أبدعت المخرجة مليكة ماء العينين في إخراج وثائقي حافل بالصورة والمعرفة التراثية، حمل عنوان: سنابك الخيل. ونظراً لثراء المحتوى وجاذبية الموضوع، كان من الأهمية بمكان تسليط بعض أشعة النور على المحتوى التراثي الذي يحفل به التسجيل الوثائقي الذي يبرز أهمية انتقال عوائد وتقاليد تربية الخيول من جيل إلى جيل؛ إذ يظهر الشريط الحرص الشديد على اختيار أعرق الخيول أصلًا، وإبراز مهارات سوْسها وركوبها والعدو بها في إطار ما يسمى "التبوريدة" التي تعرف في واد نون بـ"لعب الخيل".
سنابك الخيل.. عنوان يحيل على أصالة مستعادة:
استخرجت المخرجة مليكة ماء العينين عنوان شريطها الوثائقي من كنانة الشعر العربي الذي احتفى كثيراً بالخيل، خاصة وأنها كانت الصاحب في الحرب، فهذا المتنبي يقول:
عقدت سنابكها عليها عِثيراً ... لو تبتغي عنَقاً عليه لأمكنا
السنابك جمع سنبك، وهو مقدم حافر الفرس، والبيت الشعري أعلاه يصف سرعة الخيل حين تجري وتثير النقع. وذلك مشهد نجده في مقاطع عديدة من الشريط الوثائقي الذي تظهر فيه حوافر الخيل، وهي بين يدي حرفي مختص في صنع وتركيب حدوة الفرس. ورغم أن المتخيل الشعبي يحتفي بناصية الفرس أكثر من عنايته بالسنابك بدليل المأثور الحساني القائل: "ألّا نواصي، ولاّ كَصاصي، ولاّ ديكَة من ديكَات العرب"؛ فإن اختيار السنابك يحيل على المحتوى الذي يستعيد لحظات من ماضي استخدام الخيل في الحروب، كي يسلط النور على الزمن الراهن الذي يشهد تحوّل وظيفتها من آلة الحرب إلى مطية اللعب في مضمار يحاكي ساحة الوغى، حيث ينبغي على الفارس أن يتحلى برباطة الجأش وقوة الشكيمة، ومهارة الرمي باستعمال البارود.
الخيل الجريحة زمن الحرب ميسم للتمييز بين الشجعان والجبناء:
في أثناء استعراض استعمالات الخيل في الماضي، صرح أحد المستجوبين ممن راكموا خبرة ومعرفة موروثة عن الأسلاف بالخيل وشؤونها؛ بأن شيخ القبيلة كان يتفحص الخيول المصابة بعد عودة الفرسان من المعركة، فإن كانت الإصابة قد مست "الكفل" أي الجانب الخلفي للفرس، فتلك أمارة الفرار ووسم الجبن، أما إذا كانت قد أصيب في النحر أو الصدر، فإن الفارس الذي كان يمتطيها يكرّم على أساس أنه مقدام شجاع، لم يولّ الخصوم الدبر، لذلك يجزل له الشيخ العطاء، ويعظم له المكافأة بالتنازل له عن فرسه، لما في ذلك من تكريم مستحق، فكأن الفارس قد نال شرف قيادة القبيلة بامتطاء فرس شيخها. وهذه الالتفاتة الرمزية التي رسخها الشريط تذكر بقصيدة حسانية يمتدح فيها الشاعر الدخيل ولد سيدي بابا أحد المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي حين فقَد مطيته، وهي مقدمة لا مدبرة:
مِيتتْ فرسك ما تحزم حَدْ .. فَرْسَكْ ماتتْ فسْمعها بعد1
أي أن موت الفرس لم تحزن أحداً؛ لأنها ماتت مقدمة في ساحة الشرف، فنالت السمعة التي تستحقها، فنبل الفرس من نبل الفارس.
الخيل معقود في نواصيها الخير:
جرى هذا الحديث النبوي على لسان أحد ضيوف الشريط الوثائقي، بينما أبرزت سيدة مغرمة بركوب الخيل أنها ورثت حب الخيول العراب منذ اشترى والدها فرساً سماه: ميمون، وهو اسم دال التفاؤل باليمن والخير والبركة، أما قائد سربة خيل تليوين؛ القرية الواقعة على بعد كيلومترات من مدينة كلميم عاصمة جهة واد نون، فقد استعاد في جزء من شهادته بعض وظائف الخيل في حياة سكان القرية؛ إذ كانوا يذهبون إلى الأسواق الأسبوعية على ظهور الخيول التي تحمل أمتعتهم وسلعهم ومشترياتهم ذهاباً وإياباً، ويحملون عليها الهدايا للعروس، ويمتطونها في رحلات الصيد وغير ذلك كثير. وقد ساعدت البيئة وسحر الطبيعة في أرياف واد نون على امتلاك الخيل وتربيتها، إذ توفر البيادر والمراعي الكلأ المناسب للخيل التي تعاف أكل الحشائش والأعلاف غير الطيبة. وليس سراً أن سربات الخيل التي تشارك في مسابقات التبوريدة أو لعب الخيل؛ إنما تتشكل من شباب تلك الأرياف الذين ألفوا وعشقوا ركوب الخيل، ولذلك، لا تجد في المدينة اصطبلات أو أنْديةٍ لتربية الخيل، بقدر ما تجدها رابضة في "الأحواش" في القرى والأرياف المحيطة بالمدينة.
صبيان وشبان مدربون على ركوب الخيل:
من المشاهد المؤثرة التي التقطتها عين الكاميرا مشهد صبي يركب الفرس ويسير حذو والده الذي يعلمه فن الفروسية، إذ يوجهه إلى كيفية التحكم في اللجام، وهمز الفرس كي يباشر الجري. ونظراً لحداثة سنه، فقد أدركه الإعياء سريعاً، فانتبه والده لذلك، ووجهه كي يسير الهوينا بفرسه إلى مربطها، حيث قادها بسلاسة تنم عن طول مراس الصبي في تعلم ركوب الخيل.
ولعل الجزء الأكبر من الرسالة التي يحملها الشريط الوثائقي إلى المشاهد أو المتلقي هي ولعُ الشبان بركوب الخيل، وخضوعهم إلى تدريبات فنية تتعلق بالتبوريدة، حيث يتدربون على السير مع السربة، وفق إيقاع سريع في احترام تام للخطوات التي يأمر بها المدرب، والقيام بكافة الحركات السريعة التي تتطلبها مسابقات التبوريدة دون استعمال البارود الذي يظهر مقطع من الشريط كيفية حشوه في المكحلة أو البندقية، وكيفية التأكد من فراغ الماسورة بعد إطلاقه خلال اللعب.
تشكيل السربة أو فريق الخيالة من أجل المشاركة في المسابقات المحلية والوطنية، يخضع كما يبرز الشريط إلى قدرة قائد السربة على الإقناع، وإحداث التوافق بين الشبان الذين ينتمي أغلبهم إلى مداشر متقاربة، إذ إن أغلب السربات تكتسب اسمها من المنطقة أو القبيلة التي ينتمي إليها أغلب الفرسان.
حرف تقليدية في طور الانقراض:
يسلط الشريط الوثائقي بعض أشعة النور على بعض الحرف المرتبطة بالفروسية وتربية الخيل؛ إذ يمارس أحد الحرفيين أمام أعين الكاميرا حرفته النادرة في مجتمع الصحراء اليوم، وهي حرفة تجهيز حوافر الحصان بالحدوة، بعد تنقية الحافر من بعض الشوائب والقشور الخارجية التي قد تحول دون تركيب سليم للحدوة التي تعين الفرس على السير في المفازات والأحراش، دون أن تتأذى حوافره. ويبدو أن الفرس معتاد على رؤية هذا الحرفي والاستئناس بوجوده، إذ لم تصدر عنه أية حركة نشاز قد تشوش على عملية تركيب الحدوة. ومن اللافت للانتباه أن هذا الحرفي صرح برغبته الأكيدة في تمهير غيره من الشبان من أجل إكسابهم مهارات هذه الحرفة التي أصبحت مهددة بالانقراض.
ومن المفيد الإشارة إلى أن ثمة حرف تقليدية كثيرة تؤمن استمرار لعبة التبوريدة التي أصبحت تراثاً مغربياً مسجلًا على لوائح اليونسكو، وقد أصبح الصناع التقليديون المهرة بتلك الحرف والصناعات التقليدية في تناقص مستمر، في ظل استنكاف الأجيال الحديثة عن ممارسة تلك الحرف التي لا تؤمن دخلًا مجزياً نظراً إلى ضعف الطلب. وقد أظهرت تصريحات السيد الناصحي قائد سربة تيلوين أنهم دأبوا على استقدام السروج الفاخرة وكل مشتملات جهاز الفرس من المدن العتيقة مثل فاس ومراكش وآسفي، الأمر الذي يثقل كواهل مربي الخيول المعدة للمسابقات بنفقات إضافية تتعلق بالنقل والشحن، إذ لا وجود في المناطق الجنوبية للحرفيين المختصين في هذا النوع من المصنوعات التقليدية.
وليس سراً أن تربية الخيول بمنطقة واد نون على غرار باقي مناطق المملكة تتطلب نفقات كثيرة، ففضلًا عن ضرورة اختيار الخيل الأصيلة (عربي-بربري)، فإن رعاية تلك الخيول وتربيتها، وإعدادها وفق الشروط المتطلبة في مسابقات التبوريدة، يجعل اللعبة مكلفة للغاية بالرغم من أنها جاذبة ومسلية لجمهور واسع في المغرب.
هل التبوريدة لعبة خطيرة؟
يتبادر هذا السؤال إلى ذهن المشاهد حين يرى مشهد قدمٍ مصابة على نحو شديد؛ إذ تعرض أحد الشباب المستجوبين إلى إصابة بالخطأ إثر تصويب زميله في الفرقة فوهة البندقية نحو قدمه، مما دفع الأطباء إلى إخضاعه إلى ثلاث عمليات جراحية كي تستوي قدمه على الشكل المريع الذي تظهر عليه خلال الشريط، كما أن أحد المستجوبين عرض أمام أعين الكاميرا بعض بقايا ثوب فارس أصابته شظايا بارود، أما السيد الناصحي فقد أكد في شهادته على بعض الحوادث التي تتخلل مسابقات التبوريدة بأنها فظيعة ومؤلمة للغاية، إذ بترت بعض أصابع شقيقيه في حادثين متفرقين. وهنا يثور السؤال: لماذا يستمر الناس في ممارسة لعبة محفوفة بمخاطر الإصابة بالبارود، أو الوقوع من على ظهر مطية في منتهى سرعتها؟ الجواب جاء على لسان أحد الشبان المتعافين من الإصابة: إن عشقنا للخيل هو سرّ إصرارنا على استئناف التبوريدة بعد التماثل للشفاء.
انقر العنوان لمشاهدة الوثائقي
خاتمة:
يمتاز الشريط الوثائقي سنابك الخيل بروعة الإخراج، وجمال الصورة، وحسن انتقاء المشاهد، إذ يعرض الشريط منظراً طبيعياً يانعاً، يذكر بجمال حقول الصبار قبل أن تحتاجها جائحة الحشرة القرمزية التي صيّرتها رماداً كأن لم تغن ولم تينع بالأمس، ولعل أجمل المشاهد التي تسلب الألباب هو استحمام الخيول على شاطئ بهي.
1. شذرات من أدب البيظان، جمع وشرح محمد السويح والسالك اليزيد، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، الرباط، 2015، ص: 40.