سَرَحان "باب النهر"

د. راتب تامر سكر


[1]

لقاء في مقهى قصر البلّور

جمع "مقهى قصر البلّور" الشهير في دمشق، مَجْمُوعَة مِنْ قُدَامَى زُمَلَاءِ أَيَّامِ الدِّرَاسَة في ثانَويَّتَي: "التجَارة" و"أبي الفِداء" في حماة، بناء على دعْوَة وجّهَهَا لكلٍّ منهم زميلهم "ملهم الخالد"، للتشاور في إقامة سهرة ثقافية واجتماعية، احتفاء بمرور خمسين سنة على نجاحاتهم في امتحانات الشهادة الثانوية (1974- 2024).

عشرون زميلًا فقط من أولئك الزملاء القدامى، وقع عليهم اختيار "ملهم" لأنهم يقيمون في دمشق منذ تخرجهم الجامعي، ما يجعل لقاءهم سهلا ميسوراً، بعيداً عن هموم التنقل والسفر بين المحافظات، تلك الهموم التي غدت ثقيلة، ولم تعد كعهدهم بها في سنوات دراستهم أيام شباب تولّى...

لم يحضر منهم سوى خمسةٍ فقط، أما الخمسَةَ عَشَرَ الباقون فقدموا أعذاراً شتى عبر وسائطِ التواصل الاجتماعي الحديثة، مفوِّضين زميلَهم "ملهمًا" ومن يحضر معه، باتخاذ ما يناسب مقتضى الحال من قرارات؛ لنجاح السهرة العتيدة...

شَكر "ملهم" للزملاء الخمسة تلبية دعوته بحضورهم، وإذ فوجئ باعتراض "أنور الحسن" على دمج خريجي الثانويتين معاً، حاول أنْ يَشْرَحَ له مُسَوِّغات ذلك، فطال حوارُهما:
– أذكِّرك يا أخ أنور بقرار مديرية تربية حماة في خريف عام 1971، الذي قضى بتجميع طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية الذين اختاروا – طوعاً أو بسحبة حظ تشبه القرعة - اللغة الفرنسية لغة ثانية للدراسة إلى جانب اللغة العربية، في ثانوية التجارة، وإبقاء نظرائهم الذين اختاروا اللغة الإنكليزية في ثانوية "أبي الفداء"، ما يعني أنَّ عددًا غيرَ قليل من طلبة دفعتهم، يشعر بثنائيَّةِ الانتماء إلى الثانويتين معاً..

– لا يكفي هذا التسويغ لدعوة خريجي الثانويتين معاً، زد على ذلك أنهما تقعان في حيين مختلفين...

– وهل مسافة ثلاثمئة متر تفصل بين حي "الجراجمة" الذي يحتضن ثانوية "أبي الفداء" وحي "باب القبلي" الذي يحتضن ثانوية "التجارة"، تكفي للتفرقة بين خريجي الثانويتين تفريقاً بائناً، يستدعي جدلاً في الحوار، بينما درسنا في التاريخ أن بريطانيا العظمى لم تعر للمسافات الشاسعة بين بحارها وبحار مستعمراتها في الهند وباكستان اهتماماً؟

– لا بدَّ من توضيح أهمية الفواصل والمسافات بين الحارات، في المسألة إضاعة لهويّات الحارات، قد تصل إذا استُمرئَ نهجُها إلى إضاعة هويِّة الأمَّة...

– هل تريد أن تجعل المسافة بين حيَّين بسيطين متجاورين، بل متداخلين، منطقة تشبه "كشمير" بين الهند وباكستان؟

– شبِّه كما يحلو لك، وتذكر أن كل مسافة نلغيها من الحسبان، بين حي وحي، ولو كانت مئة متر فقط، سيترتب على إلغائها فوضى وضياع...!

– من المفيد أن أذكِّرَك بالكلمة التي ألقيتها أيام الثانوي، في ذكرى الوحدة السورية المصرية، وافتخارك بأنَّ أباك أسماك "أنور" لأنك ولدت يوم زيارة أنور السادات إلى حماة، عندما أوفدته مصر في منتصف الخمسينيات، وكيف كنت تصرخ أنّ ما بين مصر وسورية من مسافات، تتجاوزه الروح الوثابة لانتمائنا العربي... ألا ترى أن هذه "الوثابة" تعجز في حوارنا اليوم معاً عن تجاوز ثلاثمئة متر بين مدرستين في حيين بسيطين، وَأهلوهما معظمهم: عمّك، خالك!

وطال الحوار وتشعَّب حتى كاد الحاضرون من قدامى الزُّمَلاء ينسَوْنَ السبب الوجيه لاجتماعهم، بعد طول انقطاع...

كان "سَرْحَان سعيد" مستغرقاً في سَرَحَانه بعيداً عما يدور، وانتبه من سَرَحَانه إذ سُئلَ عن رأيه، فأجاب من غفلته:
– نلتقي الأسبوع القادم، كما التقينا اليوم، في الموعد والمكان نفسيهما، على أن يصطحب الذين تزوجوا منا رفيقات دروبهم، ويُعْذَرَ الذين لم يضعوا حدًّا للعزوبية بعد، أو فاتهم القطار دون ذلك...!

[2]

سرُّ سَرَحَانِ سَرْحَان

تعرَّضَ "سرحان سعيد" في باحة ثانوية "أبي الفداء" لتعْنيفِ عددٍ من زُملائِهِ الذين يكنُّ لهم محبَّةً فائقةً، لأنَّهُ أيَّدَ في الحوار الدائر بين الطلبة، انفصال "بنغلادش" بقيادة "مجيب الرحمن" عن "باكستان"... ظل تعنيفهم القاسي له مؤثراً في ضميره ووجدانه طويلا، وكلما تذكَّر تلك الأيام من سنة إحدى وسبعين وتسعمئة؛ عاد ذلك التعنيفُ يحفرُ في صدره من جديد، معَمِّقًا حالات انعزاله الخاص عن الحوارات الجماعية، وهيمنة سرَحَانِه الشخصي مع أحلام اليقظة على مزاجه...

راح يشعر في طريق عودته بسعادة لقائه زملاءه، على الرَّغم من أنه كان غافلاً أو متغافلاً، عن معظم ما دار بينهم من حوارات قبل قليل... نظر عبر نافذة الحافلة التي تقلُّه إلى حي "ركن الدين" الدمشقي العريق، الذي استمرَّ مقيماً فيه منذ عهد دراسته في قسم "علم الاجتماع" من كلية الآداب، سمح له زجاجها النظيف برؤية صور كثيرة، سرعان ما تركها سارحاً مَعَ صيغة دعوته إلى لقاء قدامى زملاء الدراسة، فظنّ أنه دعي خطأ، لأنّه فهم من قراءته المتسرعة لها، أنها تخص طلبة ثانوية "التجارة" فقط، وعزا سرَّ دعوته إلى رغبة صديقه الخصيص "ملهم" في حضوره، فحضر مشوقاً إلى لقاء زملاء كانوا معه في الصف الأول الثانوي في ثانوية "أبي الفداء"، ثم انتقلوا مع زملائهم في المرحلتين الإعدادية والثانوية، الذين اختاروا اللغة الفرنسية جميعاً، إلى ثانوية "التجارة"، التي تجمع عدداً كبيراً من طلاب الفروع الثانوية: التجارية، والأدبية، والعلمية، وراح يتذكَّر أنه شارك غيْرَ مرة كثيرين منهم نشاطات رياضية وثقافية متنوعة.

[3]

احتفال ذهبي في "قصر البلّور"

حضر "سَرْحَان سعيد" في الوقت المحدد للاحتفال إلى مقهى "قصر البلّور"، فوجد أنَّه لم يكن الوحيد الذي دعي خطأ، وسرعان ما تبين له أن الداعي صديقَه "ملهمًا"، لم يرَ موانع من جمع خريجي المدرستين، وعبَّر المدعوون جميعاً عن تأييدهم ذلك، ماعدا واحداً هو "أنور"، انبرى يفنِّد ما يرى من أسباب توجب منع هذا الجمع، مرَكِّزاً على المسافة المهمة التي تفصل بين الحيين اللذين يحتضناهما...

شردَ ذهنُ "سرحان السعيد" من فوره شُرُودًا سَرَقَهُ من حوارات الزملاء، فراح على جناح متصل بموضوع هذا الاحتفال، يسْتعِيدُ صورَةً لِتَموضُعِ بِنَاءِ ثانَوِيّةِ "أبي الفداء" على ضِفَّةِ نَهرِ "العاصي"، بُعَيْدَ عُبُورِهِ السَّاحِرِ بَيْنَ "الدَّهْشَةِ" - صُغْرَى نَوَاعِيرِهِ -، و"المُحَمَدِيَّةِ" – كبراها -، فَغَفلَ قَلِيلًا عَنْ سَهْرةِ قُدَامَى زُمَلاءِ أيَّامِ الدِّرَاسَةِ، الذين اعْتَاد معظَمُهُمْ منذُ تلك الأيَّامِ البعيدةِ حالاتِ صَمْتِهِ الطويلِ في ملتقياتِهِم المُشْتَرَكَةِ، مُفَسِّرِينَ ابتِسَامَاتِهِ التي تُواكبُ في سِرِّها ما يَتَلاحَقُ من صُوَرِ الطبيعةِ والبَشَرِ، بِأَنَّهَا ابْتِسَامَاتُ تأييدٍ لِمَا يَطْرَحُونَهُ في حِوارَاتِهِم الصَّاخِبَةِ مِنْ مَوَاقِفَ وَأَفْكَار!

خَطَفَتْهُ صورَةُ بنَاءِ تلكَ الثَّانَوِيَّةِ متربِّعًا على الضِّفَّةِ اليسرى لنهر "العاصي"، بُعَيْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَجْمَعِ نَشَاطَاتِهِ المَائِيَّةِ المُمَيَّزَةِ في منْطِقَةِ "باب النهر"، التي تَكْثُرُ أعْدادُ مُرْتَادِيها في فَصْلِ الصَّيْفِ عَادَةً، مُعْجَبِينَ بِشَلَّالِهَا العَالِي المتَدَفِّقِ، الذي ظَلَّ يُدِيرُ رَحَى الطَّاحُونِ القَدِيمَةِ في مراحلَ مديدةٍ منْ ماضِي الزَّمَان، مُطِيلِينَ وُقُوفَهُمْ على الجِسْرِ التَّارِيِخِيِّ المُقَابِلِ، الذي تَتَدَفَّقُ تَحْتَ قناطرِهِ مياهُ مساقِطِ الشَّلَّال، قُبَيْلَ تَنَقُّلَاتِهِمْ في فَضَاءِ المَكَانِ الرَّحِيبِ مُتَنَوِّعِ المُكَوِّنَاتِ والدَّلالات، مَانِحِينَ جُلَّ أَوْقَاتِهِمْ لِمُحٍيطِ "الناعورةِ المحمديةِ" ذاتِ العنِينِ المُرْتَفِعِ المُمَيَّزِ، وَحَوْضِهَا الذي يَسْتَهْوي صِغَارَ السَّبَّاحِينَ وكِبَارَهُمْ، مُتَعَلِّقِينَ بدوْرَةِ تلكَ النَّاعُورَةِ العاليةِ، حتَّى إذا ارْتفَعَتْ بِهِمْ إلى مُسْتَوًى قَرِيبٍ منْ مَجْرَى قَنَاتِهَا الحجريَّةِ العَاليَةِ، التي تَسْكُبُ فيها صَنَادِيقُ الناعورةِ المتَتَالِيَةُ المِيَاهَ التي امْتَلأتْ بها، عندما كانتْ بِحُكْمِ دوراتِهَا مَعَ أمِّهَا الناعُورَةِ، غارِقَةً في أَحْضَانِ مَجْرَى النَّهْرِ المُتَدَفِّقِ، تَقَافَزُوا منْ عَلٍ، بما يسمَّوْنه "النكْسة"، وسَطَ تَشْجِيعِ الذين يَرَوْنَهُمْ بالصَّيْحَاتِ الحَمَاسِيَّةِ، إلى ذلكَ الحَوْضِ، تَقَافُزًا يَكَادُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى مِهْرَجَانٍ شَعْبيٍّ منْ طِرَازٍ خَاصّ، يَمْنَحُ ذَاكِرَةَ مَنْ يُتَابِعُهُ أَشْيَاءَ مِنْ مباهجِ حَيَوِيَّتِهِ، فلا يَنْسَاهَا مَهْمَا دَارَتْ بِهِ الأَيَّامُ بينَ أَمْكِنَتِها وأزمِنَتِهَا!

[4]

اهتمام بالمدرسين في عيد المعلم

يبدو أن استسلامَ "سرحان" لمَوْجَاتِ شُرُودِ التَّفْكِيرِ فِي الجَلَسَاتِ العَامَّةِ، قديم في حياته، وكذلك كثرة إشاراته إلى عاصي حماة، ومنطقة باب النهر ونواعيرها، التي دفعت بعض معارفه إلى تسميته في غيابه: "سرحان باب النهر"، وقد علم بذلك فسرَّه اللقب، وراح يعرِّف نفسه به أحيانًا...

راح هذا الاستسلام يتعمَّق، بعد أن وجد نَفسَهُ مُضطَرًا إلى حُضُورِ اجْتِمَاعَاتٍ كثيرةٍ، منْ حينٍ إلى حِين، منْذُ سنواتٍ بعِيدةٍ، وسرعان ما غدَتْ تلكَ الموْجاتُ تَسْرَحُ وَتَمْرَحُ بِهَيْمَنَتِهَا على النفْسِ، بعدَ أَنْ أَصْبَحَ عُضْوًا في غَيْرِ مَجْلِسٍ منْ المَجَالِسِ العُلْيَا لِرَوَابِطِ عَددٍ مِنَ الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ والاجْتِمَاعِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ...

أخَذَتْ أحادِيْثُ زُمَلاءِ المَاضِي البَعِيدِ عَنْ المُدَرِّسِينَ القُدَامَى مَسَاحَاتٍ وَاسِعَةً مِنْ حِوَارَاتِ مَجْلِسِهم الجديد، فَتَرَحَّمُوا عَلَى مَنْ رَحَلَ مِنْهُمْ، وَتَمَنَوْا مَوْفُورَ الصِّحَّةِ وَالسَّعَادَةِ لِمَنْ مَازَالَ مِنْهُم يَرْفُلُ بِثِيَابِ الصِّحَّةِ والعَافِيَةِ بَيْنَ قَاعَاتِ التَّدْرِيسِ، أو بَيْنَ رَدَهَاتِ التَّقَاعُدِ الوَظِيفِيِّ، وَاقْتَرَحَ الزَمِيلُ عبدُ الوَهَّاب الذي كانَ رئيسَ اللجْنَةِ المَدْرَسِيَّةِ للثَّقَافَةِ والإِعْلَامِ، في ذلكَ المَاضِي البَعِيدِ، تَنْظِيمَ زِيَارَاتٍ لَهُمْ في مَنَازِلِهِمْ، بِمُنَاسَبَةِ عيدِ المُعَلِّمِ في الشَّهْرِ القَادِم.

[5]

كتاب: "النساء ومعايير جمالهن"

رَاقَتْ لزَمِيلِه "سمير الفاخر" حَالةُ إِمْسَاكِهِ زِمَامَ الكَلَامِ، وَلُعْبَةَ إِدَارَتِهِ، فَقَال: "أَقْتَرِحُ عَلى كلِّ زَمِيلٍ مِنْكُم أنْ يُعَرِّفَ بآخر كتاب قرأَهُ"، وَأَشَارَ إِلى "سرحان"، الذي كانَ حِينَئِذٍ في حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ شُرُودِهِ المُعْتَادِ، فَظَنَّ أنَّهُ يَطْلُبُ مِنه الكَلَامَ على آخِرِ كُتُبِهِ القِصَصِيَةِ، أوْ ما يتَّصِلُ من موضُوعَاتِهَا بِمَعَاييرِ جمالِ المَرْأَةِ، فاهْتَبَلَ الفُرْصَةَ، وسَرقَ بعضَ ما كان يَهْجِسُ في خَلَدِ شُرُودِهِ الذِّهْنِي قَبْلَ قَلِيل منْ هواجِسَ عنِ النساء ومعايير جمالهِنَّ، فاسْتَرْسَلَ في الحَدِيثِ عَنْ خطَّته في نشر كتاب عن رؤاه في هذا المضمار، مُسْتَخْلِصًا أَحْكَامَ العَارِفِ الدَّارِي، مُعَدِّلًا جِلْسَتهُ لِتَلِيقَ بِجِلْسَةِ وَاثِقٍ بِنَفْسِهِ، وبِأَحْكَامِهِ، قَائِلًا: "إنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِ المُعَاصِرِينَ في مَعَايِيرِ الجَمَالِ، يُنْبُوعٌ مِنْ يَنَابِيعَ كَثِيرَةٍ، تَتَدَفَّقُ في أَوْدِيَةِ الفُنُونِ وَالآدَابِ في كُلِّ عَصْرٍ ومِصْر، ما دامَتِ الفُنُون في سَعْيِهَا شِبْهِ المَجْنُون إلى الأَجْمَل، تَكْتَشِفُ مَسَارَاتِ خُطُوطِهَا وألْوانِهَا، مُتَأثِّرَةً بِمَكْنونَاتِ أصحَابِهَا وذِكْريَاتِهِم".

 قاطَعَه "سمير" كَعَهْدِ عَادَاتِهِ القَدِيمَةِ في إِدَارَةِ الجَلَسَاتِ الطُّلَّابِيَّةِ، قائِلًا: "قدْ يُوحي هذا الاعْتِرَافُ الهادِئُ بِفَوَائِدِ الاخْتِلَاف، وبِأَنَّ الإنْسَانَ الفَرْدَ لهُ حُقُوقٌ في اجْتِراحِهِ مَعَايِيرَهُ الجَمَالِيَّةَ الخَاصَّةَ، حَتَّى يُصْبِحَ لكُلِّ إنْسَانٍ اجْتِراحُهُ المُمَيَّزُ، غَيْرَ أَنَّ النَّاظِر في المَسْأَلَةِ سَرْعَانَ ما يَكْتَشِفُ أنَّ كلمَةَ "معايير" مُرْتَبِطَةٌ باتِّفَاقِ جَمَاعَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ، وغَيْرُ مُنْسَجِمَةٍ مَعَ اعْتِسَافِ المَرْءِ الطَّرِيقَ بِلَا تَدَبُّرٍ يَفِيدُ مِنْ خِبْرَاتٍ ومِرَانٍ ونَظَر".

تَدَخَّلَ زَمِيلُهما "مَرْوَانُ الأفندي" مُعَلِّقًا، قائِلًا: "اهتَمَّ أصْحَابُ الثقافَاتِ والفُنُونِ منْذُ القَدِيمِ بِالجَمَالِ ومَعَايِيرِهِ، وَنَمَتْ في حُقُولِ اهْتِمَامَاتِهِمْ أسُسٌ توَطَّدَتْ، وتَشَعَّبَتْ، وبَاتَتْ تَطْبَعُ بِحُرُوفِهَا وَطَوَابِعِهَا عناوينَ بُحُوثٍ وَدِرَاسَاتٍ، ويُعْنَى بِإِشَارَاتِهَا ودَلالاتِهَا بَاحِثُونَ وَمُخْتَصُّون، وعلى الرَّغْمِ منْ إِضَافَةِ كلِمَةِ العِلْمِ إلى شَقِيقَتِهَا كلِمَةِ الجَمالِ، ظَلَّتْ حَالاتُ الاخْتلافِ والتَّنوُّعِ في الفِكْرِ الجَمَالِيّ تنْمُو بلا هَوَادَة؛ حَامِلَةً في شِعَابِ حِوارَاتِهَا أَمَاراتِ جُذُورِهَا النَّفْسِيَّةِ والفَلْسَفِيَّةِ والاجْتِمَاعِيَّةِ، وَأَسْرَارَ نَجَاحَاتٍ مُذْهِلَةٍ في كَشْفِهَا الحُجُبَ، عن جَوَاهِرِ الجَمَالِ وقوانِينِهِ وغَايَاتِهِ".

[6]

انسحابات عاجلة من الاحتفال

تَعَالَى صوْلَجَانُ الَحَمَاسَةِ في حِوَارَات "سرْحان" وسمير ومَرْوَان الثُّلاثِيَّةِ، مُتَغافِلِينَ عنْ مغادرةِ الزُّملاءِ الحَاضِرِينَ جلْسَةَ اللقَاءِ بأَعْذَارٍ شَتَّى، وإذْ شَعَرَ المتحاورون الثلاثة أنَّ قاعَةَ المقْهَى التي جمعَتْهُم مع زملائهم بعْدَ طولِ غِيَاب، لمْ يَعُدْ فيها سِوَاهم، ولَمَّا لم يكنْ لهم رَفِيقَاتُ دُرُوبٍ، يَنْسَحِبْنَ انْسِحَابًا هادِئًا، كما فعلت الكثيرات، غيْرَ مُكْتَرِثَاتٍ بِتَشَعُّبِ حوَاراتِهِم الثَّقَافيَّةِ، التي سَرَقتْهُم إلى شِعَابِهَا، لاهِينَ عنْ عوالِمَ يُشَاركُهم ساحاتِهَا، وأَمْكِنَتَهَا، وأَزْمِنَتَهَا، آخرونَ، وقف سمير ومَرْوَان قائلَيْنِ معاً لسرحان بلهجةٍ طافحةٍ بالسخرية والاستعلاء، كأنهما متفقان:
– "نَقْتَرِحُ يا صَدِيقُ، تأجيلَ متابعَةِ حواراتِنَا إلى حين مَيْسَرَة".
– "وَيْحَكُمَا، ما هذا الاقتِراحُ؟ لم تَتَّضِحْ فِكْرَتِي بَعْد".

وسَرْعانَ ما بَدا التوتُّرُ سَيِّدَ المَوْقِفِ، وإذْ بِمُدِيرِ المَقْهَى يذَكِّرُهم بلُطْفٍ شَدِيدٍ أنَّ مَوْعدَ إِغْلَاقِهِ قَدْ حَان، فانْفَضَّ اجتِمَاعُهم وتَفرَّقوا..

[7]

سندباد أحلام اليقظة يتابع الحوار

طلَبَ "سرحان" مِنْ "سِنْدِبَادِ" أحْلَامِ اليقظة المُصْطَنَعَةِ المُتَخَيَّلَةِ، الذي صارَ يَعْطِفُ على حالِهِ منذ سنواتٍ بَعِيدَةٍ صَعْبَةٍ مرَّ بِهَا، أنْ يأْمُرَ صَاحِبَيْهِ مُتَابَعَةَ حِوَارَاتِ السَّهْرَةِ المُتَأَخِّرَةِ، فَأمَرَ وَأَطَاعَاهُ راضِيَيْنِ، قَائِلَيْنِ مَعًا، بِلَهْجَةٍ هَادِئةٍ لَطِيفَةٍ، كَأَنَّهُمَا يَعْتَذِرَانِ لَه عَمَّا بَدَرَ مِنْهُمَا آخرَ السَّهْرَة:
– نعْتَرِفُ بِأَنَّنَا أَسَأْنَا التَّعْبِيرَ عَنِ المُرَادِ، فَثَمَّةَ مَبَاهِجُ تَقْرَعُ أَبْوَابَنَا أَحْيَانًا، لَكِنَّهَا تَجِدُهَا مُوصَدَةً، وإِذْ نَرَى تَجَلِّيهَا بِصُوَرِ مُتَنَوِّعَةٍ، نَذْكُرُهَا حَائِرِينَ في تَفْسِيرِهَا، كما يَحَارُ قُرَّاءُ الرِوَايَاتِ في تفسير أقوال شخصياتها ومواقفهم، ولاسيَّما رواية "الوسادة الخالية" لإحسان عبد القدوس...

– سَأشْرَحُ لَكُمَا بالتَّفْصِيلِ المُمِلّ موقفي من شقيقتها روايته "لا أنام"...

– أَجِّلْ ذلكَ إلى مَيْسَرَةٍ، نرجوك، فَنَحْنُ في مَعْسَرَةٍ، منذُ تَعَرُّضِنَا بَعْدَ انْفِضَاضِ جَلْسَةِ الأمْسِ، إلى تَحْقِيقَيْنِ، وَاسْتِجْوَابَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ في أدَوَاتِهِمَا، في مُحَاوَلَةٍ لانْتِزَاعِ اعْتِرَافِ كلٍّ مِنَّا، باسْمِ الأستاذة الجامعية التي قست عليها عواطف الحب في رواية "الموت حبا" للفرنسي "بيار دوشين"، الذي جَرَتِ الإِشَارَةُ إلَيْه غَيْرَ مَرَّةٍ في حِوَارَاتِ سَهْرَتِنَا مَعًا... لَقَدْ طَلَبْنَا مَنْحَنَا فُرْصَةَ يَوْمَيْنِ، لِنَتَمَكَّنَ خِلالَهُمَا منْ مُقَابَلَتِكَ، وَمَعْرِفَةِ اسْمِهَا...

هَمَسَ سِنْدِبَاد في أُذُنِ "سرحان"، طَالِبًا مِنه اعْتِذَارَه عنِ البَوْحِ بِاسْمِهَا، فَسَارَعَ إلى الاعْتِذَارِ من صديقيه، مُقْسِمًا بِالجَمَالِ وُعُلُومِهِ، أَنَّهُ لا يَعْرِفُ اسْمَهَا، وجُلُّ ما عرَفَهُ عَنْهَا مُخْتَصَرٌ جداً، وَمِنَ الرَّاجِحِ أنّهاَ شخصية وهمية غيرُ ذائعةٍ خارجَ هذه الرواية، والفيلم السينمائي التاجحِ الذي أخرج عنها، وبعض الأُغْنِيَات...

أغْمَضَ "سرحان" عينَيْه بَعْدَ أَنْ خَلَدَ لِسَكِينَةِ غُرْفَتِهِ المُزْدَانَةِ بِأَضْوَاءٍ خافِتَةٍ، وأَشْيَاءَ ملوَّنةٍ بأَلْوَانٍ هادِئَةٍ، تُسَاعِدُ الحَوَاسَ على التَّحَرُّرِ مِنْ تَوَتُّرَاتِ المُجْتَمَعَاتِ الحَدِيثَةِ، غيْرَ أنَّ عَرَبَاتِ غُيُومِ النَّوْمِ التي كانَتْ تَجِدُ في رِحَابِ الغُرْفَةِ مَهْبَطًا لائِقًا، ظَلَّتْ تَحُومُ مُعَانِدَةً، سَارقةً موْكِبَ النَّوْمِ، جَاعِلَةً مِنْهُ مَطْلَبًا صَعْبَ المَنَال.

 لمْ يَعُدْ أَمَامَهُ سوى اخْتِيَارِ حَلٍّ وَسَطٍ بَيْنَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ، وهوَ اخْتِيَارٌ مُنْسَجِمٌ مَعَ مَنْهَجِ الوَسَطِيَّةِ الذي دَحَرَ ولَعَ طفولتِهِ ونشأتِهِ بِتَطَرُّفِ الرؤى، وهيْمَنَ على مسارَاتِ حَيَاتِهِ اللاحِقَةِ. بينَ يَدَيْ هذا الحَلِّ الوَسَطِ، اسْتَسْلَمَ لِأَحْلَامِ اليَقَظَةِ، مُصْطَنِعًا طَاوِلَةً لِلْحِوَارِ، يَشْرَحُ مِنْهَا أَفْكَارَهُ، مُبَيِّنًا كيْفَ يَشْعُرُ المرءُ مِنْ حينٍ إلى حين أنَّ الحديثَ عنِ الجَمَالِ بِلُغَةِ العِلْمِ يَسْرِقُ غيرَ قَليلٍ من مبَاهِجِ الإِحْسَاسِ بِهِ، تلكَ المَبَاهِجُ التي غَمَرَتْ وُجُودَ البَشَرِ عَلى مَدَارِجِ التَّارِيخ، ومَاتَزَالُ مَانِحَةً حَيَواتِهِمْ بَرِيقًا وألقًا يَجْعَلانِ مَعَانِيَهَا أُرْجُوحَةَ فَرَحٍ ثَرِيَّةَ الدَّلالات، تَرْفِدُ أَحْلامَهَا بِالأَلْوَانِ الزاهية والخضرة والنَّضْرَة...

[8]

سرْحان يلخّص ما حدث لصديقه الدمشقي ما حدث

افْتَرَقَ الأصدقاءُ الثلاثةُ –سرحان وسمير ومروان- بناء على أوامر سندباد الأحلام، مُتَغَافِلِينَ عنِ اتفَاقٍ –رُبَّمَا كانَ ضَرُورِيًّا وَمُلِحًّا– على مَوْعِدِ سَهْرَةِ قادِمَةٍ تجمعُهم مرَّة أخرى، مع قُدامى زملاء الدراسة، عَلَّهم يَسْتَعِيدُونَ ذِكْرَيَاتِ أَيَّامِ الثَّانَوِيَّةِ، اسْتِعادَةً لائِقَةً!

زارني "سرحان" هذا الصباح، معبراً عن تعبه، بعد ليلة أمضاها يقظانَ مع أحلام طافحة بالحوارات الصاخبة... استقبلته في موقع عملي الجديد بعد التقاعد الوظيفي، في الباخرة السياحيةِ الكبيرة المركونة غير بعيد عن ساحة "باب توما" في دمشق، قدمت له القهوة مُرَّةً كما يحبُّها، وحاولْتُ أن أسْتدرجَه إلى ساحات الكلام، حتى لا تسرقهُ من زيارتي حالاتُ شرُودِ ذهنِهِ المعهودَة، فانتبه إلى محاولتي، وراح يبالغُ في تمجيدِ الباخرةِ وكاد يقسمُ بأنَّها تشبهُ "عوَّامَة" نجيب محفوظ على نهرِ "النيل"، في روايتِهِ الشَّهِيرَة: "ثرثرة فوق النيل"، بل تُضاهي باخرةَ "التايتانك" روعة، فقلت له:
– من أين لهذه الباخرة ذلك، "يا دلّها منلّها"، "لا بَحْرُ عِندَكَ تُهْدِيهَا، وَلَا نِيلُ"!

[9]

بنات الخيال يحكمن الصاحبين المطيعين

 سرَّتْنِي زِيَارَةُ "سرحان"، وطالما استمْتَعْتُ بما يقُصُّهُ عليَّ من حين إلى حين، منْ قِصَصٍ وأَخْبَارٍ شَائِقَةٍ، أعيدُ ترْتِيبَها في ذاكِرَتِي تَرْتِيبًا يروقني، وقدْ أسَرَّ لي مؤخَّرًا، أنَّ مُعظَمَ ما كان يسرِدُهُ لي منْ قِصَصٍ وأَخْبارٍ، ولاسِيَّما ما يتَّصِلُ مِنْها بِوَادي "حَماةَ" وعاصِيهَا، مِنْ بناتِ خيالِهِ، وقال لي:
- "يروقُ لي من حينٍ إلى حين أن أمنحَ بناتِ خيالي الحُريَّةَ، علَّهُنَّ يجِدْنَ في القِصَصِ، وأخبارِ النَّاسِ والبلدانِ، سعادةً حَرَمَتْهُنَّ الحياةُ منْهَا".
– "وأنا مثلُك، فكُلُّ ما بُحْتُ لك بِهِ، منْ قِصَصٍ وأخبارٍ، ولاسيَّما أخبار تعاوُنِي مع أَصْدِقَاءَ كُثْرٍ، لتأسِيسِ مَحَطَّةِ تلفازٍ فَضَائِيَّةٍ ثَقَافِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، هي مِنْ بَنَاتِ خَيَالِي الناعِمَاتِ بحريَّةٍ وسَعَادةٍ".

[10]

حقوق البنات وحقوق الإنسان

بَعْدَ كلِّ لقاءٍ بيْنَنَا، كانَ كلٌّ مِنَّا يَمْضِي إلى غايتِهِ، تارِكًا صاحبَهُ يَسْرَحُ مَعَ بناتِ خيالِهِ ويمرح، ومن الراجح أن صداقتَنَا منذ بدايةِ مشوارِهَا الطويل، قد تأسَّسَتْ على جِسْرٍ منِ اعتِرِافِ كلٍّ منّا بحقوق الإنسان في تسريحِ بنَات خيالِهِ كما يَحْلو لَهُ ولهنّ.   

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها