الإسطرلاب المسطح.. من أعظم النظريات عند المسلمين

أميرة الشناوي كيوان


التعريف بالإسطرلاب المسطح: الإسطرلاب (Astrolabe) كلمة معربة عن اليونانية (Astrolabon)، وإحدى ترجماتها تعني مقياس النجوم، فأصل التسمية ليس عربياً، إلا أنها أطلقت على آلات فلكية بشكل عام، وحتى هذا اليوم مثل جهاز (الإسطرلاب الموشوري) الذي يمكن بواسطته تحديد زاوية عرض نقطة الرصد وتحديد الزمن.
 

يمكن تعريف الإسطرلاب المسطح، بأنه آلة فلكية معظم نماذجها صغيرة الحجم وسهلة الحمل، بقدر حوالي (20سم) استخدمت كآلة رصد، يمكن بواسطتها تحديد الانحرافات الشاقولية والأفقية، وكآلة حساب يمكنها حل المئات من المسائل الفلكية والحسابية المرتبطة بالرصد. فهي تقيس الارتفاعات والمسافات، والأعماق وزوايا ارتفاع النجوم والكواكب، وتقيس الزمن، وتحدد أوقات الصلاة، وتحسب النسب المثلثية، ومطالع البروج.

وقد وصف أبو الريحان البيروني الإسطرلاب المسطح بقوله: الإسطرلاب1 آلة مسطحة يتحرك بعضها ويثبت الكل، فيحكي أشكاله أشكال الفلك بالحقيقة، ويوافق ما يؤدي إليه ما يوجد في بسيط كرة لا يغادر منها شيئاً.

وفي كتاب العمل بالإسطرلاب للصوفي المتوفي سنة 376ه – 386 باباً لحل المسائل المختلفة، كما أفرد قسماً خاصاً في اختبار صحة هذه الآلة، وهذا ما يعرف اليوم باختبار الأجهزة المساحية، لذلك يعتبر الإسطرلاب المسطح من أعظم إنجازات العلماء المسلمين، وقد نُعت بالآلة الشريفة.

استخدامات الإسطرلاب المسطح

استخدم الإسطرلاب في الملاحة إبان الحضارة الإسلامية، ثم استخدم فيما بعد في رحلات المكتشفين، بعد أن تسرب علم الإسطرلاب وكيفية صناعته من الأندلس إلى أوروبا.

ومما تجب الإشارة إليه، برغم أن أصل تسمية الإسطرلاب جاء من اليونانية؛ فإن الإسطرلاب اليوناني كان كآلة بسيطة بدائية، يقاس بها ارتفاع النجوم فحسب، أو هو عبارة عن نموذج لكرة الفلك، مزود ببعض الحلق التي تمثل بعض المدارات، وهو بذلك عبارة عن محاكاة لشكل كرة الفلك.

أما الإسطرلاب الإسلامي موضوع بحثنا فيسمى بالإسطرلاب المسطح، الذي يعتمد على نظرية تسطيح الكرة، وفي ذلك عمل إبداعي وإنجاز عظيم تجلى في تسهيل حل المسائل الفلكية المعقدة، حيث تم نقل الحسابات الفراغية إلى حسابات مستوية.

لمحة تاريخية1

استعمل المسلمون العديد من الآلات الفلكية، منها المزولة، والإسطرلاب التام، والمسطح والهلالي، والزورقي، والمبطح، وأشهرها هو الإسطرلاب المسطح، ويمكننا القول بأن الإسطرلاب المسطح، يختلف تماماً عن الإسطرلاب اليوناني، وليس هناك أي سمة مشتركة بينهما سوى التسمية.

أما أن ينسب الإسطرلاب المسطح لبطليموس فهذا غير منطقي، خاصة وأن أول نسخة منه ظهرت بعد بطليموس بحوالي (600 سنة)، وقد أجمع مؤرخو العلم عند العرب أن أول من صنع الإسطرلاب، وسطح الكرة من المسلمين هو إبراهيم بن حبيب الفزاري المتوفي سنة 180ه، في زمن المنصور الخليفة العباسي، وقد وضع كتباً حول الإسطرلاب، أما أقدم إسطرلاب موجود بين أيدينا فهو إسطرلاب خفيف قبل (300ه)، وإسطرلاب أحمد بن خلف (230ه).

وقد تم إحصاء عدد الإسطرلابات الموجودة، فقدر بنحو 170 مبعثرة في عدة أماكن، وخاصة في جامعات ومتاحف ومراصد إنجلترا، فمثلاً في مرصد (كرنج ) 42 إسطرلاباً، منها عربية وإسلامية، والباقيات من الإنتاج الأوروبي، وأقدم هذه الإسطرلابات هو للسراج المؤذن بدمشق (628ه)، وفي متحف حلب هناك نموذج يعود تاريخه إلى القرنين 12-13م.
 

أجزاء الإسطرلاب المسطح

1. جسم الإسطرلاب: يتألف من قرص مغور بشكل دائري، بعمق عدة مليمترات تبعاً لاستيعابه عدداً من الصفائح التي تطبق فوق بعضها بعضاً في هذه الحفرة، والتي تدعى الحجرة أو الأم، أو أم الصفائح أما عدد الصفائح فيتبع عدد العروض الجغرافية للبلدان المراد استخدام الإسطرلاب فيها، ويقسم الطوق المحيط بالحفرة إلى (360 درجة)، وهناك نتوء أو (حفرة صغيرة) في الحجرة لمنع الصفائح من الدوران أثناء دوران الشبكة، وهناك زيادة مثلثية الشكل في أعلى جسم الإسطرلاب بحلقة تسمى العروة، تليها حلقة أخرى تسمى العلاقة.
2. الصفائح: عبارة عن أقراص رسمت عليها منحنيات تسمى السموت والمقنطرات، أكبر مقنطرة منها تمثل أفق العرض الجغرافي للبلد المراد استخدام الإسطرلاب فيه، وفي الصفيحة أيضاً ثلاث دوائر متمركزة في مركز الصفيحة، وهي تمثل مدارات السرطان، والجدي، والحمل (الاستواء)، وتعتبر الصفيحة أهم جزء من الإسطرلاب، حيث تمثل مسقط الفلك في المستوى، وهناك أيضاً منحنيات أخرى في الصفيحة تمثل الساعات الزمنية.
3. الشبكة (العنكبوت): شبكة قابلة للدوران حول محور الإسطرلاب، تحوي نتوءات تمثل مواقع كواكب ونجوم معروفة، كما تحوي دائرة البروج التي تبقي بحالة تماس مع كل من مداري السرطان والجدي أثناء الدوران.
4. ظهر الإسطرلاب: يقسم إلى أربعة أرباع تحوي منحنيات تساعد في إيجاد النسب المثلثية، وبعض المنحنيات الأخرى لحساب ارتفاع الشمس والساعات.
5. العضادة: مستطيل ضيق بطول يساوي قطر الإسطرلاب، وتدور حول محوره، ولها نهايتان مدببتان تؤمنان دقة قراءة الزاوية، وأيضاً لها هدفتان مثقوبتان تؤمنان تسديداً دقيقاً عند رصد الكواكب والنجوم.
6. المحور والفرس: يستخدمان لجمع الصفائح والعضادة إلى جسم الإسطرلاب3.

نظرية الإسطرلاب المسطح

إن معظم مسائل علم الفلك الكروي تؤول إلى تحديد المواقع أو الأزمنة، فالزمن والموقع مفهومان مرتبطان ببعضهما، يمكن تحديدهما بالقياس والحساب، وكثيراً ما تتطلب مسائل الفلك، الانتقال من نظام إحداثي معين إلى آخر، وهذا ما يحصل مثلاً عند إجراء الرصد والقياس في النظام الأفقي الممثل لقبة الفلك المرئية، ومن ثم يتم حساب الإحداثيات في النظام الاستوائي الأول أو الثاني، وطبعاً هذا الحساب يتطلب استخدام قوانين المثلثات الكروية.

ولكن، وباعتبار عصر ما قبل ظهور الحاسبات الإلكترونية؛ فإن استخدام قوانين المثلثات الكروية يحتاج إلى جهد ووقت كبيرين نسبياً للحصول على الإحداثيات المطلوبة، وتظهر صعوبة الأمر إذا اعتبرنا عصر الحضارة الإسلامية وما قبلها، فماذا قدم العلماء المسلمون حيال هذه المشكلة؟

إنهم قدموا حلاً رائعاً بقي مستخدماً حتى هذا العصر، فقد حولوا الفلك الكروي (الفراغي) إلى فلك مستوٍ، وذلك اعتماداً على طريقة تستطيح الكرة، التي برع فيها العلماء المسلمون، وهو ما يسمى اليوم في علم (الجيوديزيا بالإرتسام) (projection)، يتلخص هذا الحل فيما يلي:
1. إسقاط نظام الإحداثيات الاستوائي على مستوى بطريقة التسطيح الستيريوغرافي4.
2. إسقاط النقاط التي تمثل النجوم والكواكب المعروفة على نفس المستوى.
3. يصنع من هذا المستوى صفيحة دائرية معدنية مفرغة تسمى الشبكة أو العنكبوت، بحيث تحوي نهايات مدببة تدل على تلك النجوم وموقعها، ومن ثم أصبحت هذه الصفيحة تمثل مسقط كرة الفلك على مستوى، بإعطائه حرية الدوران لهذه الصفيحة حول محورها، ويكون قد تحقق مسقط الدوران الظاهري لكرة الفلك الناجم عن دوران الأرض.

ومن المعروف أنه تشرق نجوم وكواكب، وتغيب أخرى بالدوران الظاهري لكرة الفلك، وشكل هذه اللوحة المتحركة في قبة السماء يختلف تبعاً لنقطة الرصيد، وبالتحديد تبعاً للعرض الجغرافي، وباعتبار أنه أصبح من الممكن تمثيل هذه الحركة الظاهرية للفلك في المستوى بواسطة دوران الصفيحة المذكورة أعلاه (العنكبوت)، يبقي إيجاد مسقط قبة الفلك المرئي من نقطة الرصد لتتحقق النسبية في الحركة؛ أي أنه يجب إسقاط نظام الإحداثيات الأفقي لذلك.
4. تم إسقاط دائرة الأفق والدوائر الموازية لها (المقنطرات)، ودوائر الإرتفاع (المعامدات) من نفسها نقطة التسطيح السابقة، ولكن على مستوى آخر، عبارة عن صفيحة معدنية دائرية، ينطبق محورها مع محور الشبكة، إلا أنها ثابتة لا تدور معها، توضع هذه الصفيحة تحت الشبكة بحيث تظهر منحنياتها من خلال الفراغات في الشبكة.

الآن بدوران الشبكة (العنكبوت) تتحرك النهايات المدببة التي تمثل نجوماً معروفة بالنسبة لمسقط قبة الفلك المرئية، فتتمثل لدينا صورة الفلك الدائر، حيث تجتاز بعض النجوم مسقط خط الأفق، من نقاط تمثل مساقط نقاط شروق النجوم من الأفق المرئي، ومن ثم تجتاز بعض المقنطرات، ثم تعود لتجتاز مسقط خط الأفق مرة أخرى، من نقاط هي مساقط نقاط غروب النجوم، وطبعاً هناك نجوم لا تغيب أبداً، وهذا يتوقف على موقع الراصد.

هذه النجوم تتحدد فلكياً بأنها زاوية الانحراف التي تحقق الشرط حيث عرض موقع الرصد، وسترسم دوائر أنصاف أقطارها في المسقط أصغر من المسافة (s)، أما في قبة الفلك فترسم هذه النجوم دوائر كاملة حول نجم القطب أي لا تتقاطع مع الأفق.

إذاً؛ بأي وضعية كانت الصفيحة العلوية (العنكبوت) فكل نجم يعرف بمجموعتي إحداثيات، الأولى منسوبة للنظام الاستوائي، والثانية منسوبة للنظام الأفقي، وتسمى جملة الإحداثيات المائلة.

وبعد رصد النجم وقياس ارتفاعه في النظام الأفقي، يمكن إيجاد إحداثياته في النظام الاستوائي؛ بمعني أنه تم حل قوانين المثلثات الكروية، وتكون المسالة قد حلت بيانياً بسرعة وسهولة، ونذكر أيضاً أن بعض المسائل الفلكية يمكن حلها بالإسطرلاب بسرعة تفوق سرعة الحاسبات المبرمجة. ولكن بالطبع الدقة تبقي في حدود معينة، وهناك العديد من الطرق الأخرى لحل المسائل الفلكية تضمنتها مؤلفات القرن العشرين، يعتمد مبدؤها على فكرة هذا الحل.

استنتاجات

لن نغوص في تفاصيل الإسطرلاب المسطح5 فتلك مسألة تهم المختصين، ولكن نقف على بعض الاستنتاجات التي توصلت إليها من خلال البحث يمكن إيجازها فيما يلي:
1. الإسطرلاب المسطح من إنتاج الحضارة الإسلامية، ولا يمكن أن ينسب للحضارة اليونانية، بدليل أن أول نسخة منه ظهرت بعد الحضارة اليونانية بحوالي (600 عام).
2. مع ظهور الإسطرلاب المسطح، ظهرت بالطبع تسميات أجزائه، وهي تسميات جاءت مطابقة لمدلولها، مثل المقنطرات والنظير، وهنا يمكن الرد على من يقول بأن أصل الإسطرلاب المسطح هو يوناني كما يلي:
أولاً: إن قيل بأن هذه التسميات جاءت كترجمة للعربية من بين ما ترجم عن (بطليموس) وغيره، فنقول: لماذا ما تزال تستخدم هذه التسميات في لغات أخرى بلفظها العربي حتى اليوم.
ثانياً: من غير المعقول أن يكون (بطليموس) قد تأمل مسقط الدوائر في المستوى، ورأى أنها مقنطرة الشكل فسماها (المقنطرات)، أو أنه سمى النقطة المناظرة لسمت الرأس (نظير).
وإذا كان (تلينوا)6 يرى أن البروج الاثني عشر كانت مجهولة عند العرب، ويستشهد على ذلك بأن أسماء كل البروج ما عدا الجوزاء هي مترجمة عن أسمائها اليونانية، أو السريانية، فيمكن القول بأن الإسطرلاب كان مجهولاً عند اليونانيين، ويمكن الاستشهاد على ذلك من تسميات العضادة Alidade، والمقنطرات Almukantarat، ونقطة النظير Nadir التي ما زالت مستخدمة في علم الفلك والجيوديزيا بلفظها العربي حتى اليوم.
3. من خلال عبارات المسلمين، يتبين أن حديثهم عن الإسطرلاب المسطح هو حديث مصمم ومبتكر لا حديث ناقل، فقد وقفوا على دقائق الأمور عند تصورهم لحالات خاصة نادرة أو لحالات لم تصنع من أجلها صفائح الإسطرلاب، وذلك عندما تكون نقطة الرصد واقعة على الاستواء تماماً، أو في القطب تماماً.
4. بالنسبة لرسم دوائر السموت، فقد استند العلماء المسلمون إلى مفهوم الارتسامات المطابقة7 التي لم تستخدم، أو توضح بعدهم إلا في القرن السادس عشر، عندما أوجد (مير كانور) ارتسامه الشهير.

الخاتمة

من خلال هذا البحث المتواضع يتبين لنا أن العلماء المسلمين قدموا الكثير إلى علم الفلك على مدى قرون عديدة، وما زال حضورهم العلمي موجوداً في كل مجال حتى أيامنا هذه، وقوة حضورهم في حدود اطلاعنا على مآثرهم، أما حضورهم الحقيقي فهو في الحقائق المغفلة، فهناك الكثير من المخطوطات الغنية بالتراث نجهلها نحن ويعلمها غيرنا، فهل يعترف غيرنا بقوة الحضارة الإسلامية؟ الإجابة عن هذا التساؤل يقدمها لنا على سبيل المثال، عالم من أشهر علماء الجيوديزيا والفلك في الاتحاد السوفيتي السابق واسمه (كافر ايسكي).
ففي أحد مؤلفاته الذي يعتمد بكامله على فكرة الإسطرلاب المسطح نفسها، وفي أحد الفصول عن الإسطرلاب المسطح نفسه، يشير وبسطرين فقط إلى دور العلماء المسلمين في نشوء وتطور الإسطرلاب المسطح، فيقول8: قديماً بعد بطليموس وخاصة في القرون الوسطى، كانت الإسطرلابات أداة لحل مشاكل كثيرة.|

إذاً؛ لم يضف جديداً يذكر، وحتى إنه لم يذكر حضارة كاملة دامت قروناً، بل اكتفى بالقول (القرون الوسطى).

نعتقد أن هذه الإجابة ومثلها كثير كافية وحافزة لنا لمزيد من البحث؛ كي نتمكن من إنصاف من قدم لنا علمه بلغتنا العربية، وآمل أن أكون قد وفقت في هذا البحث في إظهار دور العلماء المسلمين في ابتكار وتطوير الإسطرلاب المسطح، وذلك بهدف إبراز إسهامات المسلمين في علم الفلك بشكل خاص، وفي الحضارة الإنسانية بشكل عام.


الهوامش: 1. استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، مخطوطة إيران مجلس شواري ملي 150 معهد التراث العلمي العربي ميكروفيلم رقم 711- 125 ورقة. | 2. الإسطرلاب طرق وأساليب رسمه وصنعته 1970، مجلة المجمع العلمي العراقي، ص: 19 – 94. | 3. الإسطرلاب في التراث العلمي، بلال لؤي، رسالة ماجستير، 1994 معهد التراث العلمي العربي، حلب، ص: 190. | 4. الجيوديزيا (الإرتسامات) بيلاني حسن، منشورات جامعة حلب، ص: 259. |  5. بيلاني حسن المؤتمر الفلكي الثاني، عمان الأردن. |  6. تلينو كرلو، علم الفلك تاريخه عند العرب في القرون الوسطي 1991 روما، ص: 370. |  7. البيروني أبو الريحان أحمد بن محمد، تسطيح الصور وتبطيح الكور، تحقيق أحمد سعيدان، مجلة دراسات، المجلد الرابع العددان 1، 2، 1977، الجامعة الأردنية عمان، ص: 8-22. |  8. كافر إيسكي، أعمال مختارة الجزء الأول 1956، إدارة الهيدروغرافيا في وزارة الدفاع موسكو، ص: 358.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها