الخطاب التلفزيوني والقوة الناعمة للدول!

د. مريم وحيد


تهتم دول العالم اهتماماً كبيراً بالقوة الناعمة كأحد الركائز الأساسية لقوة الدولة. وقد دشن عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة للتعبير عن قدرة الدول على جذب وإقناع الدول الأخرى بأهداف سياستها الخارجية. لطالما اعتمدت الدول بالأساس على مفهوم آخر للقوة، يرتكز على القوة الصلدة التي تُظهِر القوة الاقتصادية والعسكرية للدول. بينما تظهر القوة الناعمة من خلال مدى جاذبية الثقافة والقيم السياسية والسياسات. آثر ناي أن يتم الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلدة، فذلك من شأنه أن يعضد قوة الدولة. فمن المُهم للدول أن تهتم بالقوة الصلدة أيضاً من أجل الحفاظ على استقلالية الدولة. يذكر جوزيف ناي أن الدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والمعلومات الصادقة هي في غاية الأهمية للحفاظ على المصالح القومية للدول، وفي ذات الوقت أكد ناي على ضرورة أن تسعى الدول لتعزيز قوتها الناعمة1.


صك جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة في نهاية الثمانينيات، وكان يتناول العديد من العناصر التي تؤثر على القوة الناعمة للدول من فن كالأدب والسينما والدراما التلفزيونية والرياضة والدين كأركان للقوة الناعمة للدول تعتمد على الجاذبية والإقناع بدلاً من الإكراه والإجبار. في عام 1991 أصدر جوزيف ناي كتابه المعنون "حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية"، تناول فيه السبل التي من خلالها يمكن أن تستعيد الولايات المتحدة الأمريكية قوتها لتستمر في القيادة2. وقد طوَر جوزيف ناي من نظريته في كتاباته عن القوة الذكية، وهي التي تتمثل في الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلدة3. استعرض ناي مقومات كثيرة للقوة الناعمة منها قوة السينما والتلفزيون والقيم السياسية ودور الدين أيضاً.

ويمكن تعريف القوة الناعمة بأنها: قدرة الدولة على التأثير على الدول الأخرى من أجل تحقيق مصالحها، من خلال ثقافتها وقيمها السياسية لا من خلال القوة الاقتصادية والعسكرية. فتعتمد على الإقناع لا الإجبار.

وقد قدّم راي كلاين معادلته الشهيرة لقياس قوة الدولة.

ولقياس القوة الشاملة للدولة، يمكن استخدام معادلة راي كلاين التي تجمع بين العناصر الملموسة وغير الملموسة للقوة أو القوة الناعمة والصلدة، باستخدام مصطلحات جوزيف ناي.

 المعادلة هي كالآتي: PP=(C+E+M)×(S+W)

إن القوة الشاملة تشمل الأرض والخصائص النوعية للسكان والكتلة الحيوية، والقدرة الاقتصادية، والقدرة العسكرية، والهدف الاستراتيجي، والإرادة الوطنية4. وقد اهتم في كتابه بمفهوم الصورة القومية للدولة في الخارج، وهذه الصورة بلا شكل يؤثر فيها كثيراً الخطاب التلفزيوني.

أيضاً من المفكرين الذين اهتموا كثيراً بتأثير التلفزيون إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام"، من خلال انتقاده لتصوير الإعلام الغربي للإسلام، وهو ما أثر بشكل سلبي على إدراك الغرب للعالم العربي الإسلامي5.

وبالحديث عن الدراما التلفزيونية فهي بلا شك من أبرز العناصر التي تشكل قوة ناعمة للدولة. وتعتمد الدول في العالم حالياً بشكل كبير على الدبلوماسية الثقافية في تعزيز دورها في العالم. فتعد الدبلوماسية الثقافية أحد ركائز السياسة الخارجية وقد اهتمت فرنسا كثيراً بالدبلوماسية الثقافية، وخاصة في الدول الفرانكفونية لتعزيز دورها في الدول التي تتحدث الفرنسية. يتجاوز مصطلح الدبلوماسية الثقافية المصطلح التقليدي للدبلوماسية، ليشمل أبعاداً خارج النطاق التقليدي، مثل التأثير على الرأى العام الخارجي، وتحقيق الأهداف القومية بالاعتماد على أدوات القوة الناعمة والتفاعل والحوار الثقافى كبديل عن القوة الصلبة من خلال "تبادل الأفكار والمعلومات والفن واللغة وغيرها من جوانب الثقافة"، بين الدول وشعوبها من أجل تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل6. ويمكن للدراما التلفزيونية أن تكون محوراً أساسياً في إطار الدبلوماسية الثقافية.

وتسعى الدول في العالم للاهتمام بالتراث المادي وغير المادي على حدٍ سواء. فالاهتمام بالذوق العام ضرورة في العمارة والفن التشكيلي والسينما والتلفزيون والموسيقى. فيمكن أن تكون المسلسلات التلفزيونية نموذجاً للاهتمام بالتراث غير المادي من قيم ومعتقدات وعادات وتقاليد خوفاً ألا يتم تنشئة الأجيال الجديدة عليها. أيضاً فإن الاهتمام بالتراث المادي من معمار شاهد على تاريخ الشعوب في غاية الأهمية، وهو ما سعى الفنانون الكبار لإبرازه من خلال أعمال فنية متميزة.

يُذكر أن عدداً كبيراً من الدول تهتم بإنتاج المسلسلات التلفزيونية للتعبير عن ثقافتها ومعتقداتها وسرعان ما أضحت هذه المسلسلات التلفزيونية مصدراً لقوتها الناعمة، وقد كان ذلك بارزاً بشكل كبير في مصر منذ عام 1962 مع إنتاج أول مسلسل تلفزيوني، وهو مسلسل "هارب من الأيام" والذي بدأ بثه في23 يوليو عام 1962، وكان من تأليف فيصل ندا مأخوذاً من قصة الأديب ثروت أباظة. كثير من العرب يعرفون اللهجة المصرية بالأساس من المسلسلات التلفزيونية. فالدراما المصرية تزخر بالعديد من المسلسلات التي أثرت في وجدان الشعب المصري والشعوب العربية جمعاء.

ولا شك أن التلفزيون يؤثر على وعي الجماهير بصورة كبيرة. ويقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"7: إن التلفزيون شديد التأثير على الجماهير، ويمكن أن يتم استخدام البرامج والدراما التلفزيونية في تزييف وعيها. فيقوم التلفزيون بتأطير جانب معين من الواقع، وقد ينقل واقعاً غير حقيقي، من هنا عندما تتم مشاهدة المسلسلات، لا بد من إدراك أنه رغم أنها مجرد أداة للترفيه، لكنها تؤثر على الوعي والمعرفة بالتاريخ والحضارة. وإذا كان أدورنو وهوركهايمر قد تطرقا إلى التأثير الكبير للتلفزيون على الجماهير8، والقدرة القليلة للفرد للتحرر من المعروض أمامه على الشاشة؛ فإن المشاهد يظل على قدر كبير من الوعي والإدراك للأفلام والمسلسلات المصنوعة بدقة.

وقد انتشر في الآونة الأخيرة عدد كبير من المسلسلات التركية التي لاقت الكثير من الإعجاب من الجماهير العربية، مثل مسلسل "العشق الممنوع"، و"حريم السلطان"، و"زهور الدم". فمما لا شك فيه أن تأثير هذه المسلسلات التركية بات كبيراً. وقد اعتمدت تركيا على الثقافة والإعلام كأحد أبرز أدواتها في السياسة الخارجية، خاصة في الألفية الجديدة مع زيادة الإنتاج التفزيوني التركي والاهتمام بتسويق المسلسلات التركية عالمياً. فكان هناك اهتمام بتصوير الحياة اليومية في المجتمع التركي والقيم التركية9، كما اعتنوا بالجماليات في هذه المسلسلات، وذلك من خلال تصوير مشاهد خلابة في إسطنبول وذلك من أجل جذب السياحة أيضاً.

في نفس الوقت يستمر إنتاج المسلسلات اللبنانية والتركية والتي أيضاً لها نسبة مشاهدة عالية في الكثير من الدول العربية. ومن هذه المسلسلات التي كان لها نسبة مشاهدة عالية مسلسل "باب الحارة".

لذا؛ من المهم لما للدراما من تأثير كبير على الجماهير أن تهتم الدول بالإنتاج التلفزيوني الدرامي. تعتمد القوة الناعمة في الإعلام على جاذبية وتأثير البرامج التلفزيونية. فمن خلال الأخبار والإعلانات والأعمال الفنية الدرامية يؤثر التلفزيون في كيف يُدرك الأفراد العالم من حولهم، وعلاقات الدول بعضها ببعض، كما يتم بث رسائل أيديولوجية من خلال التلفزيون ينبغي فك شفرتها.

 


الهوامش:
1. Joseph Nye (2004), Soft Power : The Means of Success in World Politics, New York : Public Affairs.
2. Joseph Nye (1991 ), Bound to Lead : The Changing Nature of American Power, ( New York : Basic Books.
3. Joseph Nye ( 2009), Get Smart : Combining Hard and Soft Power, Foreign Affairs, Vol. 88, No. 4 (July/August 2009), pp. 160-163.
4. Ray S. Cline ( 1977), World Power Assessment : a calculus of strategic drift, Boulder, Colorado : Westview Press , Available at : https://archive.org/details/worldpowerassess00clin
5. Edward Said (1997) , Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How We See the Rest of the World, New York : Vintage.
6. للمزيد حول السياسات الثقافية، أنظر:
جيهان زكي (2023)، الدبلوماسية الثقافية بين الأصل والصورة، (القاهرة: دار المعارف).
نادية بدر الدين أبو غازي، السياسات الثقافية في مصر في العقد الأول من الألفية الثالثة: دراسة تقويمية في ضوء المعايير الدولية للتنمية الثقافية، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، کلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
عماد أبو غازي، السياسات الثقافية في زمن التحولات، في: الثقافة أثناء الفترات الانتقالية مصر بعد ثورة 25 يناير، القاهرة: مرکز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والمؤسسة الثقافية السويسرية، 2014م، ص: 110- 112.
محمود أحمد عبد الله، السياسة الثقافية في مصر: المؤسسات والأهداف والمجالات الأساسية، القاهرة: مجلة أحوال مصرية، العدد 65، 2017.
7. Pierre Bourdieu (Author) (1999),On Television, Priscilla Parkhurst Ferguson ( Trans.), ( New York : New Press.
8. Max Horkheimer and Theodor W. Adorno (2012), The Culture Industry :Enlightenment as Mass Deception, ( New York : Routledge ), pp.92 -100.
9. Janna Jabbour, Turkish Soap Operas: Soft Power at the Service of a Rising Power’s Political Ambitions, IEMED, Available at : https://www.iemed.org/wp-content/uploads/2023/10/Turkish-Soap-Operas-Soft-Power-Political-Jabbour-IEMedYearbook2023.pdf, 30-7-2025.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها