عن العبر الإنسانية.. وعشق التقنية

طموحٌ إنسانيّ لعالم تكنولوجيّ

عز الدين بوركة


في التقنية: الخطر والديمقراطية

لقد أدرك جون جاك روسو -مسبقاً- بأن التقنية لا تُعْنَى بتغيير طريقة عيشنا فحسب، بل أيضاً طريقة تفكيرنا وشعورنا [خطاب في أصل التفاوت بين البشر، 1755]. لهذا فبالنسبة له لا مفر من أن يكون التقدم التقني مؤطراً للعلاقات الإنسانية. فالإنسان الحديث، حسب مارتن هايدغر، لم يعد يشغل التقنية لحساب حاجاته، بل بات يعيش بها وفيها. وبهذه الطريقة، ومع مراعاة مقتضيات المنافسة الدولية، لم تعد التقنية(ات) أدوات في خدمة العمل، ولكن كما تراها حنة أرندت، مجموعات معقدة يجب على الإنسان أن يكيّف معها حياته ومعارفه [وضع الإنسان الحديث، 1961].

لنذهب أبعد من ذلك: التقنية الحديثة، التي يُعتبر جوهرها، بحسب هايدغر، استفزازًا حقيقياً، يمكن أن يُنظر إليها على أنها تهديد للكائن الإنساني ذاته. وإن كان جوهر التقنية هو "العقلنة"، ما يجعل منها ليست خطراً فحسب، بل خطراً عظيماً، ولإدراك الأمر فإن جوهر التقنية لا يكمن في التقنية، على حد قوله. فكل ما هو جوهري بالنسبة لصاحب الكينونة والزمن يكمن في الغياب... ما يجعل التقنية تهرب من كونها أداة إلى كونها "ميتافيزيقيا"، منفلتة وذات كيان مستقل عنا، يستحيل عقلنتها إذن. وهو ما يجعلنا ننظر إلى مجتمعنا التقني المعاصر -حسب كل هذا التقدم والتطور والتغير التقَني- على أنه يلغي عن المواطن مجموعة من مسؤولياته، ويجعله أكثر غربة واغتراباً. ما يدفع بهابرماس إلى القول بأن مفهوم الديمقراطية لم يعد يعني "حكم الشعب نفسه بنفسه" [التقنية والمجتمع كإيديولوجيا، 1973]، لقد صرنا محكومين بالتقنية. وهو تقاطع مع صوت نيتشه وهو يصدح قائلاً: "احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل بعض الأفراد الطائعين، المستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والإنتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيء لا محالة، إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناماً جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته"؛ لم يكن صوت نيتشه هذا ضد التقدم في حد ذاته، بل ضد فصل الإنسان عن تقدمه الطبيعي المحتوم نحو التسامي والارتقاء وربطه بـ"ميتافيزيقيا" بديلة عن كل تلك الميتافيزيقيات التي حاول صاحب "ما وراء الخير والشر" هدمها.

المستقبل التقني

لقد غدا تطورنا رهيناً بتطور التقنية، وإن الإنسان (الحديث والمعاصر خاصة) ما هو إلا ما تصنعه التكنولوجيا منه، إن أردنا القول.. فلا مستقبل بشري ممكن بمعزل عن التكنولوجيا وميتافيزيقياها التقنية. لهذا لم يتوان إدغار موران عن القول بأن العلم ينتج التقنية، وهذه الأخيرة تحوّل المجتمع، والمجتمع التكنولوجي بدوره يحوّل العلم [علم مع وعي، 1982]، في ما يشبه دائرة أبدية، أو سيرورة، بتعبير أدق. وتلعب المصالح الاقتصادية الرأسمالية، ومصالح الدول دورها الفعال في هذه السيرورة. فالعالم يتجه إذن إلى مستقبل تقني محض، حيث تشابك البشري مع الآلي، ولا تغدو التقنية امتداداً للجسد الإنساني، بل جزءاً لا يتجزأ منه. نوع جديد من التطور القائم على زرع رقاقات وآلات وغيرها تندمج وأجسامنا. إنه ما يُصطلح عيه بالعبر-الإنسانية tanshumanisme. وإن كانت التقنية نمط حياة ونمط وجود قديم، كما يذهب شبيلغنر [الإنسان والتقنية، 1958]، بخلاف الحيوان الذي هي عنده "خطة حياة"؛ فإن المستقبل لا ترسم معالمه فقط التقنية كأداة وامتداد للجسم، بل التكنولوجيا باعتبارها امتداداً بالآلة، أو وجوداً بالآلة، في ظل ما باتت تأخذه التقنية من أسبقية على العلم، تحت مسمى التقنية-علم technoscience، مشكلة أفق العلم بحكم المنطق الأداتي التي تقوم عليه.

إننا خاضعون لحتمية التطور، ومنذورون للتقدم، والتغير بكل معانيه، وتطورنا اليوم بات متعلقاً بالضرورة بما نعرفه من تقدم العبر-إنساني حاصل لا محيد عنه. فعبر-الإنسانية تيار فكري متصل بما يُصطلح عليه بعشق-التقنية technophile، هذا المفهوم اليوتوبي الذي جاء به الـ"إعلان العبر-إنسانية" Déclaration transhumaniste (2009)، إذ بحسبه "على الإنسانية أن تصير في المستقبل مؤسسة على العلم والتقنية". ويجد هذا الفكر العبوري الإنساني، المتجاوز لمفهوم الإنسان الحديث الذي ما يزال قائما بيننا، رابطاً وثيقاً مع ما يشهده الـ"سلكون فالي" Silicon Vally (كاليفورنيا، أمريكا) من ثورة معلوماتية وتكنولوجية وأنترنيتية كبرى، خاصة من قبل رؤساء أموال كبار وشركات ضخمة، أمثال المليارديريْن لاري باج وسيرج برين (غوغل)، وبيتر ثييل Thiel (بايبال)، وجيف بيزوز (أمازون)، ومارك زوكينبورغ (فيسبوك)، وإيلون ماسك (تيسلا)... فهؤلاء "المؤثرون" الجدد في خط التطور، يؤمنون بأن أي تغيير في الإنسان لن يطرأ بحكم السياسة فحسب، بل وأساساً يجب أن نجد التكنولوجيا الجيدة لحدوث ذلك. لهذا فحلمهم: احتلال الفضاء، والانتصار على الموت، وتهجين البشر والآلات المفكرة، وخلق عملات سيبيرانية cyptomonnaies...

النبوءة بين اليوتوبيا والديستوبيا

ليست هذه الأفكار بجديدة عن الإنسانية المعاصرة، فكما أشرنا التقنية ضاربة بالقدم، والتفكير في الاستعانة بها لتطوير الإنسان ومساعدتها في التحكم في الطبيعة وأغراضه كان جزءاً مهماً في تطوره وهو يشيّد أولى معالم حضاراته. فقد سبق وتكهن مجموعة من العلماء، أمثال بيير تيلارد دو شاردين (1881-1955)، وجوليان هوكلي (1887-1975)، وجون ب. س. هالدان (1892-1964)... منذ مطلع العقد الثاني من القرن المنصرم، بأن الإنسانية تدخل في حقبة تطورية جديدة، حيث باتت هي عينها المتحكمة في ذلك. ولم يكن مجال الأدب والفن والتفكير بمعزل عن هذا التنبؤ، إذ سيتم منذ العقود الأولى من القرن العشرين كتابة روايات ديستوبية تحذر من خطر التقنية على مستقبل البشرية إن باتت تحت سيطرة "سياسات ديكتاتورية"، تحاول أن تهجن البشر إلى صالح إيديولوجياتها. إذ سيعلن بيان المستقبليين إنشاده "لعالم جديد حيث إن بهاء العالم سيغتني بجمال جديد: جمال السرعة" (البند الرابع، فبراير 1909).

غير أن هذا العالم الجديد، ليس دائماً "جميلاً" عند البعض، فأولى الروايات الديستوبية التي حاولت تصور عالم قادم تتحكم فيه التقنية بشكل كامل، تحت إمرة سياسة تحاول خلق بشر آليين لا يفكرون، وخاليون من الشعور والعواطف، كانت رواية "الأفضل في العالم" للبريطاني ألدوس هوكسلي A. Huxley (1894-1963)، والتي باتت نموذجاً لهذا الجنس الأدبي، حيث يحكي لنا عن مجتمع وجد حلاً لمشاكله الاقتصادية والسياسية بالتحكم الجيني génétique في البشر. خالقاً أطفالاً في المختبرات.. ومقسماً الإنسانية إلى طبقات منفصلة بيولوجياً. حيث تأخذ كل طبقة بزمام مهمة معينة، في غياب لكل إمكانية الشعور والتفكير في تغيير حالها أو الثورة عما جُعلت له. فمن أجل خلق العالم "الأفضل في العالم" لا بد من بناء بشر جنياً بلا عواطف ولا أفكار، حيث تتحكم فيهم التقنية وفي مصيرهم، كائنات بلا ماض وبلا ذاكرة، همها الوحيد الإنتاج.. عالم بارد ومخيف كما يُصوّره هوكسلي، حيث تخدم التقنيات البيولوجية مصالح الأنظمة الشمولية.

وقد كان ذلك قبل بضع سنوات من قيام هذه الأنظمة في أوروبا وما نتج عنها من حرب عالمية مدمرة. وفي ذات السياق كتب جورج أورويل (1903-1950) روايته الخالدة "1984" (نُشرت سنة 1949)، إذ سيرسم لنا معالم عالم مُفزع فيه تعمل التكنولوجيا لصالح السلطة. تدور أحداث الرواية في العامة البريطانية في عالم منقسم إلى ثلاث دول تتحكم فيه وتوزعه في ما بينها، وهي دائمة الحرب بين بعضها البعض. يعيش البطل في أوسينيا التي تقع تحت إمرة "الأخ الأكبر" الذي يشاهد الكل. بل إن الكل مراقب في أدق تفاصيله عبر شاشات الرصد التي تملأ الإمبراطورية، إذ لم يعد الأمر يقتصر على التحكم في بعض الأفراد للتحكم في السلطة, بل يجب التحكم في العالم بأسره ليصير الكل متحكم في أفعاله ذاتياً، تحت أعين التكنولوجيا التي تراقب كل الحركات والأصوات والأفكار؛ إننا إزاء ما يشبه سجن البانوبتيكون Panopticon، كما يصفه مشيل فوكو (المراقبة والمعاقبة، 1975)، الكل يراقب ويترصد الكل خوفاً من حارس خفي (الأخ الأكبر)، يجلس في وسط السجن حيث كل الأبواب مفتوحة، لكن لا أحد يقدر على الانفلات.

فاوست الذي يسكننا

بعيداً عن عالم اليوتوبيا المنشود وعالم الديستوبيا المهاب، لا مفر اليوم من التطور الحاصل تقنياً وتكنولوجياً وعلمياً، فالمجتمعات المعاصرة لا يمكنها العودة إلى ما قبل زمن التكنولوجيا، حتى لا نقول التقنية، بل إن الفن المعاصر غدا مرتهناً بكل ما هو تقني. إذ نتحدث عن الغرض التقني والتجربة الاستتيقيا المتولدة عنه. ما يجعل مفاهيم الفن الكلاسيكية والحديثة لم تعد قائمة في الفن المعاصر، الذي أحدث ثورة مفاهيمة كبرى خالقاً براديغما جديدة، تغيب فيه معاني التجربة الداخلية والشعورية للإنسان في إبداع العمل الفني. فحسب جيلبرت سيموندون Simondon، يتعلق الأمر بجمال مغاير وأكثر جوهرياً، المنبثق من التقاء الغرض التقني بالعالم.

لقد غزت العبر-الإنسانية العالم فكراً و"روحاً" وجسداً، وصارت ترسم معالمه الثقافية والفنية والفكرية وحتى العلمية، بل إن التكنولوجيا العبر-الإنسانية تسبق العلم أحياناً من حيث إنها تشكل أفقه، كما سبق وذكرنا. ومعها قد أصبح كل ما كان يُحسب على الخيال العلمي ممكناً، بل إن كل ما يفكر فيه تقنياً هو ممكن الحصول ما دام العقل البشري قد فكر فيه. لكن يظل السؤال قائماً، إلى أي حد يمكن أن نفصل بين إرادة المعرفة والتقدم والتطور عن إرادة القوة التي يطمح إليها سياسيون أو جماعات متطرفة، قد تصل إلى التحكم في الصناعة العبر-الإنسانية مستقبلاً؟ وأي عالم منشود في ظل تغير المفاهيم الأخلاقية بفعل هذا التغير التكنولوجي الذي لا يمكن إيقافه؟

إن الحديث عن المستقبل وقدرات الإنسان هو اليوم، بل منذ القدم -لنراجع مسرحية "فاوست" لـ"غوتيه"!-، هو حديث عن طموح إنساني كبير يقوده الاندفاع نحو تجاوز الجسد والتعالي، عبر فاعلية التقنية العلمية؛ إننا بهذا دائمو الطموح نحو الكمال، يسكننا فاوست يريد السيطرة على العالم وامتلاكه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها