عزت الطيري ولغته التلغرافية

قراءة في ديوان "كغيمة ضلت طريقها"

أشرف قاسم

يعتبر الشاعر الكبير عزت الطيري أحد أهم شعراء السبعينيات الذين أضافوا للقصيدة العربية، وأثروا معمارها بأفكارهم المتجددة، ورؤاهم المغايرة، ولغتهم النابضة التي تتوهج على أياديهم.
 

في ديوانه الأحدث "كغيمة ضلت طريقها" الصادر مؤخراً رقمياً ضمن سلسلة كتاب الرافد عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، يواصل الشاعر مسيرته ورحلته للبحث عن الجديد الذي يضيف للقصيدة العربية، ويضيف في ذات الوقت لتجربته الخصبة. الديوان عبارة عن مجموعة من القصائد القصيرة دون عناوين في الأغلب، ولكنها تحمل أرقاماً من [1 حتى 125]، وهي ومضات نورانية مكثفة، ذات طابع رومانتيكي، يجمع بينها هذا الحس الإنساني الودود، وتلك اللغة الموحية المعبرة، ذات الجرس الرقيق: "كغيمة ضلت طريقها إلى سمائها أصير حين ترحلين عني" [ص: 3].

هذا الإيجاز والقصر اللذان اتسمت بهما نصوص الديوان هما سمة عامة لنصوص عزت الطيري، تدل على مقدرة الشاعر على التعبير عن المعاني الكبيرة بكلمات قليلة، تجعل النص القصير مفتوحاً على التأويل، لاحتوائه على محتملات متعددة، ولما يكمن في لغته من طاقات جمالية وإيحائية، تحمل فكرة الشاعر إلى المتلقي، فتثير دهشته، وتثري خياله: "حين تسيرين بشارعك المكتظ بشمس ظهيرية.. وبصهد حنيني.. يتحول قلبي شجراً ويميل عليك" [ص:  58]. إن تلك اللغة الإشارية الخاطفة التي تشبه لغة "التلغراف" هي أهم ما يميز نصوص هذا الديوان، تلك اللغة الحميمة، التي تنساب عذبة، مفعمة بالمحبة والوصال كلغة المتصوفة، ذات الصبغة الروحية الشفافة: "المطر غناء الغيمة للأرض العطشى كي تهتز وتربو" [ص: 65]. تتجلى المرأة عبر نصوص الديوان ملكة متوجة، كما يرسمها الشاعر دائماً في كتاباته، إيماناً منه بدورها المحوري في حياة الرجل، بل في ركب الحضارة، والتقدم والرقي، فهي الأم والأخت والحبيبة والزوجة والصديقة، وهي المرفأ الآمن في بحر الحياة متلاطم الأمواج، وهي الواحة الظليلة التي يأوي إليها الرجل كلما عصفت به شمس الحياة وزمهرير الشقاء، والمرأة هنا حجر أساس، وليست مجرد بهرج خداع؛ إنها شريك في النص، كما هي شريك في الحياة:" نار تشتعل وتلتهم أصابعي الخمس برفق بعد مصافحتك" [ص: 68]. إنه جنون الشاعر العاشق الذي يهبه جمرات من النار المقدسة التي تضيء جنبات الروح، وتسكن سويداء القلب مؤنسة وحارسة.

كما تلعب النوستالجيا دوراً مهماً في تشكيل النص الشعري لدى عزت الطيري، والنوستالجيا هنا ليست بمعناها الضيق، أعني الحنين إلى الماضي وحسب، ولكنها هنا رؤية جديدة للواقع على ضوء شرفات الماضي المطلة على القلب والروح، مفعمة بالحنين الذي يشعل الصورة الشعرية ويفجر اللغة، ويثير الخيال بدهشته وطزاجته التي لا تزال عالقة بمخيلة الشاعر:" في الصورة في حفل تخرجنا/ كانت كف بيضاء تلامس كفي في فرح عفوي/ فتزغرد عشر أصابع وتتيه.. الليلة وبمحض الصدفة/ كانت كف شاخت وامتلأت بتجاعيد ونمش/ تلمسني في الشارع من حول محض مجاز لحقائق دامغة"؟ [ص: 25]. المفارقة هنا وعبر نصوص الديوان جميعاً ليست مهمتها استجلاب الضحك، ولكنها أداة تعبير، وباب للدهشة التي هي أحد أهم أركان بناء النص الشعري -لا سيما- القصير.

يتفاعل الشاعر أيضاً عبر نصوصه مع مفردات الحياة اليومية، بلغة وسائل التواصل الاجتماعي، معبراً عن سرعة ورتابة الحياة في ظل هذا اللهاث المحموم خلف الميديا والتقنيات الحديثة: قالت: "صورني (سيلفي) قلت لها: قولي لفؤادك سل في من يهواك وسلفني بعضاً من بعض حنانك سلفني/ قالت: ألغيت التصوير فشفني بعيون وصالك تعرفني.. صفني في أقرب نص وأضفني لضفافك طف بي" [ص: 41]. وفي نص آخر يقول: "حين أحاول أن أستجديها لحديث ما.. يخبرني الهاتف أن رصيدي أوشك.. وأنا لا مال لدي فأشحن أو أقترض إلى آخر مصطلحات الجوالات" [ص: 6]. كما أن التناص يظهر في نصوص الديوان دعامة أساسية يقوم عليها معمار النص دون تزيد أو ترهل:" شباكي يعشق شرفتك الخشبية/ يبدو أنهما صنعا من شجر واحد/ والصانع نجار واحد" [ص: 10]، وهو هنا ربما يتناص مع المنخل اليشكري حين قال:
وأُحِبُّها وتُحِبُّنِي ... ويُحب ناقتها بعيري

وفي نص آخر:" ما كنا اثنين ليكون الشيطان الفاسق ثالثنا/ كنا أربعة أنت ثلاث نساء حسناوات في امرأة واحدة/ وأنا" [ص: 13]. وهو هنا تناص مع النص النبوي: {ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}، وفي موضع آخر يقول:" ما جاء هدهدي الجميل بالأخبار من إيوان زينب المليكة" [ص: 23]. وهو هنا يتناص مع قصة سيدنا سليمان والهدهد ومملكة بلقيس، وغير ذلك كثير بالديوان، ما يؤكد سعة ثقافة الشاعر وتمرسه وحرفيته في توظيف النص التراثي بما يخدم نصه الشعري ويثريه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها