الحاضرُ الغائب

من نَواميسِ الزّمان وتقلُّبَات الأحوال

سعاد الحمودي


ينسلُّ من بين يديّ لا أعرف كيف أعيده.. ثمين هو والقليل من يقدرُ أهميته، ورغم أنه موجود مع الجميع لا يتذكرونه إلا عندما لا يوجد بين أيديهم؛ فإنهم حينها يشعرون بفقدانه. تمنيت لو أرجعتُ منه القليل لكنه لا يرجع، يكون معي مرةً واحدة ثم يذهب وينقصُ رغماً عني، ولا أعرف كم بقي منه وما الذي سأستنفذه رغم ضياعه المستمر.
 

لا يُشترى ولا يباع، ولكننا ندفع ثمنه بعد انتهائه تماماً.. أمَا عرفتموه بعد؛ إنه الحاضر بين أيدينا الغائب عن أذهاننا في انقضائه.. نعم؛ إنه العمر. فالعمر يعمل فينا، ونحن نعمل فيه، العمر زمان نُقَضِّيه هنا، ويكون مرآة لنا هناك في الغيب، فهو حاضر معنا، وهو أيضاً ما نجنيه في مستقبلنا القريب والبعيد.

كم عشنا وكم عاش من قبلنا.. هي أعمار مديدة أوقصيرة، قد تظل في ذاكرة الأيام للبعض، وقد يُمحى عن ذاكرتها للبعض الآخر، كما ويكون هناك شيء غيبي لا نعلمه نحن هنا، يعدنا به الخالق فيما عملناه في أعمارنا الفانية المنقضية لا محالة.

والعمر أغنى ما نملك، سريع الخطى، والكلُّ يملكه، فهو ليس بحكر على أحد، وكما أنه لا يصرفه لنا أحد من بنوك الحياة، ساعته تعمل فينا فلنعمل نحن فيه إذن؛ لتظل وتبقى أعمارنا بعدنا أعمالاً خالدة تفصح عن نفسها ببريقها.

مقياسُ العمر

هل للعمر ميزان يقاس به؟ ربما سنقول نعم نحن نقيسه بالأيام والأعوام، وعدد السنين، ونستخدم في هذا ما تعلمناه من الحساب، ولكننا نرى أن وراء العمر الذي نقضيه هنا عمراً آخرَ، فعندما نرحل عن أعمارنا التي كنّا نعيشها سيبقى عمرنا الثاني يردد ذكرنا، ويبارك وجودنا وإن غبنا عنه بأجسادنا، سيبقى كأنه روح لنا ترفرف على جنبات عمرنا الجديد، وسنجد بركته فيما أودعناه فيها من آثار ستهدينا الخلود بعد مماتنا، وكما يقال الذكر للإنسان عمرٌ ثان، ولعلّنا نظن أن الفرصة لم تَحِن بعدُ، وننتظرها لبناء عمرنا الثاني المنشود، والحقيقة أن الفرص متوالية الوجود، ولكننا لا نلمحها، ولا نعرف بوجودها بسبب عدم استعدادنا لها في أيامنا الخوالي، وفراغنا الوقتي السابق، وبعد ذلك نسلي أنفسنا ونُوّاسيها بأن تلك الفرصة لم تسنح بعد لننتهزها، أو قد ننهي الموضوع برمته بأن نقنع أنفسنا بأن الفرصة الوحيدة لبناء ذلك العمر قد ضاعت منا، ولا نعترف لأننا لا ندري بأننا لم نستفد من جميع الفرص السابقة التي مرت بنا، والواقع أن الفرص تتوالى مادمنا نتنفس الصعداء، ولعلّنا نُدركها يوماً ما قبل فوات الأوان ونستفيد منها، ويبدأ العد التدريجي لميلادنا الجديد الباقي والخالد والثمين.

المال والوقت

إذا ضاعت الأوقات لن تعود ولو أنفقنا ذهب ما في الأرض، ولا تزال مع ذلك مناهل العلم ودروب التأمل الكوني، والعمل الدؤوب روافد نابضة تناديك وتشد على يديك أن انهض، وجاهد، واسع في دروب الحياة.

وبهذا الإدراك الواعي نتحلّى بروح المبادرة والعزم والحزم في الدقائق والثواني التي بين أيدينا، ونتنفسها مع نبضات قلوبنا، مادمنا بصحة وعافية، ولدينا الوقت الكافي من غير منغصات أو انشغالات توقفنا عن أهدافنا، فالعمر لا ضمان لمعرفة بقائه، فليس لدينا وثيقة تضمن لنا كم سنعيش، أو بطاقة تأمين لصحة دائمة وقوة وافرة في زماننا المحدود، بل نحن ننتهز السُّويْعات لبناء صرح الحياة المجيد والسعيد، وإن طول الأعمار ما هو إلا حجة على أصاحبها ماذا فعلوا بها؟ وتزداد الحجة إذا ما توافر لديهم نعمتي الصحة والفراغ.

ونجدُ أنّ لتعويض المال الضائع فرصاً نستطيعها، وليس لذهاب الأوقات من فرصة للتعويض إلا باستغلال الباقي فيما هو مفيد.

فالنجوم الساطعة في كبد الليالي المظلمة ما هي إلا أشعة فائقة السرعة لمواقع تلك النجوم الذاهبة في جرايانها الكوني منذ آلاف السنين، والتي قد انتهت واشتعلت وبقي بريقها اللاّمع يتلألأ ليصل إلينا شعاع نورها الأثيري في مرمى السماء، ليرسم لنا الطريق في الليالي المظلمة، وكذا يكون البشر العاملين في أوقاتهم بما ينفع الناس، والساعين للخير والعُلا، نجوماً يهتدى بها في طريق الهداية، والفكر الواعي، ويبقى بريق نورهم نِبراسَ حياة مادامت الأرض والسماء.

العمر والعلم

العلمُ نبضُ أعمارنا ونورٌ يَسري في عقولنا وقلوبنا، ويُضيء لنا دروبنا التي نَمضي بها نحو أهدافنا النبيلة، وإن بين العلم وانقضاء الأوقات والأعمار لعلاقة وطيدة، فيزدادُ حرص طالب العلم على وقته أشدّ ما يكون الحرص في كل نفس يتنفسه، فلسانه في ذكرٍ، وبصرهُ في مطالعة، وفكره في تَدبُّرٍ وتأملٍ، فهو طالب للعلم في كل أحواله، ورصيده في تحصيله هي ساعات عمره، وهي أثمن ما لديه لنيل مطلوبه والفوز بمأموله، وكلّما مرّ العمر به ازداد حرصاً عليه، فهو في سباق معه لتحصيل علمٍ ونيل فهم يتفتق فيه الذهن بأنوار المعرفة، وتحصيل العلوم، فيجد في ذلك لذة وسعادة لا يعلم بها أصحاب الملكات الخاملة والتائهة في ملهيات الحياة.

فكما قيل لنا إن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، لا ننسى المثل الذي يذكرنا بأن نطلب العلم من المهد إلى اللحد، ليبقى طلب العلم طوال أوقاتنا ودقائق أعمارنا مطلب لا ينتهي إلا بمُفارقة ذلك العمر، ونَرى بعض العامة يتعجبون من طالب العلم بعد أن مضى من عمره سنين عدداً، ويستنكرون ما يسعى لتحصيله؛ فكأنّ بينه وبين التائهين في ملهيات الحياة الزائلة حواراً لا نهاية له.

وبهذا؛ يتجلى أنّا ما بخسنا في أعمارنا التي هي مقدرة علينا قبل أن نولد، وما سلبها منا أحد وما ظُلمنا بها، فهي نفس الدقائق يملكها الجميع، ويُرفع إنسانٌ بها، ويُوضع آخر لأنه ما استغلها، فنحن من عمل فيها إما بالحزم والعزم، أو التضييع والترك، ونحن من نُلام ونظلم أنفسنا في إضاعتها في سفاسف الأمور، وترك معاليها بينما. ويظل لطلب العلم متعة لو عرفها أصحاب المال والدنيا لجاهدوا عليها العلماء بالسيوف والرماح، وليسَ لكل شخص في محاولة طلبه من متعة يشعر بها؛ وإنما هي ملكات وهبات تتفاوت بين البشر، بينما يبقى للجهل ظلمة في النفس في حين يظل طالب العلم في دهشة العلم يتمتع بما يخفيه من أسرار، ويسعد بإيجاد مفاتيح كنوزه الثمينة التي هي التساؤل، وبوجوده يلمح بصيص المعرفة بإيجاد الإجابة له.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها