يبدو أن الحروب لا تنطفئ نيرانها.. لكنها تخمد، وسرعان ما تستثيرها الرياح لتُشعِل فتيلها من جديد... هكذا دلّل ضمنياً المقطع الدعائي في الفيلم الألماني "All Quiet on the Western Front/ كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، الحائز على أربع جوائز أوسكار هذا العام، والذي يُظهِر شعلة نيران مجهولة تُضيء سماء الليل الخالية من النجوم، لتكشف عن ساحة معركة مقفرة، حيث يرقد جندي سقط في براثن الأسلاك الشائكة، بينما تتابع الكاميرات السترات الملطّخة بالدماء والممزقة بالرصاص والجثث، الغارقة في الوحل ودخان البارود الذي يلِفُ السماء، لإظهار كيف كانت حرباً لا هوادة فيها.
يسوق الفيلم قصة مروعة عن الحرب العالمية الأولى بـ"أعين الجنود الألمان" باعتبارها "رسالة مفتوحة" معاصرة آتية من جوف الماضي مناهضة لويلات الحروب في كل زمان ومكان، مؤكدة أن الحروب لا تموت؛ وإنما تحيا أبداً في ذاكرة شعوبها وأجيالها المتعاقبة.
يكاد "التاريخ" يلعب دور البطولة المطلقة في هذا الفيلم المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب "إريك ماريا ريمارك" عن الحرب العالمية الأولى، والذي استهل روايته بجملة افتتاحية بالغة الأثر، يقول فيها: "كل القنابل والانفجارات الأولى تفجرت في قلوبنا..."، وتعد رواية "ريمارك" هي الرواية الألمانية الأكثر مبيعاً على الإطلاق في تاريخ الأدب الألماني. الفيلم من إخراج المخرج الألماني إدوارد بيرغر، الذي نجح في خلق مكافئ بصري هام يعبر عن التيمة الرئيسية للقصة في عنصر واحد فقط، ألا وهو، "السترات العسكرية" التي يُعاد تدويرها بين الجنود الأموات والأحياء بعد غسلها ورتق فجوات اختراق الرصاص، ثم تقديمها للمجندين الجدد، الأمر الذي عكس أن حياة هؤلاء أقل قيمة من الزي الذي يرتدونه.. وكأنه التاريخ الذي نُعيد نحن البشر ارتداءه بكل ما به من عذابات.

حصد الفيلم أربع جوائز أوسكار، وهي: أفضل تصوير سينمائي، أفضل تصميم إنتاج، أفضل موسيقى تصويرية، وأفضل فيلم دولي (ناطق بلغة أجنبية). وبالنظر إلى النسخة التي قدمها إدوار بيرغر، فقد صنفها النقاد كأفضل فيلم ألماني في تاريخ الأوسكار، ورابع عمل ألماني يفوز بجائزة أفضل فيلم دولي في مهرجان الأوسكار بعد فيلم "حياة الآخرين"، و"لا مكان في أفريقيا"، و"الطبل الصفيح". هذا الفوز المبهر بذلك العدد من جوائز الأوسكار أمر لم يسبقه إليه أي فيلم ألماني آخر. كما أن دخوله السباق بتسعة ترشيحات هي مسألة لم يحققها، في السابق، أي فيلم ألماني أيضاً. علاوة على ذلك، حقق الفيلم رقماً قياسياً، قبيل حفل تسليم جوائز الأوسكار، بحصوله على سبع جوائز في حفل الأكاديمية البريطانية للأفلام، المعروفة اختصارًا باسم جوائز بافتا (BAFTA-Awards) ؛ وكان من بينها جائزة "أفضل فيلم".
بدأ عرض الفيلم لأول مرة، على منصة نتفليكس الشهيرة في خريف 2022، وشارك في بطولته مجموعة كبيرة من الممثلين، أبرزهم دانيال برول، الذي جسد شخصية ماتياس إرزبرغر، وفيليكس كاميرر في دور بول مور، شاركهما ألبرشت شوخ في دور ستانيسلاوس، إضافة إلى نخبة كبيرة من النجوم. يعد الفيلم بمثابة أول نسخة سينمائية ناطقة باللغة الألمانية للرواية الأصلية التي صدرت منذ قرن من الآن، والتي باعت ما يصل إلى 40 مليون نسخة منذ صدورها في عام 1929، وهي تحكي قصة الجندي الألماني بول بومر ورفاقه في المدرسة الثانوية الذين يُجندون، فيضطروا للتكيف مع أهوال حرب الخنادق، إذ يروي الفيلم معاناة الجندي الألماني بول بومر (فيليكس كاميرر) البالغ من العمر 17 عامًا، الذي يصطحب المتلقي مباشرة إلى الخنادق الموحلة في فرنسا، حيث وصل هو وأصدقاؤه إلى ساحة المعركة في عام 1917- بعد ثلاث سنوات من الصراع. هناك، يتجرع الفتيان، الذين تحولوا من طُلاب مدارس إلى جنود، مرارة الحياة اليومية على الجبهة في الخنادق الموحلة، حيث رائحة الموت تزكم الأنوف.
جرى معالجة الرواية سينمائياً للمرة الأولى على شاشة هوليوود في عام 1930، في فيلم من إخراج لويس مايلستون وفاز بجائزتي أوسكار، وما يزال يظهر على قوائم أفضل أفلام هوليوود حتى الآن. وكما صدرت منه أيضاً نسخة ملونة في عام 1979، بطولة إرنست بورجنين وريتشارد توماس، حيث كرست المزيد من الاهتمام لأجل الأصالة البصرية للعمل. لكن إدوارد بيرغر التقط في فيلمه منظورًا ساعده في القبض على الروح الشيطانية للحروب، وهو الغرض الرئيس للرواية الأصلية، ما جعل فيلمه يتفوق على النسختين التي سبقت فيلمه. لقد ساهم تأثير الحربين العالميتين الوحشيتين اللتين شهدتهما ألمانيا على الوعي الألماني الجماعي إلى منح بيرغر أفضلية في تعامله مع نسخة الفيلم الجديدة، التي استعرضت على مدى ساعتين ونصف الساعة كواليس الحرب بكافة جوانبها، من خلال تقرير عسكري واقعي أعده المترجم الأسترالي "آرثر وين" عن الحرب، والذي ختمه بعبارة "الجبهة الغربية هادئة؛ لأن كل من فيها موتى".. ربما كانت هذه العبارة مصدر إلهام لـ"بيرغر" الذي دار حول هذا المعنى العميق وجسده بصرياً بصورة نافذة للمتلقي.. لقد نجح "بيرغر" في تكييف فيلمه مع الواقع الحالي في ظل التطورات الجيوسياسية الأخيرة في أوروبا، وأجواء الحرب الروسية في أوكرانيا - وهي أكبر نزاع مسلح في القارة منذ ما يقرب من ثمانية عقود - حيث جاءت الفكرة الرئيسة التي تبناها فريق العمل ترتكز على أن "الجميع خاسرون في نفق الحروب". لقد كانت تجربة إعادة بعث عالم ممزق بفعل العنف على الشاشات ما هو إلا محاولة للتذكير بدروس الماضي.
تمتع الفيلم بالقدرة على طرح معادل بصري فائق الدقة لساحة الحرب، حيث استغرق فريق الإنتاج قرابة شهرين في إعداد تصميم المجموعة الخارجية الهائلة لساحة المعركة التي تدور أغلب أحداث الفيلم عليها، فقد عمل مدير الإنتاج، كريستيان جولدبيك، وبيرغر لأسابيع قبل الإنتاج للتخطيط لإعادة إنشاء وتصميم الجبهة الغربية، بشكل ملحمي، حيث بدا موقع التصوير أشبه بصور ممزقة، أُعيد ترتيب قصاصاتها زمنياً، لضبط تخطيط الخنادق وخلق التباعد الصحيح في ساحة المعركة. وقبل بدء التصوير، ذهب طاقم التمثيل إلى معسكر تدريبي لمعرفة كيفية تصوير مجند من الحرب العالمية الأولى بشكل مقنع وسلس، وبالطريقة التي تجعلهم قادرين على استخدام الأسلحة كما لو كانت جزءًا من أجسادهم. كما أنشأ فريق الإنتاج نظامًا متشابكًا من الخنادق يمتد لمسافة 250 مترًا طوليًا - أو ما يزيد قليلاً عن 800 قدم - يؤطر ساحة المعركة. كان يجب أن يكون كل خندق عريضًا بما يكفي لاستيعاب مئات الإضافات التي تدور حولها المعركة، إلى جانب استيعاب مساحات هجوم الدبابات.
لم يكن فيلم All Quiet on the Western Front مجرد فيلم قاتم في محتواه، لكنه متسق أيضاً من حيث المؤثرات البصرية، التي جرى تكييفها بالقدر الذي يتواكب مع روح العمل، لنجد الإضاءة غارقة في اللون البنفسجي والرمادي الداكن، وكأنها "زُرقة الموت" التي تسود ساحة المعركة، يتخللها الضوء الأصفر الباهت في بعض اللقطات، وهو نذير مروّع لما سيأتي، إذ تظل جثث الموتى عالقة طيلة الوقت في خلفية المعركة في سكون مقبض وكأنهم فرائس نالت منها حيوانات برية وتركت بقاياهم في العراء.. أي هدوء هذا الذي تحدث عنه الفيلم! إنه الصمت المطبق الذي يتركه الموت وراءه، إذ يُمعِن العمل في تفكيك مَعالم الدّمار الذي تتسبب فيه الحروب، والأرواح التي يجري التضحية بها.
لقد فاق الفيلم في إثارته للقلق والخوف أي فيلم رعب آخر جرى إنتاجه في عام 2022، حيث استعرض كيف تقود القوة الرعناء الحروب البشرية إلى الهلاك بشكل هيستيري؟ وكيف يصبح كل جندي يقاتل في المعركة مجرد رقم وسط العديد من الضحايا مجهولي الهوية؟ يتعامل الفيلم أيضاً مع الشعور بالوحدة والعزلة التي يعانيها الجنود عندما يدركون حقيقة كونهم عالقين في مصير مجهول. فالحرب هي "الجحيم" الذي صنعناه بأيدينا، لا أكثر، حيث يستعرض الفيلم نظرة هؤلاء الفتية إلى الحياة التي تتغير عقب تجربتهم القتالية في الخطوط الأمامية، حيث تُوأدُ داخلهم البراءة وروح الشباب والقدرة على عيش حياة طبيعية، فلا أحد "يفوز" بأي شيء في النهاية.
هذا المنظور القاسي والواقعي الذي قدمه "بيرغر" يعكس كيف يتم التضحية بالشباب مثل البيادق في لعبة جحيمية ليست من صنعهم. وهذه هي المأساة. فإذا ما كان كل شيء "هادئ" بالفعل على جبهة القتال، فهذا لا يعني انتصاراً، فعنوان الرواية والفيلم "استنكاري" في الأساس، حيث ندرك وسط كواليس الأحداث ما هو الثمن المدفوع مقابل هذا الهدوء؟ إنه الموت الذي يخبرنا الكثير عن ضراوة الحروب وعدم جدواها. ولكن بما أن التاريخ لا يزال مُقدرًا له أن يعيد نفسه، فهل يمكننا الحصول على تذكيرات كافية؟ إذ ينتهي الفيلم بلقطة واسعة وعاصفة للأشجار المكتظة بالأشلاء والجبال الصامتة في استياء، والشاهدة على ما يقترفه البشر من عنف غير مبرر في كنف طقس خريفي شاحب ينذر بشتاء قارس يفيض بغبار الموت؛ إذ تشهد عناصر الطبيعة على البيئة الموحشة التي خلفتها الحروب بيد البشرية، فلم يعد يبقى في النهاية سوى "الخراب"... وهو الدرس القاسي الذي يستحيل التخلص منه مهما مضت الأيام والسنوات، الأمر الذي جعل فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة" بمثابة الحصان الأسود في سباق الأوسكار لهذا العام.