مكانة السيميائيات في المعرفة الإنسانية

د. علوي أحمد الملجمي

تتمتع السيميائيات منذ بروزها -بوصفها فرعاً معرفياً- في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بعلاقة قلقلة وغير واضحة، مع مجالات المعرفة القريبة والبعيدة منها، وعلى مستوى وضعها داخل المعرفة الإنسانية؛ لذلك تشكلت حولها مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل هي تخصص (فرع معرفي) مستقل، أم أنها تتبع فرعاً آخر؟ وإذا كانت كذلك فما هو هذا الفرع؟ وهل هي علم؟ وإذا كانت كذلك فإلى أي العلوم تنتمي؟ وإذا كانت فرعاً من العلوم الإنسانية، فلماذا نجدها في علوم الطبيعة (البيولوجيا مثلًا)، وفي العلوم الدقيقة والبحتة (الفيزياء والرياضيات)؟ بل إن التساؤلات حول طبيعة السيميائيات قد تجاوزت حديثاً هذه الأمور إلى تساؤل آخر يتمثل في: هل السيميائيات علم شامل ومتعالٍ فوق هذه العلوم والتخصصات؟ وسأؤجل الكلام عن هذا التساؤل الأخير إلى أن أعرض تصورات السيميائيين فيما يخص التساؤلات الأولى التي كانت وما زالت أسئلةً مشروعة.


 

من أوائل الفلاسفة الذين أولوا السيميائيات اهتماماً كبيراً في أبحاثهم جون لوك John Locke (1632 - 1704)، الذي يرى أن السيميائيات علم مستقل وعام، فهي عنده القسم الثالث للعلوم، حيث قسم العلوم إلى ثلاثة فروع:
• الفيزياء (علوم الطبيعة)، أي الفلسفة الطبيعية.
• البراكتيكا (العلوم العملية)، أي الأخلاقيات العامة.
• السيميائيات (علوم العلامات)، وأضاف لها فيما بعد المنطق(1). بحيث يشمل هذا القسم السيميائيات والمنطق.

والسيميائيات عند تشارلز سندرس بيرس Charles Sanders Peirce (1839 - 1914) "علم سينوسكوبي"، فهي عنده أحد العلوم الفلسفية، أي العلوم المختبرية. يقسم بورس الفلسفة إلى ثلاثة أقسام: الفينولوجيا، والعلم المعياري، والميتافيزيقا، ويقسم العلم المعياري إلى ثلاثة أقسام: الأخلاق، والجمال، والمنطق. لهذا نجد أن السيميائيات تدخل ضمن العلوم المعيارية؛ لأن بورس يعد المنطق اسماً آخر للسيميائيات(2).

ويميز أمبرتو إيكو Umberto Eco (1932-2016) بين مستويين للسيميائيات، المستوى الأول: السيميائيات العامة، وهي ذات طبيعة فلسفية، أي أنها تنتمي إلى العلوم الفلسفية، والمستوى الآخر: السيميائيات الخاصة، وهي عنده علم تجريبي، ويرى أنه بإمكان السيميائيات الخاصة الأكثر نضجاً أن يكون لها وضعية علمية(3).

وعلى ذلك، فالسيميائيات بالنسبة لروادها الأوائل ومن تلاهم تمثل علماً، اختلفت نظرتهم في تصنيفه ضمن شبكت العلوم، فإذا كان عند لوك علماً شاملًا مستقلًا؛ فإنها عند بورس ضمن العلوم المعيارية التي تدخل ضمن العلوم الفلسفية، وله عند إيكو وضعين بحسب مستويين مختلفين. والحقيقة أن لغط تصنيف السيميائيات (أي وضعها بوصفها علماً داخل شبكة العلوم) ما زال قائماً في المؤسسات الأكاديمية الرسمية، و"من الأمثلة الجيدة على أن البيروقراطية العلمية ما تزال تواجه مشكلة في وضع السيميائية، مخطط تصنيف البحوث الأوروبية المشتركة (CERCS) الذي يستخدم حالياً في إستونيا، حيث تقع السيميائية في القسم الفرعي H352 القواعد، والدلالات، والسيميائيات، (الرمز H يعني العلوم الإنسانية)" (4).

باستطاعتنا القول إن كثيراً من أعلام السيميائيات -ومنذ منتصف القرن العشرين– قد سلكوا طريقًا مختلفًا، غاضين النظر عن التصنيفات الرسمية، فنظروا إلى السيميائيات على أنها علم عصيٌّ على التصنيف، فحددوها بوصفها منظورًا متعدد التخصصات، وأدت نظرتهم هذه إلى انتقادات واتهام للسيميائيات بـ"الإمبريالية، من حيث إنها تحاول تحقيق مكانة خاصة بين العلوم الأخرى، والارتقاء فوقها"(5). لذلك كان على عاتق هؤلاء العلماء الدفاع عن تصورهم، فـ"كيف يثبت علماء السيميائية أنفسهم هذا الدور الفريد للسيميائيات؟ وما مدى جوهر هذه الأدلة؟ في عام 1984 نُشرتْ ورقة بحثية من قبل كبار علماء السيميائيات، وهو بيان من نوع ما، قُدِّمَ فيه تعريف لطبيعة السيميائيات ومكانتها بين العلوم الأخرى، وكان هذا هو الذي أدى إلى ظهور تعريف السيميائيات على أنها (علم شامل)" (6).

وكان توماس سيبيوك Thomas Sebeok (1920-2001) "أول من أوضح أن السيميائية توفر وجهة النظر الوحيدة متعددة التخصصات transdisciplinary، أو (بيني/عابر للتخصصات interdisciplinary) التي هي من طبيعتها؛ وبعبارة أخرى؛ فإن السيميائيات تضع موضوعاً لدراستها مكان كل تخصص آخر (بحكم الضرورة) يَعُدُّه أمرًا مفروغًا منه – السميوزيس" (7).

وانطلاقًا من سيبيوك وزملائه -الذين أسسوا الجمعية الدولية للسيميائيات- بدأت فكرة شمولية السيميائيات وتعاليها على التخصصات، والنظر إليها بوصفها وجهة نظر عابرة لكل التخصصات. "ومن السيميائيين المعاصرين كان جون ديلي John Deely (1942-2017) أكثر المدافعين عن هذه الفكرة المتحمسين لها، فالسيميائيات عنده حلقة وصل بين العلوم الإنسانية والطبيعية، فهي تتغلغل في كل من الطبيعة والثقافة"(8). وتتمثل حجج هؤلاء العلماء لإعطاء السيميائيات مكانة فريدة ومميزة في كونها تهتم بمصفوفة جميع العلوم، وأن موضوعَها هو السميوزيس semiosis الذي يوجد في كل ما هو حي، وكل ما يتحرك ويتغير في هذا الكون، في التاريخ والثقافة والطبيعة. فهي علم متعالٍ شامل متعدد التخصصات وعابر لها وتالٍ (ورابط) لنتائجها.

هذه المكانة جعلت عدداً من الباحثين "ينشرون كتاباً بتحرير السيميائي الألماني Walter A. Koch في العام 1990 بعنوان: "السيميائيات وفلسفة العلوم Semiotik und Wissenschaftstheorie". جعلوا فيه السيميائيات من العلم الفوقي/العلم التلوي Meta-science، أو أنها فلسفة العلوم Wissenschaftstheorie، أو الأساس لدراسة العلوم(9).

إن السيميائيات اليوم (بصفة عامة، إذ ليس المقصود اتجاهًا أو مدرسة أو مجالًا معينًا) علم متعدد التخصصات؛ لأنها علم يتميز بالشمول والتعالي، دخلت مجالات عديدة، ونجحت في دراسة كثير من موضوعاتها المعقدة، وجمعت بين عدد من تخصصات في دراسة بعض الموضوعات. وما يميزها أيضاً ويعطيها هذه المكانة هو تجددها المستمر، فهي تجدد طريقتها ولغتها الفوقية من حين لآخر، انطلاقاً من هدفها البحثي. ولذلك تُتهم السيميائيات بأنها علم "لا يعطي تفكيراً لنفسه؛ إنه لا يريد حتى أن يكون علماً عادياً"(10). فهي العلم الذي يغطي كل العلوم ويوحدها ويربطها.

ومن هذا المنطلق؛ فإن السيميائيات قفزت فوق كل ما يثار حول علميتها وتصنيفها، وتجاوزت ذلك إلى الادعاء بأنها غدت علم العلوم، أو فلسفة العلوم والعلم متعدد التخصصات. فهل ستُثَبِّتُ السيميائيات هذه المكانة في المؤسسات البحثية الرسمية؟ وهل ستحافظ على هذا الوضع في المستقبل؟


المراجع: 1. الفلسفة البراجماتية: أصولها ومبادئها ‫(مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بيرس)، علي عبد الهادي المرهج، دار الكتب العلمية، القاهرة، 2008، ص: 82-83.2. المرجع السابق، ص: 83-84. 3. السيميائية وفلسفة اللغة، أمبرتو إيكو، تر: أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2005م، ص: 34-35-36.
(4) Semiotics as science, Silvi Salupere, Sign Systems Studies 39(2/4), 2011, p: 281
(5) Ibid, p: 283.
(6) Ibid, p: 283.
(7) Semiotics “Today”: The Twentieth-Century Founding and Twenty-First-Century Prospects, p: 30
(8) Semiotics as science, p: 283-284.
(9) Ibid, p: 284.
(10) Ibid, p: 286.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها