نظريـة التغريب والإبعاد لدى بِرتولد بريخْت

"حينما يغدو المسرح وسيلة لإِعمال العقل وممارسة التفكير"

بدر الدحاني

نجد من بين أهم الركائز الأساسية التي تتأسس عليها النظرية الملحمية في المسرح، أسلوب "التكنيك التغريبي" الذي ينهل من الجدلية المادية (الدياليكتيكية)؛ إنه بمثابة المنهج الذي يُوقظ ديناميكية الفكر والإنتاج المعرفي بغاية تحقيق تأثير التغريب، ومجاوزة المسرح الكلاسيكي بطبيعته الدرامية السائدة؛ إنه تكنيك عملي يدعو إلى المشاركة الجدلية الفعَّالة للمتلقّ فكرياً ومعرفياً. إن تصور برشت المسرحي هو بمثابة رؤية فكرية عميقة ترتكز على ثنائية الخلق والابتكار، كما تقوم على تحقيق الغايات التعليمية، أي إحداث ذلك التغيير الذي كان يطمح له بريخت دائماً في ممارسته المسرحية، وخاصة من خلال العلاقة الجدلية التي تربط المسرح بالعلم. فما هو إذن مفهوم التكنيك التغريبي؟ وعلى أية ركائز تتأسس النظرية الملحمية في المسرح؟ وإلى أي حد يساهم الأسلوب التغريبي في تفعيل ديناميكية العقل وممارسة التفكير؟

 

في مفهوم التكنيك التغريبي

يعد مفهوم "التكنيك التغريبي" من المفاهيم الثائرة على النمطية والابتذال في الأداء التمثيلي خاصة، والعرض المسرحي عامة؛ وهو من المناهج الأدائية التي تبناها المسرحي الألماني "برتولد بريخت" في فلسفته الفنية والمسرحية، والتي تقوم على تحرير الخشبة من الطبيعية المفرطة، وفسح المجال للخيال والتعبير الخلاَّق. وقد عرَّف بريخت من خلال كتابه "نظرية المسرح الملحمي" مفهوم "التكنيك التغريبي" قائلاً: "إن هدف التكنيك ذي التأثير التغريبي يتلخص في الإيحاء للمُشاهد بعلاقة تحليلية انتقادية تجاه الأحداث المصورة. أما الوسائل فتكون فنية"1. وهذا بالذات ما يغدو إليه "برشت" في فلسفته المسرحية، تحقيق "تأثير التغريب"، قصد وضع المُشاهد أمام محطات تأملية عميقة، تقتضي منه المُساءلة الإشكالية في قضايا الأحداث المصورة داخل العرض المسرحي، وذلك لإعمال فكره وعقله لتفكيك جل العلامات الرمزية الدَّالة في المسرح، وهذا ما يسمى بالمسرح الدياليكتيكي/ الجدلي.

 

بريخت ونظريته الملحمية في المسرح

يُعدُّ برتولد بريخت من المخرجين الذي تأثروا بالفكر الاشتراكي الماركسي، وهو ما جعله يتبنى فلسفته التغييرية في المسرح، وذلك بمعارضته للتوجه الأرسطي الذي يرتهن إلى الواقعية الكلاسيكية الهادفة إلى تحقق التطهير النفسي والانفعالي الداعي إلى الاندماج. واتجاه بريخت المسرحي يبتعد كثيراً عن تصوير الواقع بالشكل الذي لا يحقق الاجتهاد والابتكار في التناول الابداعي. فالفكر التغريبي هو منطلق بريخت الأساس لتحرير مسرحه من النمطية والمحاكاة الواقعية للطبيعة؛ وهذا بالذات ما دفعه إلى انتقاد كل من ينهج تيار الواقعية، إذ انتقد تصور "ستانسلافسكي" في أساليب الأداء التمثيلي، التي "تثير الشفقة" على حد تعبيره.

في البداية ينبغي الإشارة إلى بعض المبادئ التي تقوم عليها نظرية التغريب لدى "بريخت Brecht"، حتى نفهم "التكنيك التغريبي" الذي يعتمده كتقنية وأسلوب في الأداء التمثيلي. إن "الإبعاد أو التغريب، أو الانسلاب alienation هي التقنية التي ابتدعها اصطلاحياً برتولد بريخت كأسلوب للتمثيل ضمن أساليب المسرحة، يؤكد من خلاله الممثل على مسرحيته، نافياً أي إيهام من أي نوع بأنه هو الشخصية الممثلة... وهي كمصطلح تعني اغتراب الاغتراب، أو نفيه، عزله، سلبه غرابته وشذوذه كحالة إنسانية عامة... والتغريب يسعى للتأكيد على فصل الشخصية عن المؤدي بوساطة سلسلة من العوائق، أو الوقفات التي تثير دهشة المتفرج، وتنير عقله بدلاً من إثارة خوفه وشحن وجدانه".2 إن ما يسعى إليه مسرح بريخت في الأساس، هو جعل المألوف غريباً، أي تغريب الواقع المألوف لدينا، حتى نراه مبهماً لا مفهوماً، وذلك قصد إثارة فكر المُشاهِد للتأمل والتفكير، وإعمال العقل للكشف عن الدلالات المضمرة.

إن المسرح لدى بريخت يتسم بنوع من التجديد والاختلاف عن باقي التنظيرات المسرحية، "الاختلاف يمثل وسيلة منتجة لإثارة الجمهور: إنه استفزازي للمتفرجين لأنه (على الأقل) يتم تقديم عنصرين مختلفين لهم، وعليهم أن يجعلوا من التناقض مفهوماً"3. والممثل في المسرح الملحمي/ التغريبي لا بد وأن يكون هو العنصر الذي يُجسّد الاختلاف، وبالتالي، الساهم في إبراز تمثلات التغريب وتحقيق فعل التأثير؛ إنها فلسفة برشت المسرحية؛ إنها الخاصية الجوهرية للمسرح الملحمي.
 

التكنيك التغريبي ودعوة المتفرج لإعمال العقل وممارسة التفكير

إن التكنيك التغريبي في أداء الممثل يجب أن يقوم على أسس ومبادئ، تهدف إلى تحقق الخاصية الجوهرية التي تعد أساس المسرح الملحمي، "ينبغي على الممثلين أن يكونوا على دراية بأنفسهم وعلاقتهم مع الشخصيات الأخرى على خشبة المسرح، فلا يمكن تحقيق العرض إذا لم يفهم الممثل ما يتم عرضه".4 إن رؤى بريخت تسعى إلى جعل المسرح أفقاً للتجريد الذي يدعو الفكر إلى التفكير والتأمل؛ إن الإيمان الشديد بالنظرية المادية الجدلية، هي البؤرة الأساس لانفجار قواعد المسرح البريختي، قواعد تشحن فكر المُشاهِد بالجدلية التي تسبر أغوار الأفكار المضمرة، لتستجلي منها الحقائق المُشكِّلة لنظام الخطاب المكتمل. هذا هو مسرح بريخت، هذا هو قانون المادية الجدلية.


من عروض بريخت المسرحية


ويصف بريخت قواعد وأسس التكنيك الجديد لأداء الممثل الذي يعمل على تحقيق تأثير التغريب، وهي متعددة، إذ "لا يتعين على الممثل أن يسيء استعمال الخيال. ويبني الممثل الشخصية منتقلاً من إشارة إلى إشارة، ومقايساً نفسه بالنسبة للشخصية المصورة، مفتشاً في كل مشهد، وفي كل عبارة يتعين عليه تلفظها أو سماعها خلال مجرى الحدث، وكل ما يتطابق أو يتعارض مع طبيعة هذه الشخصية، يتعين عليه أن يطبع جيداً في ذاكرته هذه العملية التدريجية للدراسة، ليتمكن في النتيجة أن يعرض على المشاهد مجمل الطريق المعقد لتطور هذه الشخصية"5. ولتحقيق هذه الغايات كلها، لا بد من شرط الوعي بالأفعال والسلوكات لدى الممثل في إطار تعاملاته مع الشخصيات التي تُشاركه العمل الأدائي، كما سبق وأشرت آنفاً من خلال رأي بريخت حول الممثل في مسرحه.

من ناحية أخرى، يهدف منهج "التكنيك التغريبي" الذي يتوسل به الممثل في أدائه إلى دعوة المُشاهد للممارسة الانتقادية، فلا ينبغي على الممثل أن يجعل المتلق تحت ضغط التأثير العاطفي، بل عليه مخاطبة فكره وإثارته، إذ "عندما يظهر الممثل على المسرح يتعين عليه -وهو يكشف عما يفعل- أن يجبر المُشاهِد على أن يرى في جميع الأمكنة المهمة، ويفهم ويحس الشيء الذي لم يفعله هو "الممثل"؛ بمعنى أنه يمارس التمثيل بشكل يجعل من الممكن رؤية الخيار بين شيئين أكثر وضوحاً، وبشكل يجعل التمثيل يشير إلى الإمكانيات الأخرى، ويقدم وجهاً واحداً فقط من الأوجه الممكنة"6.

عموماً؛ "كان بريخت يأمل بالطبع أن يرى جمهوره المنفصل الانتقادي الفكر، الحقائق كما يراها هو، وقد أغضب ذلك الشيوعيين الذين أصروا على ضرورة أن يكون الجمهور غير ناقد، وألا يرى إلا ما يراه الحزب"7. كما تقوم النظرية الملحمية في المسرح البريختي على أربع مرتكزات مفاهيمية8 في الأداء والإخراج المسرحيين:

في المسرح الملحمي يشترط على الممثل أن يجعل من كل الأشياء المُدرَكة بسهولة، أشياء تستدعي التأمل والتفكير الحاد لإدراكها، أي تحويل كل ما يوجد فوق المسرح إلى علامات أيقونية؛ ومنطق العلامة عموماً يشير إلى "دال ومدلول" على حد تعبير "فرديناند دي سوسير"9. وهذا الاعتبار مبدئياً يتطلب تفكيراً وخيالاً مُؤَسَّسين على المعرفة، وهذا ما يُصنّف درجة وعي المُشاهِد في مسرح برتولد بريخت.

 

ختاماً؛ لقد أسس بريخت ما يسمى بتقنية الإبعاد التي تكسّر الإيهام لدى المُشاهد، فمنهجه التغريبي يحفز العقل على الفعل، ويدعو فعل التفكير إلى فهم الأشياء التي تدل على أشياء أخرى؛ هذا هو منطق الدياليكتيك البريختي الذي يجعل مسألة الكشف عن الدلالات أمراً في غاية التعقيد؛ لذلك فضَّل بريخت العقل بدل العاطفة؛ فسلطة العقل قادرة على التجاوز والابتكار والفهم لمجريات الأحداث المُصَوَّرة على الركح، في حين تغدو العاطفة محدودة التأثير والإنتاجية في تصورات برشت النظرية والتطبيقية.


الهوامش:
1- برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي؛ ترجمة: جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، لبنان. ص: 129.
2- صالح سعد، الأنا – الآخر: ازدواجية الفن التمثيلي؛ عالم المعرفة، عدد 274، الكويت، أكتوبر 2001. ص: 174-175.
3- David Barnett, Brecht in Practice: theatre, theory and Performance, Methuen Drama (January 15, 2015). P: 114.
4- David Barnett, Brecht in Practice: theatre, theory and Performance - op.cit - p: 121.
5- برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي؛ ترجمة: جميل نصيف، مرجع سابق. ص: 147.
6- نفسه. ص: 131-132.
7- جلال الشرقاوي، الأسس في فن التمثيل وفن الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012. ص: 217.
8- يُنظر: جلال الشرقاوي، الأسس في فن التمثيل وفن الإخراج المسرحي؛ نفس المرجع. ص: 217.
9- فرديناند دي سوسير هو عالم لغة سويسري من مواليد 26 نونبر 1857، ويعد مؤسساً للمدرسة البنيوية في علم اللسانيات، وقد توفي عام 1913.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها