"، والتّراتيل في هذا النّص تلخّص تقريباً ما تعايشه الذّات فرداً وجماعة من معاناة، وما يعرفه الوطن من عصف الرّيح وهيجان البحر واضطرابه حين تُرنّمُ في خشوع في نفس النّص ص 93 من الدّيوان:
"نحن فقراؤك
يا الله
نفكّ طلاسم الطّريق
ونرصّف الحصى
مواعيدَ للفرح
بتسعيرات آجلة"

ولا يقتصر سيحان لفظ "تراتيل" على العنونة فحسب، بل يكتسح النّصوص أيضاً، فيرد باطّراد صريحاً أو بما يجانسه جناساً غير تامّ لكنّه على العموم جناس دالّ دون شكّ. فبين "تراتيل" و"تراحيل" اختلاف في حرف واحد مع ما يُضيفه إليها الجناس المبتور مع لفظة "رحيل" الكثيرة الورود في النّصوص بصيغ مختلفة. ولذلك فمن المفيد في رأينا أن نلج هذا الدّيوان بترسانة من الكلمات المفاتيح التي نقتنصها من نصوصه لكثرة ورودها، ولصلتها بالعنوان الأصلي ومنها: البحر – الموج – الرّحيل – تراتيل – تراحيل .. وغيرها.


2. في النّقر على الكلمات المفاتيح

إذا أمعنّا النّظر في نصوص الدّيوان فستستوقفنا العديد من العبارات ذات العلاقة من قريب أو بعيد بعنوان الديوان. غير أنّنا سنحاول تبيان ذلك من خلال عبارتين اثنتيْن تتشظّى كلّ منهما إلى عبارات فرعية عديدة:

أ-البحر ومتعلّقاته

البحر ومتعلّقاته من موج وشاطئ ومدّ وجزر وزرقة، وهو بملحه وملوحته، وما يتّصل بها من معاني المِلاحة والسّفر ينسجم ويتناغم مع المضاف إليه في عنوان الدّيوان "الملحاء"، بل إنّه يحضر في بعض النّصوص معنى ومبنى وإيقاعاً، حيث تخاطبه في نص "تراتيل للبحر" ص 22:
"عزيزي البحرُ
أودعتك جناحيّ
قل للنّوارس
أن تُبطئ قليلاً"

بل إنّها تتماهى معه في نفس النّص حين تهمس له:
"مثلك
يا صاحبي البحر
نبضي عالق
بين المدّ والجزر"
(5)

فهي إذن بين غدوّ ورواح وإقدام وإحجام تتردّد بين الأمل والحلم والخيبة والخوف والنّكوص، كما يرد في عناوين بعض نصوصها. بينما يرد لفظ الشاطئ في قفلة النّص ملخّصاً علاقتها بالبحر ومسارها كإنسان وشاعرة تراوح مكانها بين الحيرة والتيه، وبين إشراق الفجر المغري بالانطلاق وعين القرصان الرّاصدة المتربّصة:
"أعلام الشاطئ حائرة
هذه الموجة
تحمل فجري
في يدها
وفي اليد الأخرى
عين قرصان"
(6)

وهذا ما يجعلنا نمضي مباشرة في النّص اللاّحق لهذا النّص إلى استعارة طريفة تلوح سافرة منذ العنوان، حين تربط ربطاً تلازمياً بين عنصر مائع سائل متحرّك هو "الموج"، وبين طبيعة الطّبقات السّاكنة الجامدة التي نفهمها من عبارة "أركيولوجيا"(7)، فإذا الموج طبقات في استثمار خفيّ وغير معلن للآية القرآنية الكريمة {يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات}(8)، لتصير الطبقات الموجية عندها أربعة منضّدة بشكل يعكس معاناة الإنسان، حين تعرض لنا في ثلاث لوحات نماذج من صراع الإنسان مع الوحدة والتيه والضّياع والفراغ والغربة، منذ بدء الخليقة إلى اللحظة التي تعيشها الشاعرة. والديوان بهذا المعنى حفر في مسار الإنسان. بينما تَضلّ الموجة الرّابعة طريقها فيضيع معها الإنسان ويغادر شطآنا لا أمل يُرجى منها، فحاول أن تقرأ معي النّص منضّداً بهذا الشّكل:

العنوان: أركيولوجيا الموج

1 على موجته الأولى
رسم البحر بابا
يُقيم وحده
بعد رحيل الجدران

2 من موجته الثّانيّة
نحت امرأة وحيدة
وحقيبةَ سفر
مصابةً بالدّوار

3 على الموجة الثّالثة
رسم طفلاً عابراً
يطبع على خدّ المرأة
سنواته الأربع

بينما ترتدّ الموجة الرابعة إلى التوهان، وركن البحر إلى الوجوم في حضرة النّور الباهر للشّمس والحبّ المأمول.

4 الموجة الرّابعة تاهت
البحر واجم
وفي البعيد
قلب يحمل شمساً
وامرأة تغادر الشّطآن

يبدو لنا النّص حين عرضناه بهذا الشّكل منضّداً بشكل مقصود أسطراً وإيقاعاً ومعنى، إذ نلاحظ هذا الاعتماد في اللوحات الثلاث الأولى على أربعة أسطر لكلّ لوحة، بينما كانت الرّابعة بخمسة أسطر. ولعلّ الجامع بين هذه الطّبقات الموجيّة هو الفراغ والسّفر، أو لنقل الحركة الخاوية الوفاض من النتائج المرجوّة بما يحفّز على الرّحيل مرّة أخرى، لكنّ إلى الضّياع والخواء وفي ذلك أكثر من إشارة وأبلغ من رمز، لا شكّ أنّ الشّاعرة رمت إليه وهصرته حتى استقام موجة عاتية من الأسئلة تعصف بالقارئ.

غير أنّ هذا البحر قد يصير حلماً بعيد المنال أو صنوَ كلّ حلم يتلاشى بمجرّد الإدراك أنّه مجرّد حلم. فانظر إلى نصّ حلم صفحة 56 كيف انبنى على البحر وبعض متعلّقاته، ومنها الزّرقة بهذا الشّكل لتبرز استحالة تحقيق الحلم: فقد كان التّواعد "على زرقة اللقاء" غير أنّ التقابل بين ضميريْ "أنتَ" و"أنا"، من حيث القول والفعل يجعل اللقاء مستحيلاً:
"جئتَ في وقتك
بالدّقيقة
بتوقيت الهناك"

"جئتُ متأخّرة
في وقتي
بتوقيت الهُنا"

فيستجيب البحر لهذا التّقابل ويتحالف مع هذا التّقابل، فيغيب ولا يأتي فينعدم اللّقاء:
"ولم يأت البحر
بقي مختبئا
في قوقعة طفل"

فالبحر بما هو حلم وخطر تيمة من التّيمات التي تشدّ أزر النّص، كما تشدّ أزر الدّيوان وترفع عماده لفظاً وإيقاعاً ومبنى.

ب- الرّحيل – رحيل – تراحيل

أوّل ما تصادفنا عبارة "تراحيل" المثيرة لكثير من الأسئلة حول اشتقاقها ومعناها في نصّ "ماذا لو" ص 11. فهل هي جمع لكلمة "ترحيل" بمعنى طرد وتأجيل وإرجاء، أم هي لفظ جامع لمعاني المرحلية والارتحال وما يلحق بها من معاني التّسويف(9)، وهو من عناوين نصوص هذا الدّيوان ومن الطّريف أنّه النص الذي لا أحسب إلاّ مقصوداً وروده بين نصّ "تراتيل للرّيح"، و"تراتيل للوطن"، وكم سوّف أهل الوطن فيما يخصّ الوطن وأهله بكلام ووعود تذهب أدراج الرّياح. كما ترد بعض العبارات ذات العلاقة بالسّفر والرّحيل والارتحال، فما الحياة إلاّ رحلة من قبيل "راحل" – "رحيلي"، كما ترد بعض متعلّقاته في عناوين عديدة مثل: "جسر الفراق" ص 15 و"ذاكرة محّطة" ص 29 وغير ذلك كثير.

أمّا نصّ "تراحيل" بالصفحة 31 فهو نصّ يقوم على رحيل واهم أو رحيل منشود لا يتحقّق. إذ هو رحيل إلى الذّات لتكتشف عجزها عن التّرحال والتّحوّل مكانياً وزمانياً ونفسيّاً، فإذا هي نفس حيرى مقيمة على العجز والتردّد، تركب بحراً لجّياً ولا مرساة، ذلك أنّ هذا النّص ينبني بطريقة تشي بهذا العجز بل تنقله إلينا حيّاً فظيعاً جاثما يُنيخ على الذّات بكلّ عناصره ومتعلّقاته. ولإدراك هذا يمكن لنا أن نفكّك هذا النّص وأن نعيد تركيبه على النّحو التّالي من خلال تقسيم النّص إلى مراحل يتحقّق فيها فعل ما، ثمّ نحاول الكشف عن طبيعة ذلك الفعل وكيفيّة تحققّه.

فالمرحلة الأولى مرحلة الفعل الذي كانت طبيعته إطلالة على الذّات، وهذا الإطلال يتحّقق من خلال الجملة الفعلية "أُسْدِلُني عليَّ" أمّا المرحلة الثّانيّة فكانت مرحلة تحديد نتيجة الفعل التي كانت طبيعته انكشاف السّر للذّات بفاعل خارجي مأمول وغير متحقّق، نتعرّف على طريقة تحقّقه من خلال عبارة "فتكشفني مدارات الرّحيل". في حين تهتم المرحلة الثالثة بحقيقة هذا الفعل الذي يتّسم والعبارة لها بـ"مرارة الحقيقة ومدارات التّراحيل"، أمّا طبيعة هذه الحقيقة المرّة فقد اتّسمت بـ"التقوقع على الذّات"، و"عجز عن اجتثاث الظّمأ"، و"العجز عن الارتواء زمن القرب والوصال"، وكلّ ذلك كان تحقّقه من خلال التّركيز على الأسطر التي تؤكّد الارتداد إلى الذّات: "كلّ رحالي كانت إليّ"، و"لا البعد اجتثّ الظمأ .. ولا في القرب ارتويت".

ثمّ تدرّجنا في المرحلة الرّابعة إلى مآل الفعل الذي تتلخّص ملامحه في "عودة الآخر وأوبته"، و"القلب تسكنه الأشباح" في رحلة "سفر عبثي" لتكون الحصيلة "ضياع وتيه"، يتحقّق بعنف من خلال هذا البوح والاعتراف:
"كلّ السّفن عادت
وقلبي، بأشباحه
يجوب البحر
ولا مرساة"

وعلى هذا فلفظة "التّراحيل" لفظة حبلى ومجلّلة بمعاني التّسويف والتأجيل والسّفر الدّائم دونما بوصلة ولا وصول إلى مكان معلوم، كرحلة الإنسان من الميلاد إلى الموت يجري ولكنّه لا يكاد يدرك ما بعد موته من أمور. ولعلّنا بهذا التبئير على تيمة الرّحيل غير ذي الجدوى نقف على أرض رجراجة من الأسئلة الوجوديّة المحيّرة. فهذا الرّحيل المستمرّ يصير قدراً حتميّاً وقانوناً حياتيّاً يضاهي قوانين الطّبيعة. ففي نص "رسائل قصيرة" صفحة 39 تخاطب الشّاعرة اللّيل:
"هات يدك
أيّها اللّيل
فكلانا منذور للرّحيل"
(10)

وعلى هذا فهذه الذّات الحائرة "سيّئة في عدّ المسافات"(11)، ولذلك فهي نفس مقيمة على الخوف الذي نراه جليّاً جبّاراً في نصّ "أخاف"، ذي العنوان السّافر العاري من الاستعارة والمواربة، حيث يكتسحها الخوف من كلّ شيء، من العوامل الخارجية ومن النّوازع النّفسية الذّاتية، يحقّقه هذا التّناظر الطّريف في النّص شكلاً وإيقاعاً ومعنى:

أخاف                                                                
من يد تمتد
من جسر يرتدّ
من ظلّ يقطُر ظلّي
من قيد(12)

أخاف
من صرح داخلي
ينهدّ
من شمس تسحب وشاحها
بعيداً
بلا أثر
بلا عدّ(13)

ولعلّ هذا الخوف المنضّد المقيم وهذه الحيرة، وهذا العجز هو الذي يجعل الشاعرة تحتمي بالتّراتيل.
 

3. في التّوشيح والتّناص والمرجع

ليس من العسير على القارئ وهو يتصفّح هذا الديّوان أن يكتشف أنّ الشّاعرة تعمد إلى توشيح نصوصها بألفاظ من لغات أخرى، وترسمها بحروفها اللاتينية، إذ ترد في العناوين كما ترد في المتن، حيث عنونت النص صفحة 49 بـCode والنّص صفحة 103 بـ Nochevieja وبين النّصين أكثر من علاقة ومعنى ورابط، فالنّص الأوّل يشي بأنّ الذات سيئة في عدّ المسافات متردّدة فاشلة في تحقيق الرّحيل، أو في ترحيل ما يعترضها من صعوبات وما ينتابها من حيرات تُلْغِزُ عليها، بينما في النّص الثّاني حديث عن الرّاحلة المفترضة "أيّتها الرّاحلة هناك"(14) في رأس المقطع الأوّل، ثمّ "أيتها الراحلة" في المقطع الثّاني(15)، وكأنّنا أمام رحلة صعبة التّحقيق في النّص ص 49 وهذا ما يسبّب ألما للذّات، تصير متحقّقة في النّص ص 103 ذي العنوان الذي يعني في اللّغة الإسبانية "رأس السنة" متحقّقة لكنّها مؤلمة لمَنْ هُجِر وتُركَ يتجرّع مرارة الغياب فيصير النّص خطاباً لهذه الرّاحلة، ويصير الرّحيل مرّاً فظّاً بوجهيه للرّاحل والمرتحل عنه وإن أسعد طرفاً أشقى الثّاني. ويبدو من خلال مدلول العنوانين أنّ حياة الإنسان عموماً تمرّ من رأس سنة إلى أخرى في رحلة واهنة من نقطة البداية إلى نقطة النّهاية دون قدرة على فكّ القانون أو الشيفرة، أو الرمز أو السرّ الذي تُجمله الشاعرة في لفظة Code الفرنسية اللّسان.

غير أنّ هذا التّوشيح باللّفظ الأجنبي لا يُكتفى به في العناوين فحسب، بل يرد في متن النّصوص أيضاً، حيث ترد في صفحة 45 عبارة Puzzle وهي تعني مشهدًا يركّب من الصّور المتناثرة في الأصل، لكنّها في سياق نصّ بعنوان "استعصاء" يصبح شاهداً ودليلاً على معاناة المرأة ومكابدتها من أجل إثبات الوجود:
"المرأة على الجسر المهجور
قطعة puzzle
وخلف الأبواب
عيون فرح لا تضيء"
(16)

في حين تورد في نصّ "حنين" بالصفحة 70 ألفاظاً من اللّغة الإسبانية تستعيد بها طفولتها، وهي تلعب لعبة النّط على المربّعات، فتحضر عبارات abajo وarriba وmala وهي تعني تقريباً فوق وتحت محاكاة للعبة القفز والنّط في اللفظين الأوّلين، وتعني خطأ أو سيئ أو سيئة تناغماً مع ما ورد في النّص صفحة 49 كما أسلفنا، وتصير بذلك سيئة في تقدير المسافات منذ طفولتها.

لكنّ هذا التّوشيح وهذا التّطعيم من اللّغات الأجنبيّة لا يُخرجها من دائرة ثقافتها العربية الإسلامية، ومن دائرة الشّعر العربي القديم رغم نزعتها الحداثية الواضحة. فهي تعود إلى هذا المحيط العربي الذي تنطلق منه وتعيش فيه وتنتسب إليه. ولذلك فهي تعود إلى عصوره الأولى، وتذكر أحد الشّعراء البارزين وهو الشاعر المعروف بـ"ديك الجنّ"(17) حين تعنون أحد نصوصها بـ"إطلالة على ديك الجنّ"، وهو النّص الذي يتوسّط الدّيوان تقريباً، وكأنّه وتده الذي يرتكز عليه حيث يرد بالصفحة ،57 فإذا هي في تقديري إطلالة على قيم ذابت، هي قيم الإباء والثّورة والتمرّد أوّلاً، وهي إطلالة على مذهب في الحياة والغنيمة من متعها ثانيّاً وإطلالة على مذهب بديع في القول ينشد الإجادة ويعلن الثّورة والتّجديد، وإن عبّر عن حيرة وتيه أحياناً ثالثاً، وبالتالي هي إطلالة على مدارات الإبداع والإباء والأصالة والفنّ والسّكر بقول الشّعر حدّ "السّهوب" و"الهذيان" وسَوْرَة الهبوب"، والعبارات من متن النّص. وعلى هذا فديوانها يقع في هذه المنطقة المترجرجة بين "سَوْرَة الهبوب"(18) بما هي لحظة انبجاس الإبداع وانفجار القول ولحظة "هذيان السّهوب"(19)، بما هي حالة فريدة يعيشها المبدع في مخاض متعسّر ليقف على "سَوْرَة موج قديم"(20)، حين يكتشف المرء ذاته المقيمة على الضّيم.

ولأنّها تكشف ذاتها وتكتشفها، فهي لا تقف عند ماض سحيق تستلهم منه بل تستند إلى من عاصرها من الشّعراء الذين عاشوا زماناً قلقاً كزمان "ديك الجنّ"، فسكروا بخمرة الشّعر وخمرة الثّورة والنّضال حين تقتبس لفظاً من قصيدة شهيرة لمحمود درويش لتجعلها عنواناً لنصّها. فحينما يقرأ المتصفّح عنوان "سجّل"، سيستحضر حتماً قول درويش "سجّل أنا عربي" التي تعيدها كما هي بين ظفرين في نصّها أيضاً، غيرّ أنّها لا تقرّه على امتطاء صهوة العروبة بل تذهب بعيداً وكأنّها تعارضه تقليداً من حيث اللّفظ والشّكل والنّبرة، وتعارضه مفارقة وضدّاً من حيث المعنى والقصد والانزياح، فحين نقارن بين السّطر المقتبس من درويش "سجّل أنا عربيّ" في مطلع نصّها "سجّل" صفحة 51، والمقطع الأخير من نفس النّص ندرك حجم الانزياح إذ تُردّد بنفس نبرة درويش:
"أنا ذكرى أندلس
أنا الدّرويش
أنا توقيع الأنبياء
ولو نزف بجرحي
كلّ الماء"
(21)

وبحضور الأنبياء والنزّيف تحضر صورة مرجعية مهمّة في الشّعر الحديث لدى العديد من الشّعراء، حين تورد في نصّ "مقامات الخداع" ص 48:
"ثلاثا صاح الدّيك
وهذه اللّيلة
لا تنتهي
أنا الذّئب
يا الله
وهذا الدّم
على أصابع الأخوة
يشهد لي"
(22)

قفلة
 وبناء عليه؛ فإنّ هذا الديوان الذي تضعه "فتحية البو" بين أيدينا، يبدو نصّاً مُلغزًا يستغلق بقدر ما ينفتح؛ لأنّه يشدّنا إلى اللايقين كما تصرّح بالصفحة 35:
"قلبي
كالرّمل
كلّما اهتزّ لبارق صُبحٍ
شدّني لمهاويه
هذا اللايقين"
(23)

لكنّه يظلّ نصّاً مغريّاً يستفزّ القارئ بكلّ ما فيه من تردّد وغنائية، تحقّقها شعرية العبارة، ومن إيقاع يُرسيه سحر التّركيب ويُثريه التّقطيع، وتشدّ أزره بعض الأصوات التي تتكرّر أواخر الأسطر، بالإضافة إلى هذا التعريج الكبير على حيرة الإنسان الجديد وقلقه الذي بات يتعاظم في زمن ما بعد الحداثة التي تتشظّى فيه أشعار "البو"، وتندرج فيه فتزيدنا حيرة وارتكاساً وتردّداً، فنردّد معها "ماذا لو .."، ونرتّل قولها "يحدث أن ..".
 


الهوامش: (1) انظر على سبيل المثال مادة "رتل" في "المنجد في اللغة العربية المعاصرة". دار الشّروق. ط2. 2001. ص: 532. ┋ (2) سورة العنكبوت، الآية: 41. ┋ (3) نكوص عنوان النّص الرابع عشر في الديوان، ص: 37. ┋ (4) انظر لسان العرب في موقع الباحث العربي┋(5) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 23. ┋ (6) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 26. ┋ (7) الاركيولوجيا هو علم الأثار. ┋ (8)  انظر الآية 40 من سورة النّور "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ". ┋ (9) "تسويف" عنوان النّص، ص: 86. ┋ (10) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 39. ┋ (11) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 49. ┋ (12) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 68. ┋ (13) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 69. ┋ (14) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 103. ┋ (15) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 104. ┋ (16) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 45. ┋ (17) شاعر عبّاسي اسمه الأصلي عبد السلام بن رغبان بن عبدالسلام الحمصي عاش ما بين 161هـ و238هـ، عُرف بجودة شعره حتّى قيل إنّه ممن اختلف منهم المتنبي الكثير، وعُرف بمجونه ومعاقرته للخمر وولعه بالفتيات والغلمان عشق "ورد"، وتزوجها ثمّ قتلها بسيفه. ويعدّ من أشدّ المعجبين بالشعراء الصّعاليك وقيمهم. ┋ (18) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 58. ┋ (19) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 58. ┋ (20) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 46. ┋ (21) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 52. ┋ (22) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 48. ┋ (23) البو (فتحية) تراتيل الملحاء. ط1. المغرب. 2021، ص: 35.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها