يشتبك المخرج حكيم حرب في عرض مسرحية "أنتيجوني"، مع الوحدات التكوينية للنص الكلاسيكي الراسخ الذي كتبه "سوفوكليس"، فالعرض يُحلّق في فضاءات الحداثة والتجديد من حيث قراءتُه الإخراجية التي قامت على فرضيات محدثة، سعى المخرج من خلالها إلى مقاربة أحداث النص مع واقعنا العربي الراهن، حيث تتداخل مجرياتها مع أحداث النص المسرحي درامياً بشكل لافت. فالعرض يقدم قراءةً مُعاصرةً للصراع الأبدي حول مفهومات العدالة والظلم والاستبداد والتسلط، هي إذنْ رؤية معاصرة ومحدثة للنص الكلاسيكي، والذي تعني ترجمة اسمه (أنتيجونيAntigone ) من اليونانية إلى العربية: ضد الرضوخ، وهذا هو جوهر الرسالة التي سعى حرب إلى إيصالها للمتلقي من أجل تحريضه ودفعه لمواجهة الظلم، ورفض كل ما هو غير إنساني ومجابهة كل ما هو مستبد.
وتعد مسرحية (أنتيجوني) واحدة من بين أكثر المسرحيات الكلاسيكية التي يُقبل الكثير من المسرحيين على قراءتها، أو ترجمتها أو عرضها على خشبة المسرح، فقد تمكنت هذه المسرحية بما تشتمل عليه من صراع متعدد الزوايا أن تحرك وجدان وعقول ومشاعر جمهور المسرح بمختلف الأزمنة وشتى الأمكنة، وتناولتها آلاف أقلام النقاد والباحثين بالتفسير والتحليل، وحظيت باهتمام المفكرين والأدباء رغم اختلاف أفكارهم واتجاهاتهم وعقائدهم، فمثلما أعاد فردريك هولديرلين وجان كوكتو وجان أنوي، وبرتولد بريخت وهيغل وكيركيجارد وهيدجر كتابة نص (أنتيجوني)؛ فإن رؤية حكيم حرب لم تكن بعيدة عن الاشتباك الآيديولوجي والجمالي مع أجواء تلك الرؤى وما حققته من أثر وتأثير في وجدان ومشاعر الجمهور، فقد طرح حرب رؤيته في إعادة كتابة هذا النص الراسخ في ذاكرة المسرح العالمي، وعمل على إعادة إنتاجه وتقديمه في فضاءات التلقي المسرحي العربي المختلفة، كمنظومة خطابية جديدة تستند إلى مبدأ الشك، وعدم اليقين بمجمل المسلمات، وهو يشتبك مع أحداث المسرحية التأريخية، انطلاقاً من أن التأريخ ليس هو الحقيقة المطلقة والكاملة، فالتأريخ غالباً ما يكتبه المنتصر، وعليه فإن رؤية حرب الجديدة تقوم على فكرة أن أوديب لم يقتل أباه، وإنه لم يتزوج من أمه، وأن ذلك مجرد تلفيق وادعاء ومحاولة تشويه للحقيقة من قبل المؤسسة العسكرية بقيادة كريون، والمؤسسة الدينية بقيادة الكاهن تريزياس بهدف الإساءة لسمعة أوديب من أجل عزله والسيطرة على الحكم في مدينة طيبة، والادعاء بأن الحرب التي اشتعلت بين أبناء أوديب ليس من أجل الدفاع عن وطنهم طيبة؛ وإنما طمعاً بالسلطة، وقد تناحرا حتى قتل أحدهما الآخر، وإن يكن الأصغر قد سبق الأكبر إلى جنايته فذلك لم يكن إلا اتفاقاً، هكذا وكأن كل ما حدث هو مجرد طبخة، أو مسرحية تم إعدادها مسبقاً.

مسرحية أنتيجوني التي صور بها (سوفوكليس) الصراع بين القانون الديني والقانون الوضعي، تُعالج مسألة التمرد على نظام الحكم والحاكم المستبد من خلال الصراع بين (أنتيجوني)، المرأة التي ترفض قرار (كريون) بعدم دفن أخيها؛ لأنه من وجهة نظره، لا يستحق أن يعامل بكرامة ويدفن؛ لأنه يمثل الشر، فيما يسمح بدفن أخيه الآخر الذي قتل معه لأنه يمثل الخير، فالمسرحية تطرح تساؤلاً يباطن قضية من أهم القضايا في تأريخ ومصير الإنسان، ألا وهو: أين ينتهي حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟
وتتشكل الأقدار بطريقة تدفع الابنيْنِ للاختلاف على الحكم، الذي كان من المفترض أن يتولياه مشاركة بالتناوب، إلا أن الأخ الأكبر إيتيوكليس يتفق مع خاله كريون على طرد أخيه الأصغر بولينيس مما يدفع بولينيس إلى تكوين جيش من الخارج، ويحاصر مدينته محارباً أخاه وخاله، ويتقاتل الأخوان ويقتل كل منهما الآخر. ويقول سوفوكليس على لسان الكورس في نص المسرحية: "هذان الأخوان في الدم، من أب واحد وأم واحدة، متشابهان في الغضب، تصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة".
وبناءً على هذه النتيجة يصبح الخال كريون هو الحاكم والقوة المهيمنة، ويقرر لحظة تملكه السلطة أن يشيع جثمان حليفه إيتوكليس في احتفال يليق ببطل عظيم، ويوسد جثمانه القبر بيديه، إجلالاً وتشريفاً، في حين يأمر بعدم دفن جثة بولينيس لتنهشه الوحوش المفترسة والطيور الجارحة عقوبة لخيانته، من وجهة نظره، ويتوعد من يدفن الجثة ويخالف أمره -أياً كان- بالموت الرهيب، ونعرف أن عدم دفن الموتى خطيئة تحرمها العقيدة اليونانية القديمة التي تنص على ضرورة دفن الموتى، حتى ولو كانوا من جيش الأعداء، لكن الحقد البالغ الذي يحمله المتغطرس كريون يتعدى كل الحدود، فيكسر عقيدة الشعب ويجور على الناس، وعلى الرغم من هذا الجور البالغ؛ فإن الخوف يعقد ألسنة الجميع ولا يجرؤ أحد على مواجهة الظالم، وهنا تبدأ حكاية أنتيجوني حين تتقدم وحدها لتقاوم الملك الجائر، وتقرر تحدي الأوامر الدنيوية تلبية للأوامر الإلهية التي تحث على دفن الموتى، وتقوم بدفن جثة أخيها، وهي ترى أن هذا الفعل واجب وأمانة في عنقها، فإذا كان كريون الظالم لا يخشى الأمر الإلهي وهو بشر، فكيف تخشى هي أمره وهو بشر طاغية؟ وبشجاعة مستمدة من إيمان مطلق بصحة موقفها، تستعجل تنفيذ قراره الجائر بقتلها وتقول: "أعطني المجد، وأي مجد يمكنني أن أفوز به أكثر من أن أعطي أخي دفناً لائقاً؟ وهؤلاء الناس يوافقونني جميعاً، ولولا أن شفاههم يغلقها الخوف، لمدحوني كذلك، يا لحظ الطغاة، إنهم يملكون امتيازات القوة، القوة الفاسدة، وهي أن يرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم".
وحين يقتاد الحراس أنتيجوني إلى حيث ينفذ فيها الحكم القاسي بالدفن حية في قبر صخري بين القبور، تقول: "لا بد أن أموت، لقد عرفت ذلك كل عمري، وكيف أمنع نفسي عن هذه المعرفة، إذا كان علي أن أموت مبكراً؛ فإنني أعتبر ذلك مكسباً، فمن على الأرض يعيش وسط حزن كحزني، ويخفق في أن يرى موته جائزة غالية".
هذه هي أنتيجوني ابنة أوديب التي وقفت في وجه الظلم ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها الشجاعة، فاستحقت لقب أول شهيدة في المسرح العالمي، يقدمها (حكيم حرب) بثوب عربي معاصر، وهو يُسقط ما حدث ويحدث من عدوان همجي ولا إنساني، يخلو من شرف الخصومة ضد أهلنا في فلسطين عموماً وفي غزة خصوصاً، حيث تدفع (أنتيجوني) ثمناً باهظاً مقابل خيارها للمقاوَمة؛ إذ تتم عملية إعدامها في نهاية العرض، لكن، وقبل ذلك، توجّه كلماتها هذه: "أعرف ألّا أحد يبالي بما فعلت، لكنّي لن أرضخ، ولن أستجدي دمعةً من أحد، سأغادر هذا العالَم محرومة من كلّ شيء، مدركةً حقيقةَ أنّه، بما أنّه لا وطن إذن لا سلام، أمّا أنتم، الصامتون الخائفون على حياتكم، فأنا أُشفق عليكم من ذلك الشعور بالذنب الذي سيقضّ مضاجعكم، فالدور في المرّة القادمة سيكون عليكم". وهكذا تُصبح (أنتيجوني)، رمزاً لمقاومة غزّة وصمودها وهي تواجه شتى أشكال العنف والاضطهاد والوحشية المختلفة، المقاوَمة والصمود والتضحية دفاعاً عن الأرض والعرض والمبادئ والشرف، وهي ترفض الانصياع لغطرسة الحاكم المستبد، وتتجاهل إغراءاته للتطبيع مع الظلم والخيانة والاستبداد، على الرغم من محاولات كريون المتكررة لغسيل دماغها وتغيير أفكارها، ومحاولة إقناعها بأن العالم قد تغير وعليها أن تنتبه لنفسها، وتتزوج من ابنه؛ وإن ما تفعله ليس سوى انتحار نتيجة لمكائد سياسية لا علاقة لها بها، وإن الحياة والزواج بانتظارها، وإن زواجها من ابنه سيمنحها حق التمتع بالسلطة والحياة، وهو يؤكد لها "لا تدعي الحياة تنفلت بين أصابع يديك، أطبقي عليها.."، إلا أنها ترد عليه بقوة مبدأ وإصرار وعقيدة لا تتزحزح، بأنها تذهب للموت على أنها تذعن لإغراءاته، وهي تنتصر بذلك للمثل العليا والقيم العظمى التي تقوم على أساسها الأمم الحية، وهي تختار الذهاب إلى مصيرها المميت على الاستسلام والتخاذل والمهادنة مع الظلم والظالم، وهنا مكمن الربط مع ما يحدث من مقاومة ورفض للاستسلام في غزة الصامدة، خصوصاً عندما تقول في حوارها لحظة دفنها وهي حية، حيث تقول: "ألم يأت خطيبي هيمون لإنقاذي.."، وهي ترمز للعالم العربي الذي أغمض عينيه وصم أذنيه عن كل تفاصيل هذه المأساة، ليترسخ ذلك العمى وذلك الصمت عبر دلالات صوت فيروز وهي تجيبها "لا تندهي ما في حدا".
هكذا تموت أنتيجوني شهيدة الدفاع عن المبادئ العليا والقيم العظمى، والمتمثلة بالقانون الديني الذي يقره الشعب والذي يقضي بدفن الموتى؛ إذْ تتحدى كريون الذي أراد أن يسن قانوناً مغايراً يمنع دفن الموتى ويهدد كل مَن يتحدى قانونه ذاك بالموت، ويأخذ كريون، فاقد البصيرة، الغرور والعناد والتخبط الناتج عن الانفراد بالرأي والقرار الخاطئ، لينتهي بيته بالدمار، فيقتل الابن نفسه، وتتبعه أمه حزناً وهي تلعن زوجها كريون الذي خرب الديار على مذبح شهوة التسلط والتفرد بالرأي وسطوة القوة والسلطة الغاشمة.
لقد قُدّم عرض أنتيجوني الأول في الساحة الخلفية لمسرح أسامة المشيني في عرض مهرجان الرحالة في الأردن؛ أي في فضاء مفتوح، موظفاً كل ما ينطوي عليه هذا الفضاء من ممكنات كالمبنى الخلفي والسلالم والنوافذ، فيما قدم العرض في مهرجان قرطاج بتونس في فضاء مسرح الريو المختلف تماماً عن فضاء العرض الأول كونه فضاءً مغلقاً، وهو يختلف بالضرورة عن فضاء مسرح المنصور في بغداد... وهذا يكشف حتماً عن مدى الانفتاح في الرؤية الإخراجية على مرونة التحول المكاني وتعددية فضاءات العرض الذي مثل استجابة عالية للمتغيرات المكانية التي تعامل معها حرب ضمن الممكنات المتاحة، وما يهيئه ذلك الفضاء المكاني وما يمتلكه من ممكنات تعبيرية ودلالية، مع إجراء بعض اللمسات والملامح التي تجعل الفضاء بيئة مطواعة لخطاب العرض ورسالته، وما كان يوّد العرض أن يقوله ويعلنه، يعزز ذلك عناصر التكوين المكملة، مثل الأزياء التي جعلها معاصرة، مع حرصه على أن تبدو أنيقة ومعاصرة إلى الحد الأقصى، فأناقة أزياء شخصية كريون الباذخة شغلت حيزاً في فضاء التلقي الجمالي للعرض، وأجابت على كثير من أسئلة المتلقي، وهي بدلة بيضاء مع الغليون الذي ارتبط مع مجمل أفعال وردود أفعال كريون التي تدل على عكس ما يحمله من أفكار ونوايا، يضاف لها أزياء شخصية أنتيجوني التي تدل على شخصيتها، فهي فتاة منفتحة على حب الحياة، فضلاً عن دلالتها المرتبطة بالراهن، فضلاً عن أن الحراس كانوا يحملون البنادق الأوتوماتيكية الحديثة.

المساحة الأدائية توزعت بين المهارات العالية للفنان حكيم حرب وهو يجسد شخصية كريون بكل انعطافاتها الدراماتيكية ونواياها المعلنة والمضمرة، كاشفاً عن حضور أدائي متفرد وخبرة في التعاطي مع أبعاد الشخصية، فيما تفانت شام الدبس في تجسيد مشاعر شخصية أنتيجوني وانفعالاتها المتصاعدة بمقدرة وإقناع، في حين جسد محمد كيمو ومحمد الزغول شخصيات الحراس.
ويمثل عرض مسرحية أنتيجوني في هذا الظرف بالذات، ضرورة فنية وحاجة اجتماعية في الوقت نفسه، استدعتها حقيقة ما يحدث من فوضى في فهم الحداثة والتجديد على المستوى الفني والجمالي في مسرحنا العربي، فضلاً عن كونه حاجة اجتماعية يكشف بها عن حاجة المجتمع لفهم وتفهم ما يحدث وما يراد أن يحدث في واقعه الراهن من مخططات ومؤامرات تستهدف وجوده وكيانه الإنساني، وهذا هو المضمون الفعلي والرسالة التي سعى المخرج حكيم حرب إلى نقلها للمتلقي؛ من أجل دفعه لمواجهة الظلم ومجابهة الاستبداد ومقاومة التسلط، ورفض كل ما هو غير إنساني.