شيءٌ واحدٌ كان يستثير الناظر إليه: هو أنّ وجهه كان معجوناً بالتحدّي والثبات..
في تلك القرية النّائية عن المدينة، عاش ودرس حتى نال الثانوية.. صوتٌ مدوٍّ فيه رعدٌ وسخونة، كان دائب الرّكض بأعماقه: "الإنسان هو الإرادة، هو الإصرار".. الصوت الرّاعدُ كان يلوّن صدره الفتيّ بألوانٍ قُزحيّة، جاعلاً صاحبه يتماوج بفرح أزرق رجولي..
السّنديانة الطاعنة، كانت مظلّته الواقية، يحتمي بحنانها من قيظ الشمس وحرارتها.. سنواتها التسعون تفترش المكان، تعانق الجذور.. هي شجرة قوية مُعَمِّرة، أحبّها "سعفان" وأحبّته، انبنَى بينهما نوعٌ من التّماهي الفذّ، والصّداقة الحميمة!
في غدوّه لأرضه، وفي رواحه منها، كان يداعب "خصلات" أغصانها المتدلية، وكانت هي تنحني له بقداسةٍ أقرب ما تكون إلى التبتّل والخشوع.. كان بكلّ مرّة، يمتلئ بفرحٍ غامر، وهو يراها متشبّثة بالأرض أمام الزوابع والأعاصير.. من صمودها استمدّ عزْماً إضافياً، قال بصوتٍ تزمّلُه الثقة والكبرياء: "لو أنّ الإنسان يتطهّر بالصّمود في وجه التحدّيات، لنجا من خطايا كثيرة"!
قلبه يكاد يغادر الجسد، وهو يرى أغصان "حبيبته" تتمايل طرَباً وانتشاءً، كلما اقترب منها، أو طاف بها..
ذات مساء، وهو راجعٌ من عمله، فأسُه على كتفه، وكذا مِزْوَدُ الطعام الخاوي، حدّث نفسه بطريقة المونولوج: "السّنديانة سرّ صمودي والتصاقي بالأرض، هي معلّمتي كيف أكافئها؟ بل هي ضحكة عاشقَين، ويدا مُحِبَّين لا تتعبان من الدّفء والإبحار".. ابتسم في سرّه، وأضاف: "ما هذه الأمواج الرَّهوة التي تغزو شواطئ رأسي بهذا المساء"؟ حين وصلها، قبّل جذعها الثّخين، أغصانَها المتدلّية، قائلاً:
"سنديانتي الغالية، أنتِ ملاذي بالحرّ والقرّ، أستاذتي الجليلة، صمودك بكلّ الظروف يقوّي عزيمتي، قوّتي لنْ تخور، لنْ أنسى فضلك ما حييت".. السّنديانة حينها، كانت ترقّص أوراقها اللمّاعة، مسنّنة الأطراف، منتشيةً من معزوفة الإطراء والاعتراف.. نبسَ "سعفان" كلماته، ومضى قاصداً بيته الطينيّ الأليف..
في ذاك المساء من مساءات الخريف، كان البرد الرّصاصيّ أنصالاً حادّة، تحزّ صدر الفضاء بلا هوادة.. بينما هو لا يزال يغذّ السير ناحية البيت، متأمّلاً ما راوده من أفكار وكلمات، تلك التي انداحتْ على ساحل مُخّه، ومرفأ لسانه.. لكنه بعد خطوات، انكفأ من هذه التداعيات، تذكّر أنّ زوجته "فارعة" سبقته منذ ساعتين إلى البيت، لتحضّر له الطعام قبل وصوله، وعليه ألّا يتأخّر.. "فارعة" بأخلاقها ودعمها "سنديانة" هي الأخرى، أحبّت زوجها، وأحبّت الأرض، وكتفاً لكتفٍ تساعده بعمليات التّعشيب والحراثة والبذر والريّ... ذات مصادفة، سقطت عيناها عليه، رأتْ لآلئ العَرَق تسبح بوجهه الأسمر النّضير، وقتها كانَ منهمكاً بحراثة الأرض، يمنحها عَرَقه، لتمنحه فيما بعد الخيرَ والغِلال.. كان ذلك منذ سنوات، حين قال لأبيه:
- "يا أبي أريدك أنْ تستريح، لقد وهبْتَ عمْرَك للأرض، أكلَتْ لحمك مع العظم، الآن جاء دَوْري، هذا دَيْنٌ بعنقي".
- بارك الله فيك يا ولدي، أنت سندي وعكّازتي، دعواتي لك بطول العُمْر، والذّريَّة الصّالحة.. من ذاك اليوم، جرّ الثورين، انطلق بهما صوبَ الأرض الطيّبة، مرّت هي إلى أرضها القريبة، تزاوجتْ عيناها بحبيبات العرق المتلألئة، وبعينيّ هذا الشاب الفلّاح.. في الرّيف صفاءٌ مُستمَدٌ من صفاء الطبيعة، وقتها تطلعت "فارعة" نحو السماء، بدت لعينيها خضراء مزهرة، كأنّها حديقة ياسمين.. من تلك اللحظة المتوهّجة، امتلأ قلبها الأبيض بفرحٍ أزرق، بحيرة قلبها طافت بالحنين المبارك، وانضمّ كلّ شيء.. إلى كلّ شيء.. أما هو، فقد امتلأ بشوق طاغٍ، وحبّ عذريّ مباغت، ناجى نفسه: "أيّة مشاعر للفرح يحملها قلبي الآن؟! أيّة عواصف جامحة تهبّ عليّ بلحظة كهذه"؟! وتحت تلك "السّنديانة – السّرّ"، كان ثاني لقاء وعاشر لقاء..
من حميميّة تلك اللقاءات الطاهرة، تجذّر الحبّ بقلبيهما، أقام هناك خيمة وارفة.. قال لها:
◅ أنتِ يا "فارعة"، بستانُ وردٍ جُوْرِيّ لقلبي..
ردّت:
◅ أنتَ سنديانتي وسَنَدي..
قال: ...
قالت: ...
قال: ...
قالت: ...
وجاء اليوم الموعود.. تمَّت مراسم الزّواج.. صار الحبّ دماً طاهراً يفور بالشّرايين والأوْردة، يركض في تضاريس الجسدين بكلّ ثورة الفرح..
مرّت سنة وسنتان وخمس على زواجهما، لكنّ دورة الفرح لا تكتمل:
"...وَمَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أزْمانُ"، فقد أضحت أحلامهما مشنوقة بسقف المجهول..
عَرَضَها على ثلّة أطباء، عَرَض نفسه كذلك، جاء الجواب واحداً:
◅ "زوجتك عاقر"..
جُنَّ جنونه، الضّياع يقضم مشاتل الأمل، عروق جسده لكأنّها على وشك الانفجار! دارتْ به ظنون بانوراميّة، وأفكار شتّى، ذهب تفكيره إلى السّنديانة، ألمْ يقلْ منْ قبل: "هذه الشجرة سرُّ صمودي، هي معلمتي الأولى ومرشدتي؟! صمودها بكلّ الظروف يقوّي عزيمتي".
شرح لها وجعه، طلب مساعدتها، هو في ضنكٍ وضيق.. لحظتها بَدَتْ تعابير عروقها وأوراقها مُرْبدّة، لم تجبْهُ إلا بِالارْبِدَاد، أو هكذا خُيّل إليه.. نظراتها النّافذة لكأنّها كانت تقول:
"كنْ مؤمناً، ارْضَ بنصيبك من الدّنيا، الأولاد عطاءٌ من الله، لا تعاندْ، لا تعترض، هذا حرام".. ضَجِراً تركها دون وداع، انكفأ للبيت، هناك كانت عينا "فارعة" تخترقان سقف الغرفة، علّها تستخرج من أعماقه قراراً أو حلّاً.. كان "سعفان" إلى جانبها يتمتم بلغة رَهْوة انسيابيّة:
◅ تعرفين غاليتي حبّي لك، كنتُ أحلم بولدٍ يحمل اسم الأرض واسمي، يلعبُ تحت السّنديانة، يتسلّق البيادر، يحمل لي الزّاد، وفي المساء يُسْمعني نشيداً مدرسيّاً حلواً..
أخذ نفساً، ثم أردف:
◅ لنْ أطمئنّ إلى أقوال الأطبّاء هنا..
وفي بلدٍ مجاور جاءه الجواب عينُه كمطارق تدقّ رأسه بقوة:
- "لا فائدة.. زوجتك عاقر.. هكذا وَرَدَ معنا بالكشف الطبي"!
حمَلَ عصاه عائداً لبيته، "فارعة" إلى جانبه، حبّه لها كان أقوى من كلّ التّخرّصات والأباطيل والطّروحات:
- طلّقْها..
- زوجتك عاقر، ما الفائدة من زوجة عاقر؟
- ما قيمة الرّجل بلا أولاد؟
- ألا تريد يا "سعفان" ولداً يحملُ اسمك بعد عمْرٍ طويل، ويخلفك في الأرض؟
- الشَّرع حلّل لك الزّواج بأربع..
- ...
- ...
كانت هذه التعليقات الحامضيّة وأشباهها، تضغط طبقات رأسه، قال لنفسه بلغة "المونولوج":
"ألسنة بعض الناس سِياطٌ حادّة، لو كانوا على درجةٍ من الإيمان والتعقّل لمَا... ".
"فارعة" على السّرير، تغطّ بنوم معتكر، وجهها بدا لعيني "سعفان" مثل تفاحة ضاحكة، همس بأعماقه: (ما ذنب هذه الإنسانة العظيمة؟ هل العقم من إبداعها، وصُنع يديها؟ أليس حلماً لأيّ أنثى أنْ يكون لها أولاد وبنات؟ إنها مشيئة الله.. أمضتْ سنوات من شبابها معي بالأرض، ثمّ إنني أحبّها وتحبّني، لماذا أطلّقها، كما تفلسفَ بعض الجَهَلة من الأهل والأصحاب؟ جوهرتي الثمينة لماذا أفرّط بها؟ ألم تقلْ لي والدتي يرحمُها الله: برضائي عليك يا ولدي كنْ حنوناً على الغالية "فارعة"، هي بمثابة واحدة من بنات روحي)؟
حينها استلقى جوارَ زوجته "العاقر"، وهو يتمتم:
"أنتِ سعادتي الآسرة، أنتِ سنديانتي وسندي، إلى الجحيم كلّ ترّهاتهم السّخيفة، وكلماتهم الغبيّة، سأبقى ثابتاً على العهد كما وعدتك، سأظلّ قامة السّنديان، لا تخافي ولا تبْتئسي"..
كاد "سعفان" يسترسل بمناجاته الخاصّة، لكنّ الكلمات انزلقت على جسده مثل موجةٍ رَهْوةٍ، وغطّ هو الآخر في نومٍ هانئٍ ... عميق.. عميق.