"أخلاق الظل" للكاتب عبد الفتاح صبري

رؤية فلسفية في تشظي الوجود والهوية

المختار محمد يحظيه


يُقدِّم الأديب الروائي والناقد المصري عبد الفتاح صبري، في كتابه "أخلاق الظل" نصًّا أدبيًّا غنيًّا بالرمزية، يحوِّل الظل من مجرد انعكاس ضوئي إلى كيان فلسفي يعكس أزمات الوجود الإنساني في العصر الحديث؛ فمن خلال لغة شعرية مكثفة، ينسج الكاتب حوارًا بين الإنسان وظله، ليسائل مفاهيم الهوية، الأمانة، والحرية في عالمٍ تُسيطر عليه الواجهات الرقمية والاستلاب المادي.
 

يحيلنا عبد الفتاح صبري في بداية نصه، إلى الثنائية الكلاسيكية بين النور والظلام، لكنه يعكسها عبر عدسة معاصرة؛ فـ"الظل" في النص ليس غيابًا للضوء، بل هو كيان مستقل يمتلك إرادة: "الظل قرين صاحبه غير الأمين"، فهو أحياناً يخون صاحبه، وعبد الفتاح في ذلك يُشير إلى انفصال الإنسان عن ذاته في عصرٍ أصبحت فيه الهويات مُجزّأة بين الواقع الافتراضي والحقيقي.



الظل كسارد أسرار: 

يُصور الكاتب الظل كـ"مراقب" يسجل أفعال الإنسان: "يسجل لي.. رجوته ألا يفضحني"، ملمحًا في ذلك إلى مفهوم "المراقبة الداخلية" حيث يصبح الفرد سجينًا لمراقبة ذاته، لكن صبري يضيف بُعدًا وجوديًّا، فالظل هنا ليس رقيبًا خارجيًّا، بل هو جزء من الذات المنسلخة، الذي "يستهدي بي ويمعن في تقليد حركاتي" في تقليد آلي يُجسِّد أزمة الهوية في عصر الاستهلاك، حيث يصبح الإنسان نسخةً من صورته المُعلَّبة.

وفي مشهدٍ مأساوي، يصف الكاتب هروب الظل من صاحبه في لحظات الضيق: "حين تلم بي مشكلة... يهرب مني" ليُجسِّد الهروب اغتراب الإنسان عن ذاته عندما تواجهه الأزمات، في عالمٍ تُقدَّم فيه الحلول السريعة عبر "اللايكات" بدلًا من المواجهة الوجودية. والظل هنا يصبح شاهدًا على العجز الإنساني أمام تعقيدات الواقع.

الظل كجسرٍ إلى الماوراء: 

يطرح صبري فكرة ميتافيزيقية في كتابه؛ إذ يقول: "عملية تحضير الأرواح ما هي إلا استدعاء لظل الإنسان الميت"، وهو هنا يُعيد تعريف الموت ليس كمُطلق، بل كاستمرارية للظل في عالمٍ آخر، وقد يُقرأ هذا كتحدٍّ للرؤية المادية التي تُجرد الموت من معناه، وتُشير إلى أن الذات الإنسانية (حتى في شكلها الظلي) ترفض الاندثار.

وينتقد الكاتب تحويل الظل إلى سلعة: "رأس المال البشع وظف كل شيء... حتى الظل"، وهو في هذه الفقرة يتعارض مع مفهوم "تشيؤ الإنسان" عند ماركس، حيث يصبح حتى الجزء اللامادي من الإنسان (ظله) خاضعًا لآليات السوق، ويُضيف صبري لمسته الخاصة عبر تلميحه إلى "خيال الظل" الفن الشعبي الذي حوّله الرأسمال إلى أداة احتيال: "يحتال به علينا".

التشظي الاجتماعي والظل المُتعدد: 

وعندما يصل الكاتب إلى مكانٍ به "آلاف الظلال تتهيأ للانقلاب علينا"، يُشير إلى حالة التمزق التي يعيشها المجتمع العربي، حيث تتصارع الهويات (الطائفية، القبلية، الحداثوية) دون تحقيق انسجام، فالظل هنا ليس فرديًّا، بل جماعيًّا، يعكس فشل المشروع القومي في خلق هوية موحدة.

ثم يتساءل الكاتب: "هل الماء بلا ظل لأنه طهور"؟ والماء هنا قد يرمز إلى المحاولات العربية لإظهار "النقاء" الأخلاقي أو السياسي، بينما الواقع يُخفي تشوهاتٍ لا تُرى. السؤال أيضًا يلمح إلى أن الحقائق الجوهرية (كالماء) ترفض أن تُختزل إلى ظلالٍ سطحية.

اقتصاد الكلمات وكثافة المعنى: 

يستخدم صبري لغةً شعريةً مُوجزة، كقوله: "نحن ظلّان حللنا بدنا"، حيث يحمل السطر الواحد طبقاتٍ من الدلالة: التشظي، التوحد، والصراع، وهذا الأسلوب يُذكِّر بشعراء التفعيلة (كأدونيس)، لكنه يضيف بُعدًا وجوديًّا معاصرًا.

يمزج الكاتب أيضًا بين الجدية والسخرية السوداء، كما في وصفه لظل الميت الذي "يكره أن ينام في حضني خوفًا مني"، وهي مفارقة تُعزز النقد الاجتماعي، وتكشف عن التناقض بين المثاليات الإنسانية والواقع المُهترئ.

يواصلُ صبري الغوص في عوالم الظلّ واستكناه مجاهيله، يقول: "من يعيش بظله يمشي إلى حتفه" ليؤكد أن التماهي مع الصورة السطحية للذات (الظل) يؤدي إلى الموت المعنوي. لكن في المقابل، يترك الكاتب بصيص أمل عبر استمرارية الظل حتى بعد الموت، كإمكانيةٍ لبعثٍ روحي. 
 

رؤية فلسفية:

في الواقع العربي، حيث تُسيطر الصورة على الجوهر، يُصبح هذا النص صرخةً ضد الاستلاب، ودعوةً لاستعادة الذات من براثن الظلال الوهمية، فعبد الفتاح صبري لا يكتفي بإعادة إنتاج أفكار فلسفية مسبقة، بل يقدم رؤيةً جديدةً للظل ككيانٍ فاعل في تشكيل الوجود، ونصّه يُحاور تياراتٍ مثل الوجودية والنقد الاجتماعي، لكنه يظل مُتجذرًا في السياق العربي، مما يجعله مرآةً لأزمات العصر، ورغم بعض الغموض في الصياغة، إلا أن هذا الغموض يُثري النص، ويجعله مفتوحًا على تأويلاتٍ متعددة، كأي عملٍ فلسفيٍّ مكثّف.

الظلّ، في نهاية المطاف، بالنسبة للكاتب هو السؤال الذي يُعيد تشكيل نفسه مع كل عصر. إنه ليس عدوًّا ولا حليفًا، بل مرآةٌ تُجبرنا على مواجهة تناقضاتنا:

كأفراد: نرفض ظلّنا لنهرب من عيوبنا، لكننا نكتشف أنه البوابة الوحيدة لتكامل الذات.

كمجتمعات: نخاف من ظلال الآخرين، فنحوّلها إلى هويات مُهدَّدة، بينما هي في الحقيقة امتداد لنا.

كحضارة: نحاول قتل الظلّ بالتكنولوجيا، لكننا نخلق ظلالًا أكثر تعقيدًا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها