لوثر وعمله الإصلاحي

الحرية الدينية أنمـوذجاً

فريد جفال

في الحَادي والثَّلاثينَ مِنْ شَهرِ أُكتوبر سَنةَ 1517 عَلَّقَ لوثر على بابِ إدارةِ جامعة قصر فيتنبرغ، قضايا الخمس والتسعين احتجاجاً على صكوك الغفران، التي كانَ يُبشِّرُ بها الأبُ الدومينيكاني جان تتزيل، وقد كَانَ لوثر يدرس تفسير الكتاب المقدس في جامعة فيتنبرغ، ويمتلك العناصرَ الأساسيَّةَ لنهجه العقائديِّ لدى تصدّيه العلني لصكوك الغفران، لذلك ركَّزَ طرحهُ على مسألةِ الخلاصِ بالإيمانِ وحدَه، مُؤكدّاً أنَّ بِرَّ المسيحِ يَشملُ الخَاطئ المؤمن والواثق، بغض النَّظرِ عن أعماله الخاصة وبمعزلٍ عنْ كُلِّ بِرٍّ شخصيِّ. فالغفرانات المزعومةُ، بحسبِ لوثر، تستوجب الطَّعنَ لذاتها لا لما ينشأُ عنها من تجاوزات فعلية، فقط، كونها تطبيقاً للاعتقاد بمبدأ الاستحقاق الملازم للأعمال الصَّالحةِ وقيمةِ التَّعويضِ التَّكفيري، فالإصلاح إذاً، منذُ نشأتهِ يتخطى أطر الإصلاحِ الأخلاقيِّ لينخرطَ بعزمٍ في المجالِ العَقَائِديِّ.

بهذا بدأ أستاذُ العلوم الكنسية جوزيف لوكلير حديثه عن لوثر انطلاقاً من كتابه "تاريخ التَّسَامُح في عصرِ الإصلاح".

 

:: الحُريَّة المسيحيَّة ::
 

إنَّ إصلاحاً كهذا، حسب لوكلير، يبدو من الوهلة مؤاتيّاً للحرية الدينية، فعقيدةُ التبرير بالإيمان التي تشكل مضمون إعلانه المحوري تطمح إلى أن تكون رسالة تحرير، وقد كتب لوثر عام 1520 أن: "الإيمان وحده يكفي المسيحي فلا حاجة إلى أي عمل، وبالتالي، فهو في حلّ من الوصايا والشَّرائعِ كُلِّها، ومتى تأكد ذلك فقد تأكدت حريته بالفعل عينه. تلك هي الحرية المسيحية التي يولّدها الإيمان". أي ما دام التبرير يُكتسب بالإيمان وحده فقد لزمَ أنَّ الكنيسةَ الحقيقيةَ هي جماعةٌ روحيةٌ تضمُّ مؤمنين حقيقيين، إنَّهَا جماعةٌ المبرّرين الَّذين يشكلون جسداً لرأس واحدٍ هو المسيح. الكنيسة غير منظورة، وما يوحد أعضاءها ليس الخضوع لرئيس منظور ومؤسسة منظورة بل الاتحاد بالمسيح عن طريق الإيمان.


لوثر (Martin Luther (1529


وَمِنْ هذا المنطلقِ يذكر لوكلير أنَّ لوثر لم يشأ أولَّ الأمرِ أن يعمد هؤلاء المؤمنين إلى تنظيم أنفسهم، بخلافِ أصحاب البدع الطَّامعينَ إلى تأسيس جماعات "القدسين" الأطهار. هؤلاء المبرّرون ينبغي أن يعيشوا وسطَ الشَّعبِ المسيحي بسلام في ظل تلكَ "المسيحية الجسدية الظاهرة"، الَّتي لم ينف لوثر شرعيتها، بل رفض تحويلها إلى مؤسسة قائمة على الحق الإلهي. وأما العلامةُ الظَّاهرةُ على حضور كنيسة الله في هذه المسيحية المنظورة، فهي التَّبشيرُ بالإنجيل وخدمة الأسرار بانتظام. هذا النَّشاطُ الرَّعوي حسب لوكلير يفترض وجودَ وظائف كنسية وخدّام مؤتمنين على إعلان الكلمة، وإتمامِ طقوس العبادة، لكنَّ هؤلاء لا يتمتعون بأي سلطة إلهية تخوّلهم فرض قرارات عقائدية.

نهجُ لوثر هذا دليلٌ على روح التَّسامح عنده، يقول لوكلير: "فالحريةُ الدِّينيةُ الَّتي اعتزم هذا الإصلاحي المطالبةَ بها جرياً على خطى القديس بولس ابتداءً من عام 1520، هي ما أسماه حرية الضمير... لقد بدا له هذا المفهوم في البداية تحرراً من كُلِّ ما يمكن أن تمليه السلطة الإنسانيَّةُ من تعاليم وقوانين. لهذا كتب عام 1520: "إني، إكراماً لهذه الحرية وهذا الضمير، أصرخ بجرأة: لا يمكنكم فرض أي قوانين على المسيحيين، أَمِن الملائكة جاءت أم من البشر، إلا في حال موافقتهم عليها؛ لأنهم أحرار في كُلِّ شيء".

يتساءل لوكلير: أفينبغي الاستنتاج إذًا أنَّ لوثر كان منذ ذلك الحين، يوصي باستقلالية الضمير، أو ما نسميه في أيامنا حق "حق حرية التفكير"؟ يجيب لوكلير: لا نعتقد ذلك، فهو لم يبغ تحرير الضمائر من القوانين والأعمال الإنسانية إلا لكي يوثق الصلة بينها وبين الكتاب المقدس بصفته وحدة قاعدة الإيمان الموضوعية، وقد كتب عام 1525 في مقالته "الإرادة المستعبدة: "لا يجوز أن يُقيِّد الضمائر شيءٌ إلا كلمة الله".

إنَّ ما يراه لوثر، حسب لوكلير، هو أنَّ الضَّميرَ حرٌّ ما دام الكتابُ المقدسُ شريعته الوحيدة، وكما يستنتج بضرورة تحريره من كل ضغط خارجي، حتى في حال خطأ خطير كالهرطقة، مثلاً، كذلك يرفض بالفعل عينه الإقرار بسلامة طرق محاكم التفتيش، يقول لوثر: "لا ننتصر على الهرطقة بالنار بالكتابات كما كان يفعل الآباء القدماء، ولو كانت البراعة تكمن في الانتصار على الهراطقة بالنار لكان الجلاّدون أعلم العلماء". أي أن استخدام العنف مع المخالف مرفوضٌ، وأفضلُ وسيلة هي الكتابة؛ لأن العنف لا يولّد إلا العنف.

ويذكرُ لوكلير أن من جملة المقترحات التي حرّمتها البابوية ما يلي: "إن إحراق الهراطقة معاكس لإرادة الروح القدس"، وقد رد لوثر على هذه الإدانة مستشهداً بعدة مقاطع من الكتاب المقدس توبّخُ العنف، ولا سيما ذلك الردّ من المسيح عَلَى تلميذيْهِ يعقوب ويوحنا عندما طلبا إليه استنزال النَّارِ من السَّماءِ على المدينة التي رفضت البشارة: "فالتفت يشوع وانتهرهما". حيثُ علقَّ لوثر مستنتجاً: "لم يشأ المسيح إرغام النَّاسِ على قبول الإيمان بالقوة والنار، لذلك أعطى سيف الروح كي يستخدمه الذين هم أبناء الروح، على أن سيف الروح هذا هو كلام الله".



إنَّ لوثر كانَ خلالَ السَّنواتِ الأولى لمهمته الإصلاحية يتصدى بشدة للأساليب القمعية تجاه الكاثوليك والمنشقّين، على السَّواء، وذلك لا من النَّاحية النظرية فحسب، بل من الناحية التطبيقية إلى حد ما.

ففي العام 1521، وفي أثناء إقامته في فارتبورغ، حصلت اضطرايات في فيتنبرغ وعمت المدينة حالة من الفوضى؛ لأنَّ عدداً من أتباعه المتحمسين أرادوا إرغام الأمير المنتخب فريدريك دو ساكس على إلغاء القداس، فلما علم لوثر بالأمر وضع ضد المتمردين مقالة بعنوان: "حضٌّ شديدٌ لجميعِ المسيحيين على تجنُّبِ كل تمرّد"، جاء فيها: "بمقدورنا أن نتلكمَ ونكتب ونَعِظ ضد القداس؛ إنما علينا أن نحاذر القيام بأي عمل مباشر لا توافق عليه السُّلطات".

لكن الاضطرابات تواصلت –فيما يذكر لوكلير- فلم يجد لوثر بُدّاً من اتخاذ قرار بالعودة إلى فيتنبرغ في مستهل شهر مارس عام 1522، حيث استمر أسبوعاً يلقي العظات يوميّاً في كنيسة جميع القديسين حول موضوع الضعفاء، أي أولئك الذين لم يحصل لديهم بعد اقتناع كاف بقيمة الإنجيل والحرية الإنجيلية، والَّذي يجب الامتناع عن إكراههم بابتكارات متسرّعة تلحق عظيم الأذى بنفوسهم، حيث قال لوثر: "أريد أن يُصار إلى الوعظ ضد القداس، أريد ذلك قولاً وكتابةً، غير أني أريدُ أيضاً ألا يلجأ أحدٌ إلى العنف والإكراه؛ لأن الإيمان في جوهره فعلٌ إراديٌّ حرٌّ، يجب اعتناقه من دون إكراه". هكذا تمكن لوثر بفضل فصاحته من تهدئة الأهواء.

إنَّ لوثر قد أظهرَ كذلكَ شيئاً من الليبرالية في تعاطيه مع الفرق المنشقّة، فقد برزت حوالي سنة 1524 جماعة الأناباتيست المتحمسين مع توماس مونتزر، وما لبث هؤلاء أن تحولوا إلى ثوار حقيقيين بعزمهم إبادة "الكفار"، وآنذاك كتب لوثر بشأن البدعة الجديدة رسالة إلى أمراء بلاد الساكس، يوصيهم بالتصدي للمغامرات الانشقاقية بحزم، والتَّساهلَ بالمقابل مع الوُعّاظِ المسالمين:

"لا يجوز أن تمنعوا خدمة الكلمة، فلنتركهم يعِظون بجسارة قدر ما يستطيعون وضد من يشاؤون؛ لأنه لا بد من أن يحصل شقاق؛ ولا بد لكلمة الله من دخول الحلبة وخوض المعركة... فلنترك المفكرين يتصادمون ويحارب بعضهم بعضاً. لا شك أنَّ بعضهم سيضلُّ، وتلك حال الحروبِ كلها؛ فحيث يكون صراع أو قتال يسقط قتلى وجرحى، ومن أدركَ الهدفَ فاز بإكليل المجد". هكذا نلمس لدى لوثر –حسب لوكلير- في سنوات إصلاحه الأولى ثقة متفائلة بقضيته، فسلاحه هو كلمة الله التي يجب أن تنتصر على أعدائها دونما استعانة بأي سلاح بشري، لذا لم تُخِفه الاضطهادات، يقول لوثر: "لستُ خائفاً لأن عدداً كبيراً من الأقوياء يضطهدني ويحقد عليَّ، لا بل إني أتعزّى وأتقوَّى؛ لأنَّ المُضطهدين والحاقدين، كما هو وراد في جميع الكتب المقدسة، كانوا دوماً على ضلال، والحقيقة إلى جانب المُضطهَدين، ودائماً كانت الكثرةُ تذودُ عنِ الكذبِ، والقلةُ تناصر الحَقَّ".

يرى لوكلير أن لوثر يستعير كلمات القديس بولس: "جميع الذين يريدون أن يحيوا حياة التقوى في المسيح يسوع يُضطهدون"، وهو –لوثر- على هذا الرسول يعتبر نفسه بشير الحرية الدينية، حرية المسيحي.

ومن هنا، فإن اهتداء لوثر إلى مبدأ "الإيمان دون الأعمال، ومقاطعته المؤسسة الروماني التي كانت تملي عليه بتفويض إلهي، اعتقاداً مُعَيناً، وسلوكاً معيناً إلى جانب طقوس الأسرار، ولجوءه إلى كلمة الله المعلنة في الكتب المقدسة، حصراً، كُلُّ أحداث حياته الشخصية هذه اتخذت طابع التحرر. وأول ما فكر به تلقائياً، في سعيه إلى إعتاق الآخرين، هو اللُّجوءُ إلى كلام الله فقط، وسيف الروح سلاحهُ الوحيد، أي التبشير، وقد كان له من الجرأة ما جعله يصمّم على التخلي عن طرائق محكمة التفتيش وكل أشكال الإكراه.
 

:: نحو الكنيسة - الدولة ::
 

ما تحدثنا عنه سلفاً لم يكن في الواقع إلا بداية زمن الإصلاح اللوثري، زمن القطيعة مع روما، وسيجد الإنجيل نفسه، في المرحلة الثانية، بحاجة ماسة إلى تنظيم خارجي.
لقد كان لوثر -حسب لوكلير- مقتنعاً بأنَّ الكتاب المقدس هو الوضوح بالذات، وأنه يمتلك تفسيره تماماً، مما سيكسبه في نظرِ أتباعهِ ضمانةً عقائديةً، ويخلعُ عليه صفةَ نبي حامل للوحي ومؤتمن على حقائق الإيمانِ، فمن اعترض على الإنجيل، كما يفهمه هو، كان يقاوم الله. هذا الاقتناع المتصلب سيحمل لوثر على التماس مساعدة السلطة المدنية وحمايتها لقضيته.
إنَّ لوثر ظن في البداية أن التبشير وحده بكلمة الرب سيبدّد "الضلال الروماني"، كما يبدّد النور الظلام، لكنه أخذ يتحقق تدريجيّاً من رسوخ النزعة البابوية، كما تبين له أن البدع بجنوحها المتزايد نحو الراديكالية تهدّد بتشويه إنجيله، وتوليد أسوأ الاضطرابات الاجتماعية. وإذا كانَ اللُّجوءُ إلى السُّلطةِ المدنية قد بدا ضروريّاً في ظلِّ هذه الظروف، فإن في عام 1525 سيُعتبر حاسماً، بهذا الخصوص، بسبب ثورة توماس مونتزر وحرب الفلاحين اللَّتينِ سنشهدُ على أثرهما تزايداً في التَّقاربِ بينَ لوثر والسُّلطة.
وقد أشارَ جرجس الخضري إلى أنَّ كثيرين من الَّذين قاموا بتحليل هذه الحوادث، دهشوا كثيراً من موقف لوثر إزاء الفلاحين عندما قال للأمراء الذين يحاربون الفلاحين الجملة التي سجلها له التاريخ: "قاتلوا الفلاحين ككلاب مسعورة". وأضاف: إنَّ هذا الرجل –أي لوثر- لم يدافع قط عن الإهانات الشَّخصية التي وجهت إليه، والذي حاول في كل الظروف التي مر بها أن يستعمل المحبة والصبر واللطف، وكيف يمكن أن يأمر الأمراء بأن يقاتلوا الفلاحين ككلاب مسعورة! إنَّ قولاً كهذا يعد عثرة ليس فقط لإنسان القرن العشرين، بل حتى على إنسان القرن السادس عشر بتعبير Greine.
وفي سنة 1527، حسُن إليه أن يطلب إلى الأمير جان منتخب بلاد الساكس، تنظيم "زيارات كنسية" إلى جميع أنحاء إمارته، وقد أسند إليه دوراً إيجابياً، وهو ضبطُ مجمل الهيكلة الكنسية من أجل إصلاح التجاوزات والترويج مباشرة للإنجيل الجديد. فلوثر إذاً، حسب لوكلير لم يسمح طوعاً بقيام نظام الكنيسة - الدولة المتصلب في الإمارات التي بسطَ عليها سلطته الإصلاحية، لكنه سمحَ بتكاثرها على نحو صريح، أي المرحلة الثانية من الإصلاح اللوثري، انتهت بتأسيس دولة الكنائس بألمانيا.
 

:: أهم النتائج المترتبة على الإصلاحي الديني البروتستانتي ::
 

يرى الباحثُ التُّونسي بسَّام الجمل، أنَّ حركةَ الإصلاح الدِّيني البروتستانتي أفضت إلى نتائج جديرة بالتدبر، منها:
- تكوّن الكنيسة البروتستانتية بعد أن أصبح لها أتباع كُثر في مناطق شتَّى من العالم، روجوا للآراء الإصلاحية لجيل الروّاد، وحرصوا على تطويرها بما يتناسب وشواغلهم وآفاق تفكيرهم.
- انفتاح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على العلوم الحديثة والاعتراف بجدواها وفوائدها في حياة الإنسان، وقد تحقق هذه الانفتاح تاريخياً بشكلٍ متأخّرٍ جدّاً، بعد أن اقتنعت الكنيسةُ بالفشل الذريع لسياسة العنف التي انتهجتها، والَّتي لم تُفضِ إلا إلى مزيد التفاف حول الحركات البروتستانتية، فلم يكن أمام القائمين على المجمع الفاتيكاني الثَّاني (1962-1665)، سوى التَّفاعل الإيجابي مع قيم الحداثة وما أفرزته من مفاهيم جديدة، مثل حقوق الإنسان والحرية الدينية والحوار بين الأديان.
- لم يعد الفضاء العام مقسماً إلى قسمين: فضاء خاص يتحرك فيه الفرد في إطار تكريس مقالة حرية الاعتقاد والحرية المدنية، وفضاء قانوني تشرف عليه الدولة. تُطبّق فيه القوانين بطريقة إلزامية، بل انضاف إليهما فضاء ثالث يسمى: "الفضاء العمومي"، وهو فضاء اجتماعي تسكنه الأعرافُ والقِيَّمُ الأخلاقيةُ والسنن وقواعد الاجتماع العام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها