"لقد حولتنا الشاشات إلى أفراد تتوفر لدينا الكثير من الإجابات، ولكننا لا نملك سوى القليل جداً من الأسئلة الجيدة، أفراد غير قادرين على التفكير لأنفسهم فيما يتصل بالعالم الحقيقي".
لقد أعادت الصورة بكل أشكلها -الرسم التشكيلي- الصورة الفتوغرافية -السينماتوغرافيا- الصورة التلفزيونية- الصورة الرقمية 3D، 4D - الذكاء الاصطناعي. أعادت تشكيل مفاهيم جديد للإدراك، إدراك الواقع بعد الفجوة الكبيرة التي أحدثتها الثورة الرقمية بين الواقع والواقع الافتراضي، بين الواقع والواقع المعزز. فلقد استطاعت الصورة السينمائية بعد مرور سنوات قليلة من ظهورها إلى محاولة التلاعب بالزمن والأحدث وسرعة العرض. واشترك معها التلفزيون الذي ورث العديد من التقنيات السينمائية في مجال صناعة الصورة المتحركة في مجموعة من الخصائص التكنولوجية الرقمية.
الإرث التاريخي:
لقد أعادة الشاشات تشكيل مفهوم المكان -الزمان- الحدث، وجردت هذه الوحدات من انسيابيها الحركي عبر الزمن الفزيائي - الزمن الوجدي، الآن- إلى وحدات مرتبطة بأزمنة متعددة، الزمن الحاضر (زمن الإدراك اللحظي) الزمن الماضي، اللاوعي، والزمن المستقبل (زمن التخيل).
وصاحب هذا التحول في مسار الصورة -الشاشة- وكيفيات إدراكها، تحولات تكنلوجية رقمية ساهمت بالتلاعب في سرعة الزمن عبر تقنيات التركيب الصوري (المونتاج) الذي جعل الصورة -الحدث- تنتقل وتتألف مع مختلف الأزمنة، من الزمن الحاضر إلى الماضي إلى المستقبل بسرعات مختلفة بطيئة، للتركيز على طبيعة الحدث وقوة حضوره، إلى سرعة سريعة دلالة على سرعة تواتر وتوالي الأحداث، مع محاولة الحفاظ على السرعة الطبيعة الفزيائية لعرض الصورة. كما ساهمت التكنولوجيات الرقمية في مجال الصورة، إلى عرض الصورة من مختلف الاتجاهات، إلى حد إمكانية رؤية الصورة على مستوى 360 درجة، عن بعد أو قرب، وهي إمكانية غير متاحة للعين المجردة وبذلك انتهى العرض الأحادي الاتجاه، العرض المسطح للصورة، من أجل تعزير قدرات الصورة في مخاطبة النظام الحسي للمتلقي.
رفاهية الشاشة:
لقد تحولت الشاشات التقليدية، شاشة السينما والتلفزيون من شاشات للفرجة ورؤية العالم فحسب، فيما جاءت ظاهرة انتشار الشاشات، الظاهرة التي تدعمها التكنولوجيات الرقمية التقنية العالية، حولت عالمنا إلى عالم مدهش، شاشات تدفع بنا دون هوادة نحو ما هو أبعد من حدود العالم الحقيقي.
لقد بدا من الملاحظ أن انفجار قوة الشاشات الرقمية خلال الأعوام الأخيرة بفضل ثورة التكنولوجيات الحديثة غيرت من طبيعة الوجود، منذ أن توقع المفكرون والفلاسفة، بأن السينما ومن ثم التلفزيون، سيبسط إمبراطورتيه، وبأن الشاشة ستصبح عائقاً، وحاجزاً بين الإنسان ونفسه. إن العصر الحالي هو عصر التضخم الحقيقي للشاشات، ولم يعد بإمكاننا الحديث عن شاشات للفرجة والمتعة والفائدة، ولم نعد نتحدث عن شاشات هي نوافذ على العالم تمنح الفرصة للتعبير.
بالرغم من أن الشاشات الرقمية تحاول تقديم عروض فنية رقمية، بفضل تطور الواقع الافتراضي والوسائط المتعددة وشبكات الاتصال الرقمي، وما أتاحته هذه الابتكارات التكنولوجية من استكشاف موارد التفاعل الرقمي، حتى يتمكن الجمهور من ألا يكون مجرد مشاهد سلبي؛ وإنما عنصر مشترك في العمل بتعليق أو إشارة أو مشاركة.. فالشاشات الحديثة قدمت للمتفرج -المشاهد- فرصة المشاركة في أجواء المحاكاة، ومحاولة التشبع الافتراضي بالانطباع القوي للواقع.. إلى حد التداخل بين الإنسان ونفسه، وبين التقمص الوجداني للعرض الصوري. من خلال تبني الأفكار والأشكال الفنية، لتتحول على نحو متزايد وفقاً للتقنيات الرقمية، إلى واقع افتراضي في زمن الشاشات الشاملة والمتعددة.
سحر التأثير:
لقد شكل هذا الانتشار الواسع للشاشات وبمختلف الأحجام وفي كل الأماكن، أنماطاً سلوكية جديدة في حياة الإنسان المعاصر، وحولت هذه الشاشات علاقتنا النمطية بالأماكن وبالزمان، وبالأحداث وبعلاقتنا بأنفسنا، وبطبيعة إدراكنا وفهمنا للواقع.
لقد أصبحت الشاشة أداة اتصال وإعلام ووسيط يربطنا بالعالم وبالآخرين، وأصبح مصير تواجدنا في البيئة الرقمية، مرتبط على نحو متزايد بقوة ارتباطنا بالشاشات، المرتبطة بدورها بشبكات الإنترنت، لتفرض نفسها كأداة تعبر عن الأحاسيس والمشاعر الخاصة للفرد، عبر خاصية التفاعل والربط الفوري بكل المتصلين، عن طريق رموز ورسومات وصور... لقد عززت الشاشات خاصية المرونة، فأصبحنا في حالة اتصال "سائل" انسيابي متدفق، من نمط اتصال واحد نحو الكل، إلى نمط الكل نحو الواحد. لقد أدى التقدم التكنولوجي الرقمي وطموح الفرد للتعبير إلى نماذج جديدة من الاتصالات اللامركزية، نمط يتمحور حول النظم التفاعلية المتعددة التي تتميز بالفورية والسرعة الفائقة في انتشار المعلومة.
إننا نتواصل بشكل متزايد من خلال الرسائل النصية والبريد الإلكتروني أكثر بكثير من التواصل المباشر، لقد ترتب على كل هذا الانتشار التكنولوجي الرقمي، وعلى قلة التواصل المباشر حدوث تحولات جوهرية في المواقف والسلوك. إن ثقافة الصورة الرقمية طورت الاستجابة السريعة، وحولت الإنسان المعاصر إلى إنسان شديد التوتر على نحو مستمر، ولم يترك لنا طغيان الصورة الوقت للتفكير مع أنفسنا.
لقد أصبح الإنسان الرقمي مهوساً بتأثير الصورة الرقمية، والانتقال من حالة الوعي إلى اللاوعي، بفعل هذا التأثير المتزايد للشاشات، التي تؤثث جميع فضاءات حياة المعاصرة.
لقد حولتنا التكنولوجيات الرقمية الحديثة إلى مجتمع من الأذهان المشتتة بين الشاشات، بعيداً عن التأمل والتفكير. لقد شلت الشاشات نظام الانتباه والتركيز ونظام العلاقات الإنسانية، أصبحنا نتواصل عبر الشاشات، وعبر "الصورة" تواصلًا هشاً وسريع الانزياح. واستطاعت التكنولوجيا الرقمية الحديثة والإنترنت التواصل عبر الفضاءات الافتراضية، في نفس الوقت طورت في نفسيتنا الهشاشة، ونفاد الصبر والانعزال، والانفصال عن الواقع الحقيقي.
لقد جعلنا تواتر الصورة الرقمية وتأثيراتها أكثر بعداً من التفكير العميق، حرمتنا الصورة والتكنولوجيات الحديثة "الشاشات" من التفكير المتسع والهادئ؛ المتحرر من التوتر والمستغرق في التأمل، وألقت بوعينا في التفكير المحدود بإطار الأجهزة الإلكترونية الرقمية. لقد حولت الشاشات الرقمية سرعة إيقاع الحياة بما لا يتناسب مع قدراتنا على التفكير والإحاطة بكل هذه المعلومات. لقد أصبحنا غارقين في معلومات تزيد عن حاجاتنا، ولم نعد نملك القدرة والوعي على تصنيفها وترتيبها وحتى إدراكها، فنجد صعوبة في التركيز؛ لأن فطرتنا البشرية تدفعنا إلى معرفة كل شيء عن أي شيء. لقد أصبح الإنسان الرقمي المعاصر مرهق التفكير في محاولات الاقتناع، أو محاولات إقناعنا بما تعرضه الشاشات، بأن كل المعلومات مفيدة، ويمكن تعديلها ومواءمتها لواقعنا الافتراضي الجديد. وقد أطلق على هذه الميزة من التأثير التواصل الرقمي عبر الصورة مصطلح (ألفة المخالطة)، هذه الألفة التي جعلت الإنسان المتلقي للشاشات، يلتقط ويتقمص مزاج الآخرين، وفك شفرات الإشارات التواصلية الصغيرة، التي يتم تبادلها بين المرسل والمستقبل. وهذا خلاف للتواصل المستمر الذي يعني استبدال مصطلح (المودة بالألفة) التي سرعان ما تحول العلاقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى علاقات تتلاشى وتتقادم، وربما تهمل عبر الوقت الرقمي الافتراضي.
إننا نتعايش مع جيل الشاشة وفقاً لتصانيف الأجيال1، وهي تصانيف للأجيال حسب طبيعة علاقتها بالتكنولوجيات الرقمية والإنترنت.
فجيل الشاشات يستيقظ على منبه الساعة على الهاتف المحمول، ويتصفح الأخبار والمواقع الاجتماعية على شاشة جهاز الهاتف النقال، ويذهب جيل الشاشات لمدراسهم ومناطق عملهم عبر سيارات مجهزة بنظام معلوماتي عبر شاشات، ويقضون معظم أوقاتهم مع الشاشات منذ الساعات الأولى للصباح إلى وقت متأخر من الليل.. إن جيل الشاشة يستخدمون الهاتف المحمول في إدارة شؤونهم اليومية، فالشاشة جهاز تواصل يسمح بإعادة تشكيل الزمان والمكان والأحداث.
***
1. تصانيف الأجيال:
1965-1980 / جيل x شاشات (السينما التلفزيون الكومبيوتر)
1996- 1980 / جيل y (جيل الإنترنت)
1997-2012 / جيلz (جيل الرقمنة)
2012-.... / جيل (الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي...)