إذا حضرت القصيدة غابت كل الاستعدادات

حـوار مع الناقد المصري علاء الدين رمضان

حاوره: محمود حسانين

علاء الدين رمضان، شاعر وناقد ومترجم من مواليد 1970 بمدينة طهطا بمحافظة سوهاج، عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو أمانة بعض المؤتمرات الأدبية المصرية، حاصل على الدكتوراه في "الأدب والنقد"، عمل أستاذاً مساعداً للغة العربية وآدبها، وأمينًا لمجلس الأساتذة في كلية العلوم والدراسات الإنسانية بالسليل، جامعة سلمان بن عبد العزيز "السعودية" ورئيسًا للجنة الخطة الاستراتيجية في كلية العلوم والدراسات الإنسانية بالسليل، جامعة سلمان بن عبد العزيز "السعودية"، جرفه البحث والنقد الإبداعي عن محبوبه الأول الشعر، رغم أنه قد صدر له ديوان "المتواليات" القاهرة 1993، ديوان "الخطو على مدارج المدينة القديمة" دمشق 1993، ديوان غابة الدندنة" القاهرة 1995، ديوان "التانكا" مجموعة أوجورا هياكونين إيزشو، إصدارات مجلة إبداع المصرية، القاهرة، 2007.
كما صدر له: ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث "دراسة بحثية نقدية" دمشق- ط1- 1996 / سمكة ظامئة "مسرحية" القاهرة 2003 / مقدمة في الشعر الياباني، إصدارات المجلة العربية السعودية، الرياض 2007 / بيئة الصعيد صورها وآثرها في السرد، القاهرة 2010، ديوان متاهة الظل" القاهرة 2014.
 


حاز على عدد من الجوائز في الشعر والمسرح والدراسات البحثية.. وكان لنا معه الحوار التالي عن مسيرته في التأليف:


الكتابة حلم أم أكثر، وما الذي أضافته إليك؟

◂ الكتابة عندي طموح، أبحث عن مجهول، في تجليات متعدد، وجداناً وعقلاً، شعراً ونقداً، وما بينهما.
وقد أضافت لي الكثير وما زالت تضيف؛ لأن الكتابة لا تأتي لدي إلا بعد العناية بفكرة أقرأ لها كثيراً، وربما قراءة متخصصة وموغلة في التخصص، حتى أصل إلى عين النبع فأفجره، وغصن الدوحة فأهصره لي ولمن يقرأ.

المتواليات.. الخطو عـلى مدارج المدينة القديمة، قصائد لست عاطفية تماماً، وأخيراً متاهة الظل، الشعر من حيث مواكبته لتطبيقات الحداثة وما بعدها، ما مدى التأثر فيه؟

◂ إذا وضع الشاعر قاعدة نصب عينيه تحول إلى ناظم، فلا قاعدة للشعر، وكل القواعد الشعرية والبلاغية صنعها الصوغ الكلامي أولاً، ثم فطن إليها الكتبة، لذا أنا أحترم الشاعر الحر الذي يكتب مع وضد في مسيرة واحدة، ولا أميل إلى تقدير عمل شاعر مقولب، مؤدلج ينتمي إلى تيار ويخلص له، إن بحثت وراءه ستجد فيه ضعفاً ما، إن كان شاعراً عمودياً يمكن أن يكون نظاماً لا يجيد انطلاق التفعيلة، وإن كان شاعر قصيدة نثر ستجده لا يقوى على مصارعة أمواج العروض والقافية، هذا على سبيل التمثيل وحسب، بينما تجد شاعراً آخر يكتب في كل الألوان والأنماط الفنية، فأيهم أكثر حرية؟ الحداثة هي طريقة تناولك لأفكار موضوعاتك الشعرية، وليست النمط الذي تكتب قصيدتك وفقه.

هل هناك جهد متصنع، وآخر حي، يترتب على الشاعر مزاولته، قبل وأثناء بناء القصيدة؟

◂ تصنع الشاعر مرحلة تسبق شاعريته، عليه أن يصنع الشاعر بداخله بكثرة حفظ وقراءة الأشعار وتأمل طرق صوغها وأساليب تركيبها، وهناك طور قبل القصيدة هو الاستعداد الوجداني والمعرفي لموضوع القصيدة، فإذا حضرت القصيدة غابت كل الاستعدادات، أو لنقل يجب أن يحدث هذا.

كتبت مسرحية بعنوان: سمكة ظامئة، ثم كتاب مصائب الجهيني، وهو جمع ميداني شفاهي، لشخصية من الصعيد تنافس جحا.. في بعض كتاباتك ميل إلى الاحتفاظ بثقافة الهُوية؟

◂ ميلك للاحتفاظ بثقافة الهُوية هو ميل للاحتفاظ بالوجود، فمن أنت بلا هُوية؟ كي تصل إلى الآخرين لا بد من أن تصل إلى نفسك أولاً؛ فإن لم تفهم من أنت لن تقنع الناس بوجودك، والعلم والثقافة مفتاح هذا الوجود.

من حيث اهتمامك بالفلكلور الشعبي، التراث هل يمثل الهوية في مجملها؟

◂ التراث أنواع منه الثابت ومنه المتحرك، التراث الثابت منه المقدس، ومنه المسموح بإجراء تحولات عليه ليصير ثابتاً دخلته الحركة، هو في كل هذه الأشكال نمط من أنماط الجذور المشكلة للهوية، لكن لا يمكننا أن نرى أنه يمثل مجمل الهوية، فالنص المقدس، يرتبط بالتفسير الذي قدم فهماً مثالياً له، والنص غير المقدس يرتبط بالعادة التي صنعته، فالبنت التي تقطع رأس وذيل السمكة قبل طهيها لا تعلم أن جدتها علمت أجيالاً بعدها هذا السلوك؛ لأن وعاءها كان ضيقاً.

ماذا ترى فيما قدمه كل من: الأستاذ رشدي صالح، د. أحمد مرسي، الأستاذ شوقي عبد الحكيم؟

◂ كل صاحب جهد محمود دوره، وما قدمه لبنة مهمة في بناء صرح الأدب الشعبي، فأحمد رشدي صالح محب صاحب نزعة نحو الفلكلور، عاشق إن صح التعبير، وهو من وضع للفلكلور بعده التنموي، ونادى بإنشاء أرشيف عربي، ومركز للفلكلور العربي، وهو ما يمكن أن نسميه اليوم بأطلس الفلكلور. أما الدكتور أحمد علي مرسي فهو العمق الأكاديمي العلمي للفلكلور العربي. وشوقي عبدالحكيم، راهب الفن الشعبي والفلكلور المصري في نسخته المبدعة، فهو مؤلف ومبدع في الأساس.
لذا؛ كان لكل منهم دوره المستقل الذي له نكهته المغايرة والمؤثرة في مجال الدراسات الشعبية والفلكلور، ما بين متيم وعالم ومبدع.

الفلكلور الشعبي والموروث، ما الفرق بينهما؟

◂ نحن هنا نتحدث عن الجانب القولي في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، الموروث لفظ عام منه الشعبي وغير الشعبي، فمثلاً: "طلع البدر علينا" أغنية شعبية على الرغم من أنها فصيحة اللغة، أما الفولكلور فهو أدنى قيمة فكرية ومعرفية من الموروث القولي؛ لأنه يرتبط بالعامة، بكل ما تعنيه الكلمة، قوة وضعفاً، قوة الالتحام بالواقع وضعف الثقافة والمعرفة والرؤى الحصيفة للأمور غالباً، فالعامة أميل إلى الغوغائية من الوعي المثالي أو البناء، وعلى الرغم من ذلك فالفولكلور مقدر تماماً في ثقافتنا العربية، الجاحظ رحمه الله الذي توفي عام 255هــ تكلم في كتابه الحيوان عن الآداب الشعبية، قال ما معناه: "إذا سمعت ملحة من ملح العوام، وحشوة من حشوات العامة فإياك أن تحكيها إلا بلسانها، ولا تعمل فيها يد الإصلاح؛ فإنك إن أصلحتها أذهبت ملحتها من حيث أرادوا منها الملحة"، أي أننا لا نصلح لغة النص الشعبي لا نحواً ولا صرفاً ولا تركيباً، فملحته وغناه وطرافته من حيث هو كما هو، دون التصرف فيه.

ما علاقة الكاتب بالبطل/ة في العمل، وإلى أي مدى يؤثر أحدهما على الآخر؟

◂ لو كان للكاتب علاقة سيسقط أهم عوامل الصدق الفني ليحل محله الصدق الموضوعي، أو الكذب الموضوعي من خلال تحسين الصورة، لكن قد يتأثر الكاتب الجاد ببطله أو بطلته، ويتقمص بعض اتجاهاته النفسية والفكرية في مرحلة كتابة النص، لكن هذا يعني خللاً في التركيب الفكري أو النفسي للكاتب، على الرغم من جديته.

النقد هل يتجه إلى المواءمة مع النص، أم يتأثر بالتنافر بين الناقد والكاتب؟

◂ يجب على النقد أن يظل على الحياد، التوءمة تعني الانحياز، وإن كان غير مباشر أو غير مصرح به، كما أنه ليس هناك تنافر بين الناقد والكاتب؛ لأن الكاتب مع البعد الملهم في شخصيته يؤخر مرتبة الناقد من النص، فالناقد كان ولما يزل وسيظل مجرد قارئ مثالي للنص الأدبي، أو ربما يصح أن نقول على بعض النقاد (قارئ شديد المثالية)، إذا تعدى فهمه للنص قدرة المؤلف على فهم الطاقة الإلهامية لنصه، فقد يفهم الناقد من النص ما يفوق قدرة الكاتب على فهمه، وهذا وارد ومشاهد.

الحداثة وما بعدها، تغريب أم هي سنة التطور الطبيعي للأدب؟

◂ التغريب مشجب الكسالى، كلنا بشر وعلومنا متضايفة، شئنا أم أبينا، وفي أجل نماذجنا القرآن الكريم وفيه ألفاظ أصلها غير عربي، بل إن لفظ "الفيل" هو لفظ سنسكريتي، فلم التقوقع والأرض لنا رحبة كالسماء، لكن أخلاقنا هي الضيقة.
أما الحداثة فهي ولا ريب وليدة المخالطة والملاقحة الفكرية والمعرفية، لكن إشكالها الأول في الثقافة العربية الفردية والإغراق في تقديس الذات، فنحن عندما نقرأ لأبي تمام رأس الحداثة الشعرية العربية، أو عندما نقرأ لبدر شاكر السياب قصائده التي كتبها في مرحلته الشعرية الثالثة، التي كان فيها أسيراً للواقعية الجديدة، سنكتشف أن الحداثة سنة واجبة لتطور الكون، لكننا نحن من لا يملك القدرة على التحديث، فشعر السياب في أنشودة المطر، أو غريب على الخليج أو حفار القبور، أو المومس العمياء، كانت نماذج مبدعة لكننا لم نجد بعدها طوفاناً من الإبداع الحداثي المماثل؛ لأن شعراءنا وأدباءنا يقتلون آباءهم بحثاً عن الأولية والريادة المزعومة، فيرون أن الشاعر لا يكون شاعراً إلا بالهدم والتقويض ومثقافة الآخر، كما هو حال أدونيس، فبئس ما جاؤونا به من تنظير لا نموذج له، وقطيعة لا وصل فيها، وهدم لا بناء بعده، لقد كان رائد المقامات ابن دريد لكن مبدعها الأول الهمداني، وكذلك كانت نازك رائدة لفكرة الشعر الحر، لكن كان مبدعها الأول السياب، ثم شاذل طاقة ثم صلاح عبد الصبور ومحمد إبراهيم أبو سنة.
وينسحب ذلك على حياتنا الفكرية بعامة دون استثناء، فصلاح قنصوة مثلاً في كتابه تمارين في النقد الثقافي، يحاول التدليل على انعدام الهوة بين العامي والمثقف، هذه الفكرة لا ترفع العامي بل تأخذ المثقف إلى حضيض العامة، وهذه قد تصدق على عصرنا لأنه الواقع الذي نعيشه، ونعترف به، حتى وإن رفضنا فكرة قنصوة رفضاً يؤازر رفضنا لجل طروحات النقد الثقافي نفسه.

الاغتراب للمبدع ما تأثيره على الإبداع؟

◂ قد يبني وقد يقتل الإبداع، بحسب نفسية الشاعر الذي يخضع لتجربة الاغتراب، وهي تجربة شديدة الصعوبة بحق، بعضهم يعاند الوجود والمجتمع، وبعضهم يستسلم لاغترابه، وإن كان داخل نفسه.

ما وجهة نظرك للكتابة الشبابية؟

◂ مبدعة في كثير من نماذجها، يغزونا الآن جيش من الشباب أكثر وعياً وأفطن وأرق، وإن خالطه جيش من المتسلقين والمرتزقة، الجيش الأول يغزونا ليعيد لنا أمجادنا الضائعات، والآخر لا ليعيد ولا يستلب؛ إنما هو وهِيٌّ عَيِيّ، لا أخشى منه لا على الثقافة العربية، ولا على الجيش الواعي من كتابنا ومثقفينا الجدد.

أخيراً بماذا تنصح الكُتاب الذين يتناولون الموروث في أعمالهم؟

◂ الموروث قيمة مهمة، وكنز لا يمكن إغفاله عند استكشاف منابت أشعارنا السامقات، وإغفاله اكتفاء بالمصب عن المنبع، وهو أمر شديد الخطورة، المنبع والجذر هما القاعدة الحقيقية لبناء الواقع والمستقبل، التنقيب في التراث والتاريخ الرسمي وغير الرسمي منه خاصة، سوف يثري ويقوي التجربة والأداء معاً، ويسهم بدور فاعل في الحفاظ على الاستمرار الواعي بالذات، في تجربة كتابي عن الشيخ مصايب الجهني، بدأت فكرته قبل الاحتشاد له بأكثر من عشر سنوات، ثم انشغلت عنه، في تلك المرحلة كان الرواة كثر، والحكايات موجودة بثراء حقيقي، بعد عشر سنوات، لم أجد إلا قشوراً مما كنت أعرف، وفي ليلة من الليالي التي زرت فيها مدينة جهينة وجدت بقالا مهطعاً رأسه منفصلا عن العالم، يتابع مسلسلاً في التلفاز، فعلمت سبب ضياع تراث الشيخ مصايب الجهني هو إهمالنا لتراثنا، والانبهار بما يقدم لنا من تراث لا يعنينا منه إلى الفضول والتطفل، استبدلنا بحكاياتنا المؤثرة المبهجة والفاعلة حكايات لا تمت لنا، ولا لواقعنا بواصلة لا من قريب ولا من بعيد، بعنا أنفسنا للإعلام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها