لبنى القرطبية.. من حياة الجواري إلى قصور الثقافة الأندلسية

أمل بكري حلبي

لم تتميز الحياة العامة في العصر الأندلسي عن الحياة العربية وحدها، بل تميزت عن الحياة العامة الأوروبية أيضاً، وهو ما أكد عليه الباحث الإسباني أدلفو فيدريكو؛ وفي حديثها عن الكتابة الإبداعية عند المرأة الأندلسية تقول الشاعرة والباحثة الإسبانية كلارا خانيس، أنها كانت ثمرة الحرية التي حظيت بها هذه المرأة إضافة إلى قربها من الحياة العامة.. وإذا كانت ولادة بنت المستكفي قد احتلت متن الحضور بين كاتبات وأديبات الأندلس؛ فإن ذلك مرده لقربها من قصر والدها الخليفة الذي جعلها الأقرب إلى ساحة الضوء، في وقت كانت فيه ساحة الظل ترزح فيها كاتبات وأديبات أخريات، أمثال حسانة التميمية، وحفصة الحجازية، وزينب المرية، ولبنى القرطبية... ويبدو أن هذه الأخيرة لم تتميز عنهن بإنجازاتها المتعددة وحسب، بل في سيرة حياتها التي يتأكد منها الخروج عن حياة الجواري التي أسرتها فترة من الزمن لكنها أبت الاستسلام لها، فمن هي لبنى التي ألحق نسبها بمدينة قرطبة، فأصبحت أشهر مدن الأندلس جزءاً من اسمها الذي اشتهرت به.
 


بطاقة تعريف

هي لبنى بنت عبد المولى الشهيرة بلبنى القرطبية من عائلة إسبانية تعرضت للأسر، وسيقت مع العديدات مثلها إلى مدينة قرطبة، وتم ضمها مع مئات من الجواري في قصر السلطان عبد الرحمن الثالث الذي تربت فيه، واجتهدت بداخله فأتقنت اللغة العربية، كما أتقنت خطوطها والكتابة بحروفها والتبحر بمعاني كلماتها. كل ذلك ساهم بلفت الأنظار إليها داخل قصر الخليفة بما في ذلك الخليفة المستنصر بالله نفسه، فقد كان محباً للعلم والعلوم والأدب، ومهتما باقتناء الكتب على تعددها واختلافها فأضحت من المقربات إليه..
 

لبنى القرطبية.. لم تتسع لمكانتها حياة الجواري

لم تتقبل لبنى القرطبية حياة الجواري التي دفعت إليها دفعاً ولم يسمح لها طموحها الركون لقيدها، وأدركت بحماسها للحياة الأخرى أن التميز والتفوق على من حولها هو سبيل الخلاص الذي تصبو إليه، فانبرت بداية إلى تعلم اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية في الأندلس، كما أنها وعاء المعارف والعلوم على اختلافها، وبعد إلمامها باللغة العربية وقواعدها شرعت بتعلم خطوطها بكل أنواعها حتى غدت أشهر خطاطة في زمنها. ومضت بنسخ العديد من الكتب التي كان الخليفة المستنصر من ضمن قرّائها، والمطلعين عليها وكان من شدة إعجابه بما تنجزه لبنى بادر بتعيينها في ديوانه الخاص، وجعلها كاتبة رسائله وأعطاها صلاحية التوقيع عليها في حال غيابه.

لبنى القرطبية العاملة المعلمة

بعد انتقال لبنى إلى قصر الخليفة ألمّت بعلم العروض، وكتبت بعض القصائد الشعرية التي انصرفت عنها فيما بعد، بعدما استولى عليها حب العلوم الرياضية ومعادلاتها الحسابية، وقامت بترجمة العديد من الكتب الهامة في الرياضيات والفيزياء كأعمال إقليدس وأرخميدس مع شرح وفير لتلك الكتب التي قامت بترجمتها، وأمضت فترة في تعليم الأطفال هذه العلوم الرياضية معتمدة على طرح أسئلة عليهم في أماكن تواجدهم، وهو ما يسمى في أيامنا بالتعليم المفتوح. واهتمام الخليفة الحكم المستنصر بالله في إنشاء المدارس والمكتبات، وإرسال البعثات إلى الشرق لاقتناء الكتب الثمينة أعطاها مكانة هامة جراء اعتماد الخليفة عليها في اختيار هذه الكتب، نتيجة إلمامها بموضوعاتها بفضل الترجمة والنسخ الذي كان من اختصاصها. فكانت أول امرأة تسافر إلى العديد من العواصم العربية، وتتنقل من القاهرة إلى دمشق وبغداد لجلب الكتب التي وقع عليها اختيارها. ويعود الفضل لها في إنشاء أول مكتبة مركزية في قرطبة، ثم تم إنشاء مكتبات أخرى في سائر مدن الأندلس، وذلك بعدما شرع أمراء هذه المدن في اقتناء الكتب؛ والجدير ذكره في هذا السياق إشراف لبنى القرطبية على المكتبة المركزية الملكية، وترتيب مقتنياتها وإدارة شؤونها في مدينة قرطبة.

لبنى القرطبية في عيون المؤرخين

إن المكانة الكبيرة التي تبوأتها لبنى القرطبية والإنجازات التي قدمتها حظيت بإعجاب العديد من أمراء الأندلس، كما حظيت بتقدير عدد من الكُتّاب والشعراء والمؤرخين الذين دفعتهم سيرة حياتها وتميز إنجازاتها إلى تدوين حضورها اللافت، الذي أبت أن تركن فيه ضمن حياة الجواري، فاختارت التميز طريقاً لوجودها الفاعل والمؤثر، فكانت المعرفة وإبداعاتها طوقاً ذهبياً لهذا الحضور الباقي، والذي كتب عنها من خلاله المؤرخ الأندلسي أبو القاسم خلف بن عبد الملك المعروف بابن بشكوال في كتابه (الصلة في تاريخ أئمة الأندلس ومحدثيهم): "إن لبنى كاتبة الخليفة كانت حاذقة بالكتابة، وهي نحوية وشاعرة بصيرة بالحساب وعلوم الرياضيات، كما أنها واسعة المعرفة ملمة بأطيافها، وكان لها جراء ذلك عظيم المشاركة في علم العروض وأنواع الخطوط؛ ولم يكن في قصر الخليفة أنبل منها". وإضافة إلى ابن بشكوال اعتبرها السيوطي بمكانة جعلتها أن تكون في عداد طبقات اللغويين والنحاة؛ وقال عنها المؤرخ الأندلسي ابن عبد الملك المراكشي: "من خلال شخصية لبنى نرى مدى تنوع مواهب المرأة وتفوقها في شتى المجالات، حتى غدت المرأة التي أينما حلت تركت وراءها أثراً فاعلاً إيجابياً يتزيا بملامحها ويدل عليها".

لقد كانت لبنى بنت عبد المولى الشهيرة بلبنى القرطبية مرآة عاكسة تجلت فيها مدى الازدهار الذي كان يتجلى في العصر الأندلسي ليس في مدينة محددة، بل في كل المدن الأندلسية التي غدت صروحاً آسرة في صروحها الجغرافية والعمرانية، كما غدت مثالاً خالداً في سيرتها التاريخية التي نهضت على التعدد والحرية، وهو ما ساعد لبنى القرطبية على تجسيد ملامحها التي تفوقت من خلالها في مناخ يهب فرصه لأصحاب الفعل المتميز والمبدع، فظهرت من خلاله قامات نسوية كثيرة لم تكن فيه ولادة بنت المستكفي وحيدة الحضور، بل كان غيرها كثيرات بقيت سيرة معظمهن في الظل، كحفصة الركونية، والغسانية البجانية، وحسانة التميمية، وحفصة الحجازية، وزينب المرية حتى إن ابن حزم يقول: "نساء الأندلس هن مَنْ علمني القرآن الكريم، والخط، وألقين على مسامعي الكثير من الشعر"؛ ولم تكن من بينهن لبنى القرطبية وحدها التي ارتبط اسمها ونسبها بمدينة قرطبة، بل هناك مبدعات أخريات كان لهن هذا النسب لهذه المدينة الخالدة والعريقة، مثل الشاعرة عائشة بنت أحمد القرطبية، لكن ما لقيته لبنى في حياتها من معاناة ومكابدة في حياتها بين الجواري، وسلوك العلم والمعرفة للتحرر منها، وتميزها وإلمامها بالعديد من العلوم جعل سيرتها تأخذ حيزاً مختلفاً ولافتاً عن سواها، ضمن البيئة الأندلسية التي غادرتها عام (374)هـ الموافق (984)م، راحلة إلى ربها بعدما تركت إنجازات أحدثت من خلالها أثراً جسدت فيه بقاءها، فظلت تُذكر من خلاله في حياتنا حتى اليوم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها