سيّد درويش.. فنَّان الشعب وضميره

الهِبة والموهبة (1892 – 1923م)

أمل يوسف حسن


بدايةً؛ سأستعيرُ ما قاله كامل الشناوي في كتابه "زعماء وفنانون وأدباء"، وهو يصف حي الدِكة، هذا الحي العتيق الذي وُلد فيه سَيّد دَرويش حيث قال: "... الشارع يموج بالزِّحام والأنوار، وبأصوات متباينة فيها الزعيق والغناء والهتاف وعزف الموسيقى، وتسمع من خلال الأصوات المدويَّة أبواق السيَّارات ورنين أجراس (بسكليت) أو عربة (حنطور) خاصة، وفرقعة السياط في أيدي سائقي عربات الحنطور العامة، أحياناً يلهبون بها ظهور الجياد، وأحياناً يلهبون بها الصبية المتعلقين بمؤخرة عرباتهم، وأحياناً أخرى يلهبون الهواء بسياطهم ليشقوا لهم طريقاً للمرور"!
 

لا نرتاب شر نقير إذا قلنا: تهلُّ خيالات وجهه الغائب بعد مائة عام على رحيله، كنسمة صيف في يوم هجير، يأتينا كأنه يحمل ناي الراعي الذي يتبع مساره بدءًا وخاتمة دون نشاز، هي حقيقة لا مِراء فيها، لم يكن سّيد درويش ممن تتلخص حياتهم بعبارة (وُلد، فعاش، فمات)، فالأعوام التي عاشها –رغم قصرها- ضمَّت إليه أعمار أجيال سبقته، وأعمار أجيال عاصرته، وأضاءت الدرب لأجيال ستأتي بعده.. من هنا، نستطيع التقرير أنَّ درويش هو إمام الملحنين، ونابغة الموسيقى المتفرِّد في هذا الزمان، طافت ألحانه المدن والقُرى، وانبسطت منها مائدة سرور واسعة الأكناف، تناول منها كل غادٍ ورائح... نراه كالمهاجر يحمل الوطن في قلبه.

في يوم 1 مارس سنة (1892م)، كانت الشمس الشاتية تُحلق فوق منزل قديم، ينشع بالرطوبة، لافتته المعدنية تحمل رقم (112)، بحارة (البوابة) التابعة لحي "كوم الدكة" بالإسكندرية، وكأن الشمس تُرسل شعاعات من البهجة والسرور على كنف تلك الأسرة رغم فقرها المدقع، هنا، وُلد نَجمٌ، فانطلقت الزغاريد في تمام الساعة التاسعة صباحًا، وُلد سَيّد دَرويش البحر، أبرز الوجوه الموسيقية في القُطر المصري التي لمع نجمها في بداية القرن العشرين، لحَّن لكلِّ الفِرق المشهورة آنذاك: فرقة الريحاني، علي الكسَّار، منيرة المهدية.. وغيرهم.. كان طيبًا، متنوع المعارف، فَطنٌ حصيفٌ، كبير القلب والعقل، قَلَّ من لقيه ولم تعلق بقلبه محبته.. طائف الحُسن طاف به من كل جانب.. لُقب عن جدارة بـ(فنان الشعب وضميره)، فقد كانت موسيقاه وأغانيه تعبيرًا حيَّاً عن هَبَّة المصريين الكبرى، ورفضهم للاحتلال الإنجليزي. قُل ما شئت فأنت في كل المواضع صائب مُحق.. كان يرى بعينه وبشكل يومي قوات الاحتلال الغاشم تمدح في الثغر الجميل، الإسكندرية، وقد حوّل قادة جيشه قلعته الشهيرة (قايتباي) إلى معسكر للجنود، وهكذا شَبَّ الصغير على كراهية المستعمر، مثل كل أبناء جيله، كما تربى على أُسس دينية معتدلة، فكان مجيدًا في حفظ القرآن الكريم في السن الباكرة، وفي بدء حياته التعليمية تفوَّق بين لِدَات طفولته تفوقًا ظاهرًا، والتحق بالمعهد الديني؛ ليكون معلمًا وفقيهًا، بيد أن طيف الغِناء ظل يلاحقه وهو يتردد على دروس مشايخه، مما جعله يُهمل فيها؛ حلَّق عاليًا كالطير الطليق خلف جِنيّة الغِناء، إلى حيث حفلات المنشدين سلامة حجازي (1852- 1917)، وأحمد خليل القباني (1842-1903م) وكامل الخلعي (1880- 1938). وغيرهم من سدنة الإنشاد والغِناء آنذاك.

إذن؛ لم تأت قصته مع عشق الفن على نِصابٍ من المصادفة، بل كل شيء منه كان يمكث بجوانحه، بانتظار لحظة الظهور، اختار الفن دربه وطريقه، كان الأمل عند الصبي سَيّد درويش منذ نعومة أظفاره أن يكون في مستقبل أيامه واحدًا من القُرَّاء والمنشدين والمبتهلين، ولكن القدر والفقر دفعه إلى غير ما يحب، بعد وفاة والده، وتحمله مسؤولية أسرته، شغلته لقمة العيش عن دروسه، فقام المعهد بفصله نهائيًا، هي الحقيقة لا غيرها، الفن تعملق بداخله فأصبح فنانًا مائزًا عن المألوف، ومغايرًا للسائد، لا يُستهان برصيده الفني رغم قِصر عمره.. وأذكر طُرفة أجد الترويح في سردها: لقد كان غيورًا على فنه لدرجة أنه ارتقى في أحد الأيام خشبة أحد المسارح لتوجيه (لكمة) قوية إلى مغنٍ تجرأ على تحوير بعض ألحانه.

حياة سَيّد درويش الموسيقية والمسرحية:

عودةٌ على بَدءٍ، فحياة درويش الموسيقية والمسرحية، هي أمشاج وأخلاط، تنتظم في مراحل كحبات المسبحة النضيدة.. لقد اهتمت عديد من الكتب والمؤلفات على اختلاف مصادرها وأنواعها بحياة درويش، ولن نضيف في هذا الإطار أمرًا جديدًا، ولكننا سوف نقف عند بعض المحطات الهامة من حياته: اضطر سَيّد درويش أن يخلع الجبة والقفطان ويلبس الجلباب، ويضرب في مناكب البلاد شرقًا وغربًا، تعددت شواغله كثيرًا؛ كي يكفي أسرته مؤنة العوز، ظلَّ يعمل في مهنة المعمار عاملًا يطلي المنازل ويغني في نفس الوقت بعض الأغاني والأهازيج (الطقاطيق)؛ ليبعث في زملائه الذين أعفوه من عمله نظير تفرغه للترفيه عنهم بالغناء، تجمعت خيوط القدر أنْ تَعرَّف عليه –صدفة- الأخوان عطا الله، في فترة كان يعمل "أرزقي" باليومية، فضموه إلى فرقتهم المسرحية، وكانت تلك هي الفرصة الأولى لصقل مواهبه، حيث سافر إلى بلاد الشام كمطرب سنة (1913م).

وبالتالي يمكن اعتبار المسرح أوّل مدرسة احتضنت هذا المبدع؛ ليمارس فيها تجربته الفنية الوليدة.. ولعلَّ أهم ما يميز دَرويش عن نظرائه الأماثل هو الوضوح التام وحبه وإتقانه لفنه، وعشقه للبسطاء من الناس، والمهمشين من المجتمع، فغنى لهم، وأحسَّ بهمومهم ومواجعهم.. رُزق حظوة ما أظن أحدًا من رجال الفن والطرب نالها قبله في عصره. وفي السياق ذاته، كانت لهم -أقصد الشعب المصري- فيه غُنية عمَّا سواه من المطربين.. ظلَّ درويش متكئًا على غناء الأدوار والموشحات بين فصول المسرحيات، خاض أيضًا تجربة التلحين والتمثيل، ثم أسس فرقة مسرحية خاصة به، وألَّف لها عدّة مسرحيات غنائية كان له فيها دور البطولة وهي: أوبريت شهرزاد- أوبريت البروكة- أوبريت العِشرة الطيبة، التي عُرضت أولًا في فرقة نجيب الريحاني سنة (1920م). من أكثر الأحداث التي شكَّلت فكر درويش الموسيقي والمسرحي تأثره بأوبرا "عايدة"، لصاحبها الموسيقي الإيطالي الشهير "فيردي"؛ إذْ كان لها عميق الأثر على نفسيته وتفكيره. ولقد اعتمد -لتحقيق تلك الغاية- على الفكر النابض والقلم الحي لمن عاصروه من أدباء وشعراء، مثل بيرم التونسي، محمد تيمور، بديع خيري، وكذلك على فرقته الموسيقية التي تضم أساطين العازفين، مُدبرًا ظهره للتخت التقليدي المكون من أربعة أو خمسة آلات غير كافية لاستكمال ملامح الأوبريت في مفهومها المتطور.. كما تجلَّت عبقرية درويش عندما جَنح إلى الألحان التي تُشارك الجماعة، محطمًا النزعة الانفرادية في التلحين وفي الطرب، فضلًا عن تجديداته العبقرية في الموسيقى الشرقية والتي جعلت منه رائدًا ومدرسة موسيقية قائمة بذاتها.. حيث قام بتلحين أول مسرحياته "فيروز شاه"، على أسلوب جديد لم يعهده الناس من قبل.
 

درويش وأبريت العشرة الطيبة:

المعلوم، أن هذا العمل المسرحي للأديب محمد تيمور (1892-1921م)، مقتبس من رواية "ذو اللحية الزرقاء" للأديب الفرنسي "شارل بيرو"، حيث استطاع تيمور أن يوجه من خلال تلك الرواية نقدًا دقيقًا لمجتمعه المعاصر، خرج هذا الأوبريت في ثوب عربي مُفعم بقضايا عربية واجتماعية وسياسية في مستوى الدراما والأزجال والموسيقى.. تُصور "العِشرة الطيبة" ما كان عليه حكم الأتراك والمماليك في القرون الماضية، وتسخر من هؤلاء الحُكام ومن تعجرفهم تجاه الناس الأبرياء البسطاء.. إلا أنه يجب ألا نغفل عن دور رئيس قام به درويش الذي كسا الأزجال ألحانًا بقي بعضها خالدًا في الذهن إلى اليوم، مثل: علشان ما نعلا ونعلا ونعلا / لازم نطاطي نطاطي نطاطي.

درويش المناضل:

كان سَيّد درويش على رأس مدرسة ثورية متكاملة، اتخذت من المسرح منبرها الخطير، الذي تلقي منه أفكارها وتعاليمها الوطنية، لقد صال درويش وجال في أصقاع الأرض، فاستيقظت روحه إلى أغنية الشارع التي صوَّر فيها حياة المهمشين من الشعب: الحمَّالين، الفلاحين، وأرباب الحرف المختلفة، وغيرهم.. وانتشرت أغانيه كعبق العِطر الفوَّاح بين عوام الناس؛ بسبب بساطة ألحانها، وسهولة أدائها.. كان لدرويش في كل بــاب یـد طــولى، تجوَّل بين بساتين الفن اليانعة، الطقطوقة والموشح والدور والأغاني الوطنية والعاطفية.. وحين توفي "سلامة حجازي" سنة (1917م)، نادى درويش إلى ضرورة أن تتوجه الأغنية لإيقاظ الوعي الوطني.. فعندما تم القبض على الزعيم سعد زغلول في 8 مارس (1919م)، اندلعت الثورة الشعبية الكبرى بمصر، وألقى درويش نفسه في أتون الثورة، سخَّر كل مواهبه لها، ملحنًا ومنشدًا، ومغنيًا، وشاعرًا؛ ليقاوم صلف المحتل وبطشه، وأحكامه الجائرة، وغنت الجماهير خلفه: يا بلح زغلول/ يا بلح سعدي/ زغلول يا بلح/ سعد وقال لي/ ربي نصرني / وراجع وطني/ زغلول يا بلح.

وشارك بديع خيري في كتابة وتلحين النواة الأولى للأناشيد الوطنية في 1919م، مثل: يا ناس بلادي، أنا المصري كريم العنصرين، بلادي بلادي، قوم يا مصري.. كما كان درويش دؤوبًا في تجديد أسلوب تلحين الطقطوقة، فجعل لكل غصن منها لحنًا يختلف عن الأغصان الأخرى، مثل طقطوقة: أهو ده اللي صار، يا ورد علي فل وياسمين، خفيف الروح، زورني كل سنة مرة. وكان قد لحَّن -الأخيرة- عقب سوء تفاهم وقع بينه وبين محبوبته (جليلة)، أدى إلى خصام طويل. كان نجاح درويش ملحوظًا للجميع، عندما قدَّم الطابع القديم ملتحفًا برداء حديث، مستخدمًا جميع الموازيين والمقامات الموسيقية بحرفية الماهر العارف بصغائر ودقائق صنعته.. أيضًا، كان عزيز النفس، مُرهف الحس، يغضب لأقل أمر يرى فيه مساسًا بكرامته، وهو مع ذلك سريع التسامح، لا يحمل في قلبه موجدة ولا حقدًا.

يجب على القارئ أن يكون على علم بأن درويش منذ بدأ تجربة التلحين، كان يسعى للتقليص من أسلوب التطريب الذي طالما طغى على مطربي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (أي في عصره)، من خلال قوالب فنية مختلفة، كانت له طريقة محكمة في استعمال المقامات المختلفة، وتوظيف ثنائية البطء والسرعة في الحركة الإيقاعية؛ ليكون الخط اللحني الإيقاعي في العمل كأحسن ما يكون للتعبير.. مما لا يسعنا إنكاره، هو أن درويش يُعد أهم رجال المسرح الغنائي العربي الحديث، وهي حقيقة لا زالت تردد في كتابات الباحثين إلى اليوم.

توفي الموسيقار السيّد درويش في الإسكندرية سنة (1923م) أثناء استعداده للاحتفال بعودة الزعيم سعد زغلول، العائد نهائيًا من منفاه والذي كان يُجسد الوعي القومي آنذاك.
 

درويش في عيون الآخرين:

كتب الدكتور "ثروت عكاشة": "كان سيد درويش نتاجًا عبقريًا ليقظة الشعب العربي في مصر عام 1919م، وتفتحت العبقرية على نبض الكفاح الوطني فعاش هذه الأزمة وانفعل بها". قال عنه عاصي الرحباني: "سيد درويش، فنان متمرد، أول من ترجم الأحاسيس الشعبية إلى قوالب موسيقية سليمة، وأول من لحن الأوبريت كما يجب أن تُلحنَ... وأول فنان يعمّ فنه الشرق، أيام كانت لا تربطه أي وسيلة إعلامية. إنه رائد جيله، وأستاذ مدرسة عريقة، وفنان شعبي كبير جداً، مات والقُطر كله يصغي إلى صوته".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها