يُعدّ التكامل المعرفيّ أحد أبرز المفاهيم التي برزت مع تطوّر العلوم الحديثة، وتوسّعها في اتجاهات متعدّدة. ويشير هذا المصطلح إلى السعي إلى ربط التخصصات المختلفة ربطاً وظيفيّاً منهجيّاً، بما يسمح بتشكيل رؤية موحّدة، وشاملة للمعرفة الإنسانية. ويقوم التكامل المعرفيّ على تجاوز التجزئة التقليديّة للمعارف، ببناء جسورٍ بين العلوم الطبيعيّة، والإنسانيّة، والاجتماعيّة، والفنون، بما يحقق إثراءً متبادلاً، ومقاربةً أكثر شمولية لفهم الواقع.
وقد نشأ مفهوم التكامل ردَّ فعل على أزمة التخصص الدقيق الذي أدّى إلى تفتّت المعرفة، وإلى نشوء فجوات بين الحقول العلميّة المختلفة. فمع تعقّد المشكلات المعاصرة وتشابكها، بات من الضروريّ إرساء منهجيّات بحثيّة تجمع بين الأدوات والمفاهيم المتنوعة، بدلاً من الاعتماد على حقل معرفيّ منفرد.
ويُعدّ مفهوم التكامل المعرفيّ (Epistemological Integration) من المفاهيم التي تشكّلت عبر مسار طويل من تطوّر الفكر البشري، بدءاً بالفلسفة الكلاسيكية، مروراً بعصور التنوير والعلم الحديث، وصولاً إلى تنظيرات القرن العشرين حول المعرفة البَينيّة (Interdisciplinarity).
ففي الفكر اليوناني القديم، لم تكن المعرفة موزّعة على تخصصات مستقلة، بل كانت تمثّل وحدة متكاملة تُجسّدها الفلسفة الأم التي تشتمل على المنطق، والطبيعة، والأخلاق، والفنون، وقد واصل فلاسفة الإسلام مثل ابن سينا والفارابي هذا التصور التكاملي، حين كانت العلوم تُصنّف في منظومات هرميّة مترابطة، تجمع بين الطبيعيّ والإلهيّ، وبين الرياضيّ والأخلاقيّ.
ثمّ جاء عصر التنوير ليركّز على التخصص وسيلةً لتقدم المعرفة، لكنه في الوقت ذاته أرسى جذور ما سيُعرف لاحقاً بالتكامل، من خلال إيمان مفكّريه بإمكان قيام "وحدة للمعرفة الإنسانية" وفي القرن العشرين، أعاد الفيلسوف والعالِم C. P. Snow إثارة إشكالية الفصل بين "الثقافتين": الثقافة العلميّة، والثقافة الأدبيّة، داعياً إلى جَسر الهوّة بينهما. وقد مهّد هذا النقاش لظهور توجّهات معرفيّة جديدة تسعى إلى إعادة الربط بين الحقول العلميّة، وتطوير ما يُعرف بالمعرفة البَينيّة (Interdisciplinary Knowledge) والتخصصات المتداخلة (Transdisciplinary Studies).
ويُعدّ كتاب إدوارد أو. ويلسون محطة مركزيّة في التنظير المعاصر للتكامل المعرفيّ؛ إذ دعا فيه إلى "ردم الفجوة بين العلوم الطبيعيّة والإنسانيّات"، مؤكداً أنّ جميع أشكال المعرفة يجب أن تصب في نهر واحد هو الحقيقة. كما أسهمت نظريات ما بعد الحداثة في زعزعة الحدود الصلبة بين التخصصات، وقدّمت مفاهيم مثل "التناص المعرفيّ" و"الهجنة المفهوميّة" التي أضحت من مقوّمات التفكير التكامليّ المعاصر.
✧ التكامل المعرفيّ بين الأدب والفيزياء الحديثة أنموذجاً ✧
ليست العلاقة بين الأدب والفيزياء مجرد علاقة تفاعليّة سطحيّة، بل هي علاقة عميقة تستند إلى أسس فلسفيّة ومعرفيّة مشتركة. والأدب، بوصفه علماً إنسانيّاً، يعتمد على الخيال والإبداع؛ لاستكشاف الوجود الإنسانيّ والكونيّ، بينما الفيزياء، بوصفها علماً طبيعياً، تعتمد على التجربة والتحليل الرياضيّ لفهم قوانين الطبيعة. ومع ذلك؛ فإنّ هناك نقاط تقاطع بين الميدانين تجعل منهما شريكين في رحلة البحث عن الحقيقة.
ويمثل التداخل بين الأدب والفيزياء أحد أبرز تجليات التكامل المعرفي المعاصر؛ إذ تتخذ بعض الأعمال الأدبيّة من المفاهيم الفيزيائيّة بنيةً رمزيّة، وجماليّة تعبّر من خلالها عن رؤى فلسفية أو أنطولوجية معقدة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أعمال خورخي لويس بورخيس (Jorge Luis Borges) التي تُعد مختبراً سردياً لمفاهيم علميّة مثل الزمكان، واللانهاية، والتعدّد، والاحتمال، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفاهيم فيزيائية كميكانيكا الكمّ، ونظرية النسبيّة.
ففي قصة "مكتبة بابل" (La Biblioteca de Babel)، يصوغ بورخيس فضاءً سردياً يستند إلى فكرة رياضيّة– فيزيائيّة عن اللانهاية، حيث تُصوّر المكتبة كوناً لا نهائياً من الكتب، يعكس بنية رياضيّة احتماليّة تثير أسئلة حول الحتميّة والفوضى، والمعرفة والعبث، وهي إشكاليات تتقاطع بعمق مع فيزياء الكمّ، والاحتمال الإحصائي.
أما إيتالو كالفينو (Italo Calvino)، فنجده في مجموعته "قصص كونية" (Cosmi comics, 1965)، يوظّف نظريات فيزيائية مثل الانفجار العظيم، وتشكّل الكون، ونسبيّة الزمن في بنية سرديّة تجمع بين الخيال العلميّ والفلسفة، حيث تتحول المفاهيم الفيزيائية إلى شخصيّات روائيّة تستعرض التحولات الكونية من منظور وجوديّ وشعريّ. وهنا يتجلّى التماهي بين العلم والخيال بوصفه أداة لفهم الوجود.
وفي السياق العربي، نجد ملامح واضحة للتكامل بين الأدب والعلم في كتابات مفكرين وأدباء سعوا إلى جَسر الهوّة بين المعنى والجُملة، بين الشعر والنظرية. فقدّم زكي نجيب محمود أنموذجاً فريداً للفكر العلمي المنطقي في حقل الأدب، إذ دعا إلى "تحديث العقل العربي" عبر إعادة قراءة النصوص بمنطق تحليلي. أما مصطفى محمود فجمع بين التفسير العلمي للكون والتأمل الروحي، وقدّم أعمالاً، مثل: رحلتي من الشك إلى الإيمان التي تجمع بين النزعة الأدبية والتساؤل الكوني العلمي. كذلك نجد عند أدونيس تلميحات معرفية فيزيائية في قصائده، حيث تتقاطع صورة الزمن والمكان مع ثيمات فلسفية عميقة.
وتُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للأدب أن يتحوّل إلى وسيط تأويليّ، يدمج المفاهيم العلمية في بنى رمزيّة تخاطب العقل والخيال معاً، مما يعزّز القيمة التطبيقيّة للتكامل المعرفيّ، ويثبت أنّ المفاهيم الفيزيائية ليست حكراً على المعادلات، بل قادرة على خلق سرديّات بديلة لفهم العالم.
إنّ الخيال هو المحرك الأساسي لكلّ من الأدب والعلوم. ففي الفيزياء الحديثة، مثلًا، كان لتصورات علماء الفيزياء حول الجسيمات دون الذريّة، أو الثقوب السوداء دور محوريّ في تطوير النظريات العلميّة. والأدب، وبخاصة أدب الخيال العلميّ، يقدّم سيناريوهات مستقبليّة تحفّز العلماء على استكشاف أفكار جديدة. فرواية "عشرون ألف سنة تحت البحر" لجول فيرن Jules Verne، ألهمت كثيراً من الابتكارات التكنولوجية في ميدان الغوص البحريّ.
والزمن أحد المواضيع المركزية في كلّ من الأدب والفيزياء. ففي الأدب، يتمّ استكشاف الزمن بالسرد الروائيّ، والتلاعب بالخط الزمنيّ (مثل رواية "الزمن المستعاد" لمارسيل بروست Marcel Proust). وفي الفيزياء، الزمن هو أحد الأبعاد الأساسية في النظرية النسبية لأينشتاين Albert Einstein.
أما الواقع فهو موضوع مشترك؛ فالفيزياء الحديثة تقدّم نماذج للواقع، مثل ميكانيكا الكم التي تتحدّى الفهم التقليدي للواقع، بينما الأدب يستكشف أبعاد الواقع بالرمزيّة، والتشبيه.
وحين يتمّ الجمع بين العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة، يتمّ تحفيز التفكير النقديّ، والإبداعيّ. ومن شأن هذا التفاعل أن يفتح آفاقاً جديدة للبحث، والابتكار. ويمكن أن نذكر -على سبيل المثال- أنّ النظرية النسبية لأينشتاين قد أثارت جدلاً فلسفياً، وأدبياً حول طبيعة الزمن والفضاء. وقد تمّ استخدام هذه النظرية في عدد من الأعمال الأدبيّة؛ لاستكشاف الزمن، والواقع. وأنّ رواية "النجم الخفيّ" لآرثر سي. كلارك Arthur C. Clarke دمجت بين الخيال العلميّ والمفاهيم الفيزيائيّة، مثل الجاذبيّة والنسبيّة. وقدّمت سيناريوهات علميّة مستقبليّة تتحدّى فهمنا التقليديّ للواقع.
ويمكن أن يسهم الحوار بين الأدب والفيزياء الحديثة في إعادة صياغة المناهج التعليميّة بحيث تكون أكثر تكاملاً، وتفاعلاً، مما يعزز من فهم الطلاب للعالم بشكل شامل.
ونتحدث -في هذا المقام- عن "مختبر المعنى" وهو تجربة بَينية في جامعة أمستردام، فقد أُطلق مشروع تعليميّ بحثيّ يحمل اسم "مختبر المعنى" (The Meaning Lab)، يجمع بين أساتذة، وطلبة من أقسام الفيزياء النظرية، والفلسفة، ودراسات اللغة. ويقوم المشروع على فكرة أنّ الظواهر العلمية الكبرى (مثل الزمن، والفوضى، والطاقة، واللا نظام) ليست فقط مفاهيم رياضية، بل لها أيضاً حمولة ثقافية، وتأويلية يمكن تفكيكها، وتحليلها من منظور إنساني. ويتم إثارة موضوع بحثيّ سنويّ –مثل "الزمن"– يُقارب من جانبين:
- فيزيائي: من خلال نماذج الزمن في ميكانيكا الكمّ، والنسبيّة.
- إنساني: من خلال تحليل تصوّرات الزمن في الأدب، واللاهوت، والفكر الفلسفي.
ويتعاون الطلاب على إنتاج مشاريع متعددة الوسائط: مقالات تأمليّة، وعروض تجريبيّة، وأعمال فنيّة رقميّة. وينجم عن ذلك تعميق الفهم النظري، وتوليد وعي نقديّ بالمفاهيم التي نألفها، وإعادة صياغتها بطرق مبتكرة.
ويعني ذلك أن التكامل المعرفي لا يتطلب إلغاء التخصص، بل خلق فضاءات مشتركة للحوار والتجريب. ويمكن للبيئة الأكاديمية أن تتحول من "مستودع معرفة" إلى "ورشة تفكير" إذا ما أتيحت لها الأدوات البينية.
إن إعادة التفكير في العلاقة بين العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة ليست ترفاً فكرياً، بل تمثّل ضرورة معرفية، يفرضها تعقّد الظواهر المعاصرة، وتشابك الأسئلة الكبرى التي تعجز التخصصات المنعزلة عن الإحاطة بها منفردةً.
وقد بيّن هذا المقال أنّ المفاهيم الفيزيائية ليست فقط أدوات لقراءة العالم الطبيعي، بل يمكن إعادة توظيفها لإنتاج تأويلات جديدة للنصوص والمعاني، تماماً كما أن الفهم الأدبي واللغوي قادر على كشف الأبعاد الإنسانية والرمزية في المفاهيم العلمية.
ولترجمة هذا التكامل إلى ممارسة فعالة، يمكن تصور مشروع علمي–تعليمي يقوم على محورين رئيسين:
- تصميم مساقات بَينيّة في الجامعات تجمع طلاب الفيزياء والفلسفة والأدب، وتتيح تحليل النصوص العلميّة والأدبيّة برؤية تكاملية، وتشجع على الإنتاج المعرفيّ المشترك.
- إنشاء مختبرات فكريّة (Cognitive Labs) يعمل فيها باحثون من مختلف التخصّصات على قضايا معقدة مثل الذكاء الاصطناعيّ، أو التغير المناخيّ، أو الأخلاق الحيويّة، مع اعتماد أدوات من كلا الحقلين: الإنسانيّ، والطبيعيّ.
إنّ التكامل المقترح لا يهدف إلى تذويب الحدود بين التخصّصات، بل إلى إقامة جسور معرفيّة مرنة تسمح بتبادل الأدوات والمفاهيم، وتوليد أنماط جديدة من التفكير، تستجيب لحاجات الحاضر وأسئلته. وبهذا المعنى، فإنّ مستقبل المعرفة لا يكمن في المزيد من التخصص، بل في المزيد من التداخل الواعي بين العوالم الفكريّة المختلفة.
مراجع المقال:
Kenny, A. (2012). A New History of Western Philosophy. Oxford University Press ▻
◄ عالج الكاتب في هذا الكتاب وحدة المعرفة في الفكر اليونانيّ.
Cassirer, E. (1951). The Philosophy of the Enlightenment. Princeton University Press ▻
◄ ناقش الكاتب -هنا- فكرة وحدة المعرفة الإنسانيّة.
Snow, C. P. (1959). The Two Cultures and the Scientific Revolution. Cambridge University Press ▻
◄ أثار سنو في كتابه قضية الفصل بين الثقافتين.
Wilson, E. O. (1998). Consilience: The Unity of Knowledge. Knopf ▻
◄ قدّم -في هذا الكتاب- رؤية لتحقيق وحدة المعرفة.
Lyotard, J.-F. (1984). The Postmodern Condition: A Report on Knowledge. University of Minnesota Press ▻
◄ ناقش -في هذه الدراسة- انهيار الحدود بين التخصّصات.