العقل الاصطناعي!؟

وقفةٌ مع رؤية عالم الفيزياء ميتشيو كاكو

عبد البر العلمي

إلى وقت قريب، كان واقعنا عادياً نسبياً، وحدث فجأة بشكل مطرد ظهور الكثير من الاختراعات التي أصبحت تغزوننا وكأننا أم نمو للطفيليات، لم يحدث هذا فجأة، بل نتيجة تصميم وإبداع العقل البشري. هذا العقل الذي استطاع اليوم أن يجعلنا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي بعدما كنا نتحدث عن تطور الذكاء البشري، لكن تغير كل شيء، فأصبحنا نعيش عصر الآلة الإنسان "الإنسالي"، التي تتميز بقدرات فائقة، وكأننا أمام إنساني عادي.
 

يؤكد ميتشيو كاكو Michio Kaku على أن هناك على الأقل مشكلتان رئيسيتان تواجهان الذكاء الاصطناعي: التعرف على النموذج، والحس السليم. حيث يستطيع أفضل إنسالي (إنسان آلي) لدينا التعرف على أجسام بسيطة مثل كأس أو كرة. قد ترى عين الإنسالي تفاصيل أفضل من العين الطبيعية، لكن دماغ الإنسالي لا يمكنه إدراك ما يراه.
فمثلاً "عندما يدخل إنسالي إلى غرفة ما عليه أن يجري تريليونات العمليات الحسابية، بحيث يختزل الأجسام التي يراها إلى بيكسلات وخطوط ودوائر ومربعات ومثلثات، ثم يحاول مطابقتها مع آلاف الصور المخزنة في ذاكرته. على سبيل المثال، ترى الإنساليات الكرسي على أنه مجموعة من الخطوط والنقاط، لكنها لا تستطيع بسهولة تمييز فحوى الكرسي. حتى لو استطاع إنسالي بنجاح أن يطابق جسماً مع صورة مخزنة في قاعدة بياناته، فإن تدويراً بسيطاً (كرسي ملقىً على الأرض)، أو تغييراً في منظوره (النظر إلى الكرسي من زاوية مختلفة) سيجعله عاجزاً. أما أدمغتنا فتأخذ آلياً مناظير مختلفة بالحسبان. تجري أدمغتنا لا شعورياً تريليونات الحسابات، لكن العملية تبدو كأنها تتم دون جهد بالنسبة إلينا".
من هذا نقول إن للإنساليات مشكلة مع الحس السليم، فهي لا تفهم الحقائق البديهية حول العالم المادي والبيولوجي. ليست هناك معادلة يمكنها أن تؤكد شيئاً بديهياً بالنسبة إلينا مثل: "الطقس السيء غير مريح" أو "الأمهات الأكبر سناً من بناتهن". وقد حصل بعض هذا التقدم حسب ميتشيو في ترجمة هذا النوع من المعلومات إلى منطق رياضي، لكن تصنيف الحس السليم لطفل في الرابعة من العمر يتطلب مئات الملايين من أسطر الرمز الحاسوبي. على سبيل المثال يذكر ميتشيو، بنى أحد أكثر إنسالياً تقدماً يدعى: "أسيمو" في اليابان من قبل مؤسسة هوندا. هذا الإنسالي الرائع، بحجم طفل صغير، يمكنه المشي والركض وصعود الأدراج والتكلم بلغات مختلفة والرقص.

في لقاء ميتشيو مع صانعي "أسيمو" سألهم ما مدى ذكاء أسيمو إذا ما قورن بحيوان؟ فأجابوه بأنه لديه ذكاء حشرة، يقول معلقاً: "هذا المشي والكلام كله للإعلام. المشكلة أن أسيمو بصورة عامة مجرد آلة تسجيل كبيرة. لديه قائمة متواضعة من الوظائف الآلية حقاً، لذك يجب كتابة كل خطاب أو حركة تقريباً بعناية مسبقاً. على سبيل المثال، استغرق الأمر ثلاث ساعات لتصوير سلسلة قصيرة عني وأنا أتفاعل مع أسيمو؛ لأن حركة اليد والحركة الأخرى يجب برمجتها من قبل فريق من العاملين". لكن، في المستقبل سواء القريب أو البعيد سيتم تجاوز الكثير من العقبات، ما يجعل الإنسالي أكثر ذكاء.

هل الإنساليات واعية؟

يرى ميتشيو أنه يمكننا تصنيف الوعي في أربعة مستويات. يصف المستوى 0 من الوعي النباتات ومنظمات درجة الحرارة، أي أنها تشمل عدداً ضئيلاً من دارات التغذية الراجعة إلى حفنة من المتحولات البسيطة، كدرجة الحرارة أو أشعة الشمس. يصف المستوى 1 من الوعي الحشرات والزواحف، التي تتحرك ولديها جهاز عصبي مركزي، خلق نموذجاً عن العالم بالعلاقة مع متغير جديد هو المكان. ثم لدينا المستوى 2 من الوعي، الذي يخلق نموذجاً عن العالم بالعلاقة مع كائنات أخرى من النوع نفسه، ما يتطلب الأحاسيس. وأخيراً المستوى 3 من الوعي، الذي يصف البشر، والذي يشمل الزمن والوعي بالذات لتمثيل كيف ستتطور الأشياء في المستقبل وتحديد موقعنا في هذه النماذج.
بناءً على هذا التصنيف الرباعي يقول ميتشيو: "يمكننا استخدام هذه النظرية لتصنيف الإنساليات المعاصرة. كان الجيل الأول من الإنساليات عند المستوى 0، لأنها كانت ثابتة من دون عجلات أو أرجل. إنساليات اليوم هي عند المستوى 1 بما أنها متحركة، لكنها عند مستوى منخفض جداً؛ لأنه من الصعب جداً عليها الانتقال في العالم الحقيقي. يمكن مقارنة وعيها بوعي دودة أو حشرة بطيئة. لإنتاج المستوى الكامل 1 من الوعي، على العلماء أن يصنعوا إنساليات يمكنها تقليد وعي الحشرات والزواحف واقعياً". ولا شك أنه في العقود المقبلة سترتفع الإنساليات تدريجياً في المستوى 2 من الوعي لتصبح بذكاء فأر وأرنب ثم قطة. وربما في أواخر هذا القرن ستكون بذكاء قرد، وستبدأ في خلق أهدافها الخاصة بها.

إذن متى يمكن للإنساليات أن تماثل البشر في الذكاء وتتفوق عليهم؟ طبعاً لا أحد يعلم. "لكن كانت هناك تنبؤات عديدة، اعتمد معظمها على استمرار قانون مور عقوداً إلى المستقبل. لكن قانون مور ليس قانوناً على الإطلاق، وفي الحقيقة فإنه في نهاية المطاف يخالف مبدأ أساسياً في الفيزياء: نظرية الكم" لذا لا يمكن حسب ميتشيو لقانون مور أن يستمر إلى الأبد. في الحقيقة، يمكننا مسبقاً رؤيته يتباطأ الآن. ربما يختفي في نهاية هذا العقد أو الذي يليه، وستكون العواقب وخيمة وبخاصة بالنسبة لوادي السيليكون.
حسب ميتشيو المشكلة بسيطة، يقول عن ذلك: "يمكنك الآن وضع مئات ملايين أصناف النواقل السيليكونية على شريحة بحجم ظفر إصبعك، لكن هناك حداً للعدد الذي يمكنك حشره على هذه الشرائح. إن أصغر طبقة من السيليكون في شريحة بنتيوم اليوم هي بعرض نحو عشرين ذرة، وربما ستصبح بحلول 2020 بعرض خمس ذرات". ومن هنا فالبرمجيات ستعرف تطوراً غير مسبوق.

الوادي الغريب

يقول هنا ميتشيو افترض لحظة أننا سنتعايش يوماً ما مع إنسانيات متطورة جداً، ربما باستخدام شرائح بترانزيستورات جزيئية بدلا من السيليكون. هنا يتساءل كم الشبه أن يكون بيننا وبين الإنساليات؟

تعتبر اليابان هي الرائدة عالمياً في صنع إنساليات تشبه الحيوانات الأليفة والأطفال، لكن مصمميها حذرون من جعل إنساليتهم تشبه البشر كثيراً، ما قد يسبب القلق. هذه الظاهرة درست لأول مرة من قبل الدكتور ماساهيرو موري في اليابان في العام 1970، ودعيت بـ"الواد الغريب"، وهي تقول إن الإنساليات سوف تبدو بشعة إذا شابهت البشر كثيراً... منذ ذلك الوقت درست هذه المسألة بعناية ليس من قبل باحثي الذكاء الصناعي فقط، بل من قبل صانعي الصور المتحركة، وأي شخص يسوِّق منتجاً يشمل شخصيات شبيهة بالبشر.


بناءً على ذلك "كلما شابهت الإنساليات البشر شعرنا بالتعاطف معها، لكن إلى حد معين. هناك انخفاض في التعاطف مع اقتراب الإنسالي من مظهر الرجل الفعلي – وبالتالي "الوادي الغريب". إذا بدا الإنسالي قريباً جداً منا، عدا بعض الخصائص القليلة "الغريبة"، فإنه سيخلق شعوراً بالاشمئزاز والخوف. وإذا بدا الإنسالي بشراً مائة في المائة، بحيث لا يمكن تمييزه عني وعنك، فسوف نتعاطف إيجابياً معه مرة أخرى".
ولا شك أن لذلك تأثيرات عملية، على سبيل المثال: "هل يجب على الإنساليات أن تبتسم؟ حسب ميتشيو في البداية يبدو من الواضح أن على الإنساليات أن تبتسم لتحيي الناس، وتشعرهم بالراحة. الابتسام إشارة عامة تشير إلى الدفء والترحاب. لكن إذا كانت ابتسامة الإنسالي واقعية جداً، فستجعل جلد الناس يقشعر. (على سبيل المثال، غالباً ما تظهر اقنعة الهالوين كائنات شيطانية مبتسمة). لذا على الإنساليات أن تبتسم فقط إذا كانت بمظهر الأطفال (أي بعينين كبيرتين، ووجه مستدير)، أو إذا كانت بشرية تماماً ولا شيء بينهما. (عندما نجبر أنفسنا على الابتسام ننشط عضلات الوجه بقشرتنا أمام الجبهية. لكن عندما نبتسم لأننا في مزاج جيد فإن الجهاز الحوفي يتحكم في أعصابنا، وهو ينشط مجموعة مختلفة قليلا من العضلات. ويمكن لعقولنا أن تعرف الفارق الخفيف بين الحالتين، وهذا مفيد لتطورنا). لكن هذا الأمر سيتغير من حين إلى آخر. وهو ما يؤكد ميتشيو بالقول إن الإنساليات ستستمر في الظهور بمظهر طفولي حتى مع اقترابها من الذكاء البشري. فقط عندما تستطيع الإنساليات التصرف فعلياً مثل البشر سيجعلها مصمموها تبدو كالبشر تماماً.

هل ستكذب الإنساليات؟

ربما نعتقد عادة أن الإنساليات عقلانية، تحلل ببرود، وتقول الحقيقة دوماً. لكن ما إن يندمج الإنسالي في المجتمع، حتى يتعين عليه أن يتعلم الكذب، أو على الأقل أن يقيد تعليقاته بحصافة.

يؤكد ميتشيو أننا في حياتنا نواجه عدة مرات في يوم عادي بظروف تستدعي أن نكذب فيها كذبة بيضاء. لو سألنا أناس كيف يبدون؟ لا نجرؤ غالباً على قول الحقيقة. الكذبات البيضاء في الحقيقة هي كالشحم الذي يجعل عجلة المجتمع تدور بنعومة. لو أجبرنا على قول الحقيقة بكاملها، من المحتمل أن ننتهي بخلق الفوضى وإيذاء الناس. سيشعر الناس بالإهانة لو أخبرتهم كيف يبدون حقيقة، أو كيف تشعر حقيقة نحوهم. سيطردك الرؤساء، وسيهجرك العشاق. وسيتخلى عنك الأصدقاء. وسيصفعك الغرباء. من الأفضل أن تبقى الآراء سرية بتعبير ميتشيو.
وبالطريقة نفسها، يرى ميتشيو أن على "الإنساليات أن تتعلم كيف تكذب، أو تخفي الحقيقة، وإلا فسينتهي الأمر بها إلى الإساءة إلى الناس وإلى إيقافها من قبل مالكيها. لو قال الإنسالي الحقيقة في حفلة ما، فسوف يؤثر بشكل سيء في مالكه، وسيخلق ضجة. لذا لو سأله شخص عن رأيه، فعليه أن يتعلم كيف يكون مراوغاً وديبلوماسياً وحصيفاً. عليه أن يتجنب السؤال، أو يغير الموضوع، أو يعطي جواباً لا معنى له، أو يجيب بسؤال، أو يقول كذبات بيضاء (الأشياء التي يزداد إتقان آلات الحديث chat-bots لها اليوم). هذا يعني أن الإنسالي قد برمج مسبقاً ليحصل على قائمة من الاستجابات المراوغة الممكنة، وعليه أن يختار الإجابة التي تخلق أقل قدر من المشاكل له".
إحدى المرات القليلة التي سيقول فيها الإنسالي الحقيقة بكاملها هي عندما يسأل سؤالاً مباشراً من صاحبه الذي يعرف أن الجواب قد يكون صادقاً بشكل فظ. ربما تكون المرة الأخرى التي على الإنسان الآلي أن يقول فيها الحقيقة هي عندما يستجوب من الشرطة، وتكون الحقيقة المطلقة ضرورية. عدا ذلك، تستطيع الإنساليات أن تكذب بحرية، أو تخفي الحقيقة بكاملها للحفاظ على دوران عجلات المجتمع. بعبارة أخرى يجب أن تدمج الإنساليات اجتماعياً كالمراهقين.

بعد هذه الوقفة مع ميتشيو كاكو وحديثه عن العقل الاصطناعي، نخلص إلى أن مستقبلنا هو مستقبل المفاجآت حقاً، فبعدما كنا نعيش حياتنا العادية، ظهر الهاتف فاندهشنا، ثم تطورت وتعددت الاختراعات فلم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح شاشة بين أيدينا. لكن اليوم وما سيأتي في المستقبل هو وضع مختلف ومدهش، فظهور الإنسالي (الإنسان الآلي) الذي سينافسنا في الحياة اليومية، وربما حقيقة سيتم الاستغناء عنا ليكون هو البديل، في مجال البيع والشراء والعمل والأمن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها