في موعد القطار!

أحمد أبو دياب

في موعد القطار 752 الساعة 06:12 صباحًا (قطار الرُكّاب)

"اهتزازات شمالية وجنوبية يصاحبها صفير مقلق يزداد في الصالة مع وجود احتمالية حدوث انقلابات أو اصطدامات بين القطارات، ويتوقع سقوط بعض من البنايات القديمة المجاورة لشريط السكّة الحديدية، يرجى توخي الحذر والالتزام بالوجود قريبًا من باب الشقّة واتخاذ التدابير اللازمة".

انتهى الأستاذ عبد السلام من ارتجال نشرة الأحوال الأرضية وطقس السكّة الحديدية اليوم، بصوت عال متعمدًا أن يسمعه بقية أفراد أسرته، وهو يداعب طفلته الصغيرة ريثما تنتهي زوجه من إعداد الإفطار، وجرت العادة أن يسمعهم ذلك الإرشاد الساخر المتنوع في محتواه؛ يوميًا فور مرور قطار الرّكاب، الذي مر اليومّ مسرعًا على غير عادته، ربما يعوض تأخيرًا أو يعجّل أقدارًا، المهم أنه مضى واستيقظت الأسرة، وهكذا يكون على عادته.

سمّوه "المنبّه"، وعَدَّوه هو على وجه التحديد واحدًا من أفراد الأسرة دونًا عن بقية القطارات التي تمر بجانبهم، وذلك اعترافًا لما يقوم به من فضائل لا تعدّ، حيث كان القطار حميميًا بدرجة تجعلهم يشعرون أنه يمر فوق أسرّتهم لا على القضبان، فلم يتكبد الأستاذ وأسرته معاناة الاستيقاظ، ولم يكن الإفطار مستحبًا قبل مرور القطار، كأنه أذان المغرب في شهر رمضان، لكن موعده كان ما يشبه إذنًا، أو تأشيرة لمدّ الأيدي وتحريك الأفواه، فلو أُعدّت المائدة في مكانها قبل الموعد لجاء القطار وقلّبها هي ومن عليها، وضاعت الوجبة وشقّ الأمر على سيدة المنزل في التنظيف.

ثمّ ينتهي الإفطار ويسيح كلٌ إلى سبيله، من الأب والأبناء، وتتبقى الأم في مملكتها المتصدعّة، تنتظر زلزالًا جديدًا، يأتي مع قطارها المفضّل.
 

في موعد القطار 016 الساعة 01:02 ظهرًا (قطار البضائع)

وكأي أنثى، مغرمة بالأشياء والحاجيات، كان هذا القطار الذي يروق لها، إنه رغم عنفوانه؛ أنثى كما تتصوره، فهو يبعث الفوضى ولكنه يحقق الرغبات؛ يعيد ترتيب الأشياء بمفاهيم جديدة ووجهات نظر مختلفة.

فكم مرة تدخل إلى مطبخها وتجده قد تبدّل كمزاج السيّدات، ولو صادف الوقت مرور القطار وهي واقفة في المطبخ، كانت ترى بعينها ما يحدث والأواني تتقافز كالأرانب، وتتطاير قطع المطبخ نفسها -رغم تشبثها بالجدران- كشعر فتاة طليق يهفهف من نافذة عربة مسرعة، وقطار البضائع بما يحمله من أثقال وبكونه هو ذاته قطارًا، كان كفيلًا لأن يجعلها ترى مطبخها كل يوم بترتيب جديد غير محسوب ولا مألوف.

لقد عوّضها القطار عن قصر قامتها كأغلب السيدات، وجنّبها استخدام السلّم أو انتظار زوجها أو أحد من أولادها لكي يجلب لها إناء أو أي شيء من مكان مرتفع في المطبخ أو بقية الشقّة، بل جعلها ذلك تتمادى أكثر في استفادتها منه.

وامتد الأمر إلى تسلية طفلتها الصغيرة وإقناعها بأنها بطلة خارقة، تستطيع أن تمارس السحر وتحريك الأشياء عن بعد بمجرد الإشارة إليها أو جذبها بالصوت أو النظرة، لكنّها احتاجت إلى جهد مضاعف لتقنع الطفلة بأن بطولتها مؤقتة، وسحرها لا يعمل طوال اليوم، ويرتبط حتمًا بصوت قطار البضائع، الذي –حسب كلام الأم- تناديه بصوتها من الشرفة قبل قدومه وتلقي عليه بسحرها أمرًا، فيجيء بعدها بلحظات مسرعًا كجنيّة طيبة ليحققه، ثم يستكمل طريقه إلى كل ساحرة تطلبه، وذات مرّة طلبت البنت من أمها أن تمنحها من سحرها، وتجعلها خارقة مثلها وقادرة على إسقاط الآنية والأكواب والأشياء من مكانها، فوافقت الأم على قواعد اللعبة حتى لا تفقد بطولتها المؤقتة، إلى أن تكبر البنت، وتتفهم حقيقة سحرها... وبطولتها.
 

في موعد القطار 2007 الساعة 04:20 عصرًا (قطار الـ VIP)

طالما حلم الأستاذ بكرسيّ هزّار كالذي يراه في الأفلام والمسلسلات يستخدمه بعض من الناس الميسورين، لتهدئة الأعصاب أو ممارسة التفكير بشكل مرفّه، ولم يتوفر له ذلك الكرسي ولا حتى فرصة التفكير في أي أمر من الأمور، فهو دائمًا ردة فعل، اهتزاز بسبب الحركة التي تحدث، أو سكون لغياب الحركة، وقد واتته الفرصة ليحقق حلمه بعد فترة من سكناه في هذه الشّقة التي يقطنها جوار شريط السكة الحديد، وقد تم الاكتشاف على غفلة منه، حين كان يجلس في شرفته على كرسي بلاستيكي ومرّ قطار ال VIP بعد الرابعة عصرًا بقليل، فلاحظ الكرسي يهتزّ كأنه محموم حتى كاد أن يلفظه للشارع، لم يدخل من الشرفة إلى داخل الشقة ليخبر أهل بيته باكتشافه ويصيح مثل العالم أرشميدس "وجدتها... وجدتها"، لكنه اكتفى بأن هدأ من روع الكرسي حتى انتهت غضبة الاهتزاز، ثم ابتدأ في تدبير حيلته.

جاء بقطعتين من الخشب، سوّاهما قبل أن يقوم بفردهما على أرضية الشرفة، وثبّتهما كقضيبين متوازيين، ثم عدّل الكرسي بأن أضاف له دعامات خشبية قديمة التقطها من شريط القطار، وذلك لتجمع الدعامات أرجل الكرسيّ معًا، يلي ذلك أن وضع الكرسي بين القضيبين الخشبيين بطريقة تسمح له بالحركة عندما يهتز، وجرّب اختراعه وقد نجح! حين مرّ موكب المسافرين ال VIP في ميعاده، وأصابه من قطارهم ريح خلخلت كرسيّه فاهتز وتمايل، ليس تمامًا كما أحَب، فقد رجّه كزجاجة مياه غازية وفارت أعضاؤه، لكنه اصطبر إلى أن هدأت الوتيرة، وظلّ يستمتع بصدى أمواج الاهتزاز التي خلّفها القطار بعد أن غادر، وقد تعلّم التدخين من وقتها، حتى يجد مبررًا لشروده وانشغاله أثناء لحظات الارستقراطية الزائلة، التي أصبح حريصًا على ممارستها حرصه على ممارسة الحب مع زوجه.
 

في موعد القطار 083 الساعة 01:58 بعد منتصف الليل (قطار النَّوم)

كان بمثابة فيلم السهرة الذي عليهم –كراهية- مشاهدته، والسيء أن الفيلم نفسه يتكرر كل يوم وفي نفس الموعد، والمؤرق أن الأستاذ وأسرته كانوا يراقبون قطار النوم من الشرفة أو الشبّاك، ويتعجّلون مروره، متلهفين كالأطفال ليلة عيد الميلاد وهم ينتظرون الهدايا من سانتا كلوز، وهديتهم تذكرة النوم التي يطوّحها لهم القطار كل ليلة قبل أن يختفي، ماضيًا بالركّاب إلى وجهته وهم نائمون مطمئنون، صحيح أن الشبابيك المعتمة لم تكن لتكشف لهم كيف يكون نومهم؛ غفوة أم استغراقًا، لكن على كل حال هو نوم مؤقت لمسافرين لا يرجون أكثر من الاستلقاء لحين الوصول.

ولكن تقريبًا لم يخلُ الأمر من منفعة، فكم ليلة كان الأستاذ وزوجه على وشك تفويت ليلة رائقة بسبب النعاس الذي قد يزحف على أحد منهما، لكن القطار صراحة كان لا يسمح أبدًا أن يمر ويسحب خلفه ليلة من دون أن يتم أمر قد انتوياه، فصفيره المقبض والاهتزاز الحاد، كانا ليوقظا مقبورًا، والأهم من هذا، أنهما يوقظان أشياء تؤتي بثمارها في النهاية، فالحنين إلى الأماكن والذكريات التي تدوي في صوت القطارات كان كل ذلك يدفع الأستاذ إلى اللجوء إلى مكان هادئ، أو حتى مكان يحتمل فيه الأحاسيس الملتبسة، فلا يجد مكانًا أرأف من حضن شريكته، وكذلك الخوف من صوت القطارات، تداعيات الانتظار ومحطات العمر وأصوات الرحيل، أفكار تجعل الزوج تهرع للاحتماء بزوجها ولو بشكل مؤقت حتى يمرّ القطار بسلام، ومما كان يعكّر صفو الأستاذ وأهله، أن المنبّه؛ قطار الركّاب الصباحي الذي يوقظهم، لا يستطيعون اللحاق به مثل باقي الركاب، للوصول إلى عمل أو مدرسة أو للتسوق من المدينة القريبة، إذ إن المدّة بين توقيت فيلم السهرة وتوقيت "المنبّه" لم تكن كافية للنوم بشكل طبيعي خلال اكتمال دورة يومهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها